
يصادف الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2025 الذكرى السنوية الأولى لإزاحة الرئيس بشار الأسد، الذي كان دكتاتورًا من عام 2000 حتى 2024، بعد أن تولى السلطة في عملية انتقال وراثي للسلطة بعد وفاة والده، حافظ الأسد، الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 1973. وقد كانت تلك هي النهاية الرمزية والنهائية لحكومة حكمت بسلطة مطلقة أكثر من خمسة عقود، مخلفة وراءها دمارًا واسعًا، وقمْعًا سياسيًا، ومجتمعًا مُتصدعًا.
في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، شهدت سوريا نقطة تحول تاريخية بعد هجوم منسق شنته فصائل المعارضة التي تعمل تحت مظلة تحالف من المتمردين المسلحين تتخذ من إدلب مقرًا لها.
بعد اثني عشر شهرًا، تقف سوريا على مفترق طرق إعادة الإعمار، وإعادة التموضع السياسي، والتحول الاجتماعي والاقتصادي المعقد. وبينما تظل تحديات البلاد كبيرة، أعاد تأثير تغيير النظام بالفعل تشكيل مسار الأمة.
مع بداية عام 2025، تولى أحمد الشرع قيادة المرحلة الانتقالية بصلاحيات تنفيذية واسعة. بدأت ولايته بإعلان دستوري جديد يمدد الفترة الانتقالية إلى خمس سنوات، وإلغاء دستور 2012، وحل حزب البعث، وموجة من التعديلات السياسية والإدارية والأمنية. وعلى الرغم من ترحيب الكثيرين به، فإن تركيز السلطة أثار مخاوف بين الجماعات السياسية التي كانت تخشى تكرار الأنماط السلطوية القديمة.
كانت المعارضة السورية لنظام الأسد متنوعة، حيث كان بعضها قائمًا على مُثُل إسلامية، وبعضها الآخر يسعى إلى سوريا علمانية وديمقراطية. وفي حين أن إدارة الشرع تميل إلى التوجه الإسلامي، فإن الرأي العام يدعو إلى التحلي بالصبر، ورؤية ما يمكن أن تقدمه الحكومة الجديدة لصالح الشعب.
لا تزال القيادة الانتقالية الجديدة تواجه تدقيقًا كبيرًا في الداخل والخارج، ويرجع ذلك -إلى حد كبير- إلى الانتماءات السابقة لشخصيات معينة، ومنهم الرئيس أحمد الشرع (الذي كان يُعرف سابقًا باسم أبي محمد الجولاني). ونتيجة لذلك، يظل الاعتراف الدولي الرسمي مسألة حساسة ومثيرة للجدل، تتشكل من خلال توازن بين البراغماتية والتردد.
علقت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات الرئيسة أو رفعتها تدريجيًا، ومنها تلك التي تستهدف الشرع. ووفقًا لتقارير متداولة، ناقشت كندا إمكانية إعادة تقييم تصنيف كيانات معينة. ومع ذلك، تظل المسألة قيد المراجعة الرسمية.
أعادت واشنطن والعواصم الأوروبية فتح القنوات الدبلوماسية، وبلغ ذلك ذروته باجتماع الشرع مع الرئيس دونالد ترمب. وقد أسهمت الوساطة السعودية التركية في التعليق الجزئي لـ”قانون قيصر”، وهو عقوبة أمريكية على ممارسة الأعمال التجارية في سوريا، ومنع الاستثمارات الأجنبية وإعادة إعمار سوريا.
على الرغم من التقدم الدبلوماسي، تظل التحديات السياسية داخل البلاد كبيرة، مثل:
* تصاعد التوترات في المنطقة الساحلية ذات الأغلبية العلوية، ومحافظة السويداء الجنوبية.
* العلاقة التي لم تنقطع مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي لا تزال تحافظ على سيطرتها على أصول النفط والحبوب الرئيسة.
* الحوادث الأمنية المحلية والتنافس بين الجماعات المسلحة.
* غياب هياكل موحدة للحوكمة العسكرية والمالية.
تواجه الحكومة الانتقالية مهمة دقيقة تتمثل في تحقيق الاستقرار في بلد منقسم منذ فترة طويلة بسبب الحرب ومراكز السلطة المتنافسة. قبل سقوط الأسد، كانت محافظة إدلب هي الإقليم الوحيد الذي يسيطر عليه المتمردون، وكان الجزء الشمالي الشرقي الكبير من سوريا تحت سيطرة إدارة كردية نصبت نفسها بنفسها مدعومة بالوجود العسكري الأمريكي. منذ رحيل الأسد، عادت إدلب تحت سيطرة حكومة دمشق، لكن المنطقة الكردية الكبيرة، الخاضعة لسيطرة ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لم تُكمل بعد عملية اندماج متفق عليها مع دمشق.
لقد تركت سنوات الحرب الاقتصاد السوري في حالة خراب. ومع ذلك، أحدثت فترة ما بعد الأسد تحولات قابلة للقياس. ويعزو الاقتصاديون استقرار العملة إلى ضوابط نقدية أكثر صرامة، ووقف تمويل العجز.
الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية
أعلن وزير المالية محمد ياسر برنية عدة خطوات رئيسة، مثل:
* زيادة في الرواتب بنسبة 200% في المرحلة الأولى من خطة إصلاح الأجور.
* تحول إستراتيجي عن تمويل البنك المركزي للعجز المالي.
* تحسن كبير في إيرادات الجمارك والضرائب بسبب إجراءات مكافحة الفساد.
* تخفيض مؤقت في الاستثمار العام لتجنب الاقتراض المحلي.
تخطط الحكومة لمرحلتين إضافيتين، مثل زيادات في الأجور خاصة بقطاعات محددة تستهدف القضاء، والتعليم، والرعاية الصحية، والأمن، والدفاع، وإصلاح شامل لنظام الخدمة المدنية، واستبدال هياكل أجور مرنة قائمة على القطاعات بقانون التوظيف الموحد.
حقائق اقتصادية: دولة على أجهزة الإنعاش
على الرغم من التقدم المتواضع، يظل 90% من السوريين تحت خط الفقر، مع حاجة 16.7 مليون شخص إلى مساعدة إنسانية. يقدر البنك الدولي تكاليف إعادة الإعمار بما يتراوح من 216 إلى 400 مليار دولار. وقد تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 50- 65% منذ عام 2010. ومن المتوقع أن يبلغ النمو الاقتصادي لعام 2025، 1% فقط. حذرت صحيفة “الواشنطن بوست” من أن القيادة الجديدة يجب أن تعالج -عاجلًا- أزمة الطاقة، حيث تعاني أجزاء كبيرة من البلاد انقطاعات متناوبة للتيار الكهربائي، ومع ذلك فقد تحسن توفير الكهرباء في كثير من المناطق، ولكنه لم يصل إلى الخدمة الكاملة. ستتطلب المشروعات التجارية وإعادة الإعمار توفير مزيد من الكهرباء.
تحسن الخدمات العامة
في حين يظل الاقتصاد مُجهدًا، أفاد السوريون باختفاء طوابير الخبز والوقود الطويلة، وتوافر أفضل للسلع الأساسية، وتحسن كبير في جودة الخبز والغاز، ومؤشرات مبكرة على تعافي السوق تدريجيًا. ومع ذلك، فإن التضخم والأجور المنخفضة تبقي مستويات المعيشة الأساسية تحت ضغط كبير.
أمة تبحث عن التماسك
يلاحظ علماء الاجتماع أن أكبر تحدٍ مجتمعي هو إعادة بناء الثقة الاجتماعية بعد سنوات من التلاعب الطائفي والصدمات الجماعية. لا تزال الأقليات -وخاصة الطائفة العلوية- تتنقل في حالة من الصدمة النفسية في أعقاب انهيار النظام. في مارس (آذار) 2025، عانت الطائفة العلوية في الساحل هجمات شنتها مجموعات مسلحة لم تكن تعمل بأوامر رسمية، ولجأ المئات إلى القاعدة الجوية الروسية بالقرب من اللاذقية، وتلقوا المساعدة الإنسانية والأمن.
أكد وزير الصحة بالإنابة، ماهر الشرع، علنًا أن القطاع الصحي “دُمر بالكامل تقريبًا”. هذا الاعتراف فتح الباب أمام تدخل دولي منسق. بدعم من منظمة الصحة العالمية (WHO)، واليونيسف، والمنظمات غير الحكومية الدولية، بدأ تأهيل عشرات من مراكز الرعاية الصحية الأولية، وحصلت المستشفيات على أنظمة طاقة شمسية للتعويض عن أزمة الكهرباء، ووُضعت خطط لرفع رواتب الأطباء بنسبة تصل إلى 400% لوقف نزيف الأدمغة، وأُطلقت مبادرات لجذب عودة المهنيين الطبيين في الخارج.
لقد حقق العام الأول لسوريا بعد الأسد تقدمًا حقيقيًا واجتاز عقبات صعبة؛ فقد أوقفت البلاد عمليات القتل الواسعة النطاق التي كانت الدولة تقودها، وأعادت التواصل مع المجتمع العالمي، وحققت استقرارًا لعملتها لأول مرة منذ سنوات، وبدأت إصلاحات تأسيسية في الحوكمة والإدارة العامة، وبدأت تفكيك الآلة الأيديولوجية للنظام السابق.
لأول مرة منذ أكثر من عقد، يشعر كثير من السوريين أنهم استعادوا إحساسًا بالوطن والانتماء، وهو شعور فُقد وسط سنوات من الوحشية، والنزوح، والخوف.
سوريا لم تُشفَ بعد، ولم تستقر بعد، ولم تُعد البناء بعد، لكنها تغيرت بعمق، وعلى نحو حاسم، ولا رجعة فيه. ستحدد السنوات المقبلة ما إذا كان يمكن ترسيخ التقدم الهش للبلاد في دولة مستدامة، أو ما إذا كانت الانقسامات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي لم تُحل ستعوق الولادة الجديدة التي طال انتظارها لأمة عانت ما يفوق الوصف.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير