إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

غوام.. أسرار “حرب الغابات” ضد الصين


  • 14 أغسطس 2024

شارك الموضوع

بعيدًا عن الأنظار، وفي جنح الليل، وفي ظل بيئة شديدة التعقيد من الغابات والأشجار الضخمة، ودرجات الحرارة العالية، والرطوبة المرتفعة، والحيوانات المفترسة، تعمل وحدات أمريكية (السرب 736)، في “جزيرة غوام” في قلب المحيط الهادئ؛ من أجل “محاكاة عملية” لحرب ضد الصين. ومع أن الولايات المتحدة لديها قواعد عسكرية في بيئة مشابهة لجزيرة غوام، مثل القواعد الأمريكية في الفلبين، وفيتنام، وأستراليا، واليابان، فإن القيادة العسكرية الأمريكية ترى في جزيرة غوام مسرحًا عسكريًّا “مثاليًّا” لمدى التحديات التي يمكن أن يواجهها الجنود الأمريكيون الذين ينتشرون قرب المياه والبر الصيني، حيث يتدرب هؤلاء الجنود على أشد الظروف تعقيدًا، وأكثرها صعوبة، ويعتمد التدريب على ما يسمى “بحرب الغابات”، القائمة على كيفية البقاء على قيد الحياة والهروب من أي مطاردة من “العدو”، والابتكار في تقديم خدمات عسكرية.

ويتدرب “السرب 736″، الذي ينتمي إلى القوات الجوية، على سيناريوهات للمساعدة في “حرب شاملة”، تشمل السفن، والمدمرات البحرية، وحاملات الطائرات، خاصة التي ترسو في “غوام”، وتكون ضمن الرحلات التي يطلق عليها “حرية الملاحة” التي تمر في بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، وهدف هذه المجموعات هو محاكاة العمل كوحدة مراقبة مشتركة، أو وحدة استهداف متعددة المجالات، وتستطيع تلك المجموعات القتالية الخاصة بعد الانتهاء من هذا التدريب المساعدة على تشغيل الطائرات المسيرة وتوجيهها، ودعم عمل زملائهم في الاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع.

هذا كله يكشف “الدور المحوري” الذي يمكن أن تضطلع به جزيرة غوام، التي حصلت عليها الولايات المتحدة بعد هزيمة إسبانيا في الحرب الأمريكية الإسبانية عام 1898، وباتت الجزيرة تشكل اليوم “رأس الحربة” و”حائط الصد الأول”، ليس فقط للدفاع عن الأراضي والجزر الأمريكية في المحيط الهادئ؛ بل تستقي “غوام” مكانتها “الجيوسياسية المهمة” من الدور الذي يمكن أن تضطلع به الجزيرة في الدفاع عن حلفاء واشنطن في منطقة “الإندو- باسيفيك” بالكامل، حيث تكشف المحاكاة الجديدة التي بدأت في شهر أغسطس (آب) الجاري مدى “الاعتمادية” لشركاء الولايات المتحدة في شرق آسيا وجنوب شرقها، وغرب المحيط الهادئ، على دور القوات الأمريكية في جزيرة غوام، وهي آخر “بقعة أمريكية يابسة” غرب الأراضي الأمريكية. كما يتفاءل القادة العسكريون الأمريكيون بجزيرة غوام التي احتلها اليابانيون بعد قصف طوكيو ميناء بيرل هاربر عام 1941، حيث سيطر اليابانيون على الجزيرة في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1941، لكن القوات الأمريكية لم تكتفِ بتحريريها عام 1944؛ بل حولتها إلى قاعدة لتنسيق الأهداف والضربات ضد القوات اليابانية، حتى استسلمت اليابان عام 1945، فما جزيرة غوام؟ وما الإستراتيجية الأمريكية للدفاع عن الجزيرة؟ وكيف حولت واشنطن الجزيرة إلى “قلعة عسكرية” عبر سلسلة من القواعد البحرية والجوية التي تستضيف أحدث النماذج من الأسلحة والمعدات الأمريكية؟

قاعدة أمامية

عند الحديث عن أي حرب مستقبلية بين الصين والولايات المتحدة، لا بد من الحديث عن جزيرة غوام، التي لها “مكان ومكانة خاصة” في العقل الإستراتيجي الأمريكي، سواء في الهجوم أو الدفاع، وتنظر “المدرسة الحديثة في الفكر العسكري الأمريكي” إلى جزيرة غوام باعتبارها تتمتع “بمكانة فريدة” أكثر من كل القواعد الأمريكية في شرق آسيا وجنوب شرقها، وغرب المحيط الهادئ، وتقوم هذه” المكانة الإستراتيجية الخاصة لجزيرة غوام على عدد من الاعتبارات، منها:

أولًا: قيمة إستراتيجية مضافة

تكمن “القيمة الإستراتيجية المضافة” لقاعدة غوام في أنها توفر نحو 541 كم، هي مساحة الجزيرة في وسط المحيط الهادئ، للجيش والأسطول العسكري الأمريكي لتنطلق منه “القاذفات الإستراتيجية”، وخاصة قاذفات “بي 52″، التي تستطيع التحليق أكثر من 6000 ميل، دون التزود بالوقود، وهو ما يعني أنها تستطيع أن تصل إلى الأرضي الصينية حال انطلاقها من جزيرة “غوام”، وتحتاج إلى هذه القاذفات من أجل التحليق 1500 ميل فقط من جزيرة غوام لنجدة تايوان في حال اندلاع حرب بين الصين وتايوان، وإذا تطورت الحرب واحتاجت واشنطن إلى قصف الأراضي الصينية نفسها، فجزيرة غوام هي المنصة المناسبة لإطلاق الصواريخ والقاذفات الإستراتيجية، حيث يبعد البر الصيني 1800 ميل فقط عن الجزيرة، وهو ما يسمح لواشنطن باستخدام القاذفات الإستراتيجية، وكذلك الطائرات من الجيل الخامس المتعددة المهام، مثل الطائرة “إف 35″، التي تستطيع الوصول إلى تايوان بعد التزود بالوقود مرة واحدة بعد الانطلاق من غوام.

ثانيًا: حائط صد دفاعي

لا تقل المكانة الإستراتيجية لجزيرة غوام في “الدفاع” عن أهميتها في الهجوم على الصين، أو حتى كوريا الشمالية، خاصة في ظل التطور الرهيب للصواريخ الصينية العابرة للقارات، وصواريخ “فرط الصوت” التي تستطيع أن تطلقها بيكين على جزيرة غوام، وكل شبر من الأراضي الأمريكية؛ لهذا نشرت واشنطن جميع أنظمة الدفاع الجوي البعيدة والمتوسطة المدى في الجزيرة لاعتراض أي صواريخ تطلقها الصين، سواء من البر الصيني، أو من الغواصات الصينية التي باتت تتمتع بهدوء الصوت والصمت، وهو تحدٍّ جديد وخطير للجيش والبحرية الأمريكية في المحيط الهادئ بعد امتلاك البحرية الصينية ثلاث حاملات طائرات، هي: لياولينج التي دخلت الخدمة عام 2012، وشاندونج التي بدأت العمل منذ 2017، وأخيرًا فوجيان التي يقال إنها تشبه حاملة الطائرات دوايت أيزنهاور، وبدأت رحلتها الأولى منذ الأول من مايو (أيار) هذا العام؛ ولهذا نشرت الولايات المتحدة الأمريكية منظومة الدفاع الجوي البعيدة المدى “ثاد” في الجزيرة التي تستضيف أيضًا عددًا كبيرًا من منظومة دفاع “باتريوت” المتوسطة المدى.

ثالثًا: قواعد عملاقة

لا يسكن جزيرة غوام سوى 181 ألف شخص، لكنها تستضيف في الوقت نفسه قواعد عسكرية جوية وبحرية عملاقة، منها “قاعدة إبرا البحرية”، وهي قاعدة عملاقة بحق؛ إذ تستضيف كل القطع البحرية الأمريكية التي في طريقها من الساحل الغربي الأمريكي في اتجاه “غرب المحيط الهادئ”، وتزود جزيرة غوام وقاعدة “إبرا البحرية” كل حاملات الطائرات الأمريكية التي تتجه من شرق المحيط الهادئ في اتجاه الغرب، سواء في اتجاه كوريا الشمالية واليابان، أو تلك التي تتجه ناحية أستراليا والفلبين وفيتنام، وهنا يأتي دور الجزيرة في دعم نحو 50 ألف جندي أمريكي في اليابان، و30 ألف جندي أمريكي في كوريا الجنوبية، والقوات الأمريكية التي تنتشر في 9 قواعد عسكرية في الفلبين، فضلًا عن الجنود الأمريكيين الذين ينتشرون في أستراليا.

وتستضيف أيضًا جزيرة غوام قاعدة “أندرسون الجوية الشاسعة”، التي تصل مساحتها إلى نحو 19 ألف فدان، وتضم أفضل ما وصلت إليه الولايات المتحدة في المجال الجوي العسكري، حيث تستضيف القاعدة “قاذفات بي 52″، وطائرات “إف 15 و16 و22 و35″، وهو ما يجعلها من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية؛ لأنها تستضيف نحو 200 طائرة عسكرية، وتضم أيضًا ميناء به 4 غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية، وسفينتان لدعم الغواصات وتزويدها بالإمدادات.

ثالثًا: غوام مثل كاليفورنيا

في السابق، كانت الولايات المتحدة لا تخشى على جزيرة غوام من المنافسين الآسيويين، لكن بعد تطور الصواريخ الصينية والكورية الشمالية، باتت واشنطن قلقة على الجزيرة التي تبعد نحو 3450 كم عن كوريا الشمالية من الصواريخ والقاذفات الصينية. ويعتقد القادة العسكريون أن جزيرة غوام لا تقل أهمية عن ساحل ولاية كاليفورنيا، فسكانها أمريكيون، لكن لا يحق لهم التصويت في الانتخابات، كما أن “نائب غوام” في مجلس النواب لا يحق له التصويت على القرارات، لكن في ظل التطورات الجديدة، وقدرة الصواريخ الصينية ذات الرؤوس التقليدية والنووية على الوصول إلى كل شبر من الأراضي الأمريكية، باتت الإستراتيجية الأمريكية الجديدة هي “الدفاع عن غوام”، باعتباره الخطوة الأهم في الدفاع عن البر الأمريكي؛ لأن سقوط غوام- كما هدد الزعيم الكوري الشمالي عام 2017- من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة تتراجع للدفاع عن سيادتها من داخل الأراضي الأمريكية نفسها.

رابعًا: مركز للدعم اللوجستي

تنظر الولايات المتحدة إلى جزيرة غوام على أنها نموذج “للدفاع الشامل”؛ لأن بها قواعد وقوات وأسلحة لجميع فروع الجيش الأمريكي؛ ولهذا يعتقد كثير من مخططي الإستراتيجية الأمريكية أن جزيرة غوام هي “العقل الجيوسياسي”، و”محور الربط” الذي يمكن أن ينقل كل أشكال الدعم اللوجستي من أرض الوطن إلى الجنود الأمريكيين في ساحة الحرب في شرق آسيا وجنوب شرقها؛ ولهذا تحولت غوام إلى قاعدة عسكرية ليس فقط لتدريب 7000 من القوات الموجودة على أرضيها؛ بل يُنقَل آلاف الجنود للتدريب على الجزيرة، وبعد ذلك يُنقَلون إلى القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان، وأستراليا، والفلبين.

خامسًا: محور عمل التحالفات الجديدة

زادت الأهمية العسكرية والجيوسياسية لجزيرة غوام بعد تأسيس التحالفات العسكرية الأمريكية مع حلفائها الآسيويين وتفعيلها، ومن هذه التحالفات “تحالف أوكوس” الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من أستراليا والمملكة المتحدة، ومنذ تشكيل هذا التحالف في 15 سبتمبر (أيلول) عام 2021، أصبحت جزيرة غوام محور العمل بين هذه القوى الثلاث في المحيط الهادئ، ثم تفعيل “تحالف كواد الرباعي”، الذي يضم الهند واليابان مع الولايات المتحدة وأستراليا، وتصاعدت القيمة الاستطلاعية والاستخباراتية لجزيرة غوام مع تفعيل مسارات العمل في تحالف “العيون الخمس” الاستخباراتي، الذي يضم الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وبريطانيا، ونيوزيلندا، حيث تقدم التكنولوجيا المتقدمة جدًّ ” صورًا جوية وبحرية” لتحركات السفن وحاملات الطائرات الصينية في غرب المحيط الهادئ.

المؤكد أن كل هذه “القيم الإستراتيجية” لجزيرة غوام سوف تعزّز دورها ومكانتها في الفترة المقبلة في ظل “عدم اليقين” في العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين من جانب، وروسيا والصين وكوريا الشمالية من جانب آخر، فالحشد العسكري الأمريكي بالقرب من الأراضي الصينية، وتجهيز جزيرة غوام بكل هذه الأسلحة الفتاكة، يقولان- بوضوح- إن الولايات المتحدة تراهن في حل الصراعات في آسيا على “القوة العسكرية”، وربما هذا ما يراه البعض في نشر مزيد من القواعد العسكرية الأمريكية في المحيط الهادئ، وتحويل جزيرة غوام إلى “منصة” رئيسة للقيادة المتقدمة التي تبعد عن البر الأمريكي نحو 3000 كم.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع