بالنظر إلى “الفيل”، فهو حيوان بطيء، ولكن حجمه وحضوره لا يُمكن تجاهلهما، ومِن هذه الرمزية يُمكن أن تكون سياسة الهند الخارجية تجاه إفريقيا هي “سياسة الفيل”، فهي بالرغم مِن بطء نموها فإنها حاضرة، ولا يمكن تجاهلها، حيث يعود تاريخ الاتصال بين الهند وإفريقيا إلى العصور القديمة، عندما كان التجار الهنود يتاجرون على نطاق عريض مِن سواحل المحيط الهندي حتى سواحل إفريقيا. وساعدت فترة التوسع الاستعماري الأوروبي، التي شملت دمج شبه القارة الهندية ومساحات واسعة من إفريقيا في الإمبراطورية البريطانية، في إنشاء وسائل اتصال مباشرة بين الطرفين.
في وقت استقلال الهند عام 1947، لم يكن هناك سوى أربع دول ذات سيادة في إفريقيا، وهي: مصر، إثيوبيا، وليبيريا، وجنوب إفريقيا، لتنخرط نيودلهي مع بلدان القارة السمراء في حراكها ضد الاستعمار والحصول على استقلالها، ثم خلال الحرب الباردة، أدى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس الغاني كوامي نكروما، دورًا حاسمًا في تشكيل حركة عدم الانحياز، التي تم الترويج لها من خلال أفكار رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، لتُبنى العلاقات الهندية الإفريقية على ركائز أساسية؛ هي معارضة الاستعمار، ومعارضة التمييز العنصري، وعدم الانخراط في الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
عام 1991، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي والكُتلة الشيوعية، حررت الهند اقتصادها مدفوعة بعوامل سياسية، واقتصادية، وتكنولوجية. وكان لتبني السياسات الاقتصادية الليبرالية تأثير كبير في سياسة الهند الخارجية، حيث أصبحت أكثر نشاطًا وتنوعًا، وتعتمد نهجًا واقعيًّا غير أيديولوجي، وأصبح التقارب الهندي- الإفريقي قائمًا على القضايا الاقتصادية الناجمة عن تحديات التنمية المشتركة، والرؤية الخاصة بنظام اقتصادي دولي جديد.
تعمق التعاون بين الهند وإفريقيا، خاصة مع ظهور الهند كلاعب أكبر في الاقتصاد العالمي، والثقل النسبي لاقتصادها على الساحة الاقتصادية والجيوسياسية العالمية. وكان هذا التعاون واضحًا في مؤتمرات قمة المنتدى الهندي الإفريقي، التي قدمت فيها الهند قروضًا ومنحًا، ومساعدات إنمائية كبيرة؛ لتكثيف المشاركة مع البلدان الإفريقية.
اتخذت الهند في سياستها تجاه إفريقيا مِن منظور أن هُناك مُنافسًا آسيويًّا آخر لها في القارة، وهو الصين؛ لذا بدأت نيودلهي بتقديم عطاءات للحصول على مشروعات مهمة للموارد والبنية التحتية، وأطلقت خطوطًا جديدة للائتمان وخفض الرسوم الجمركية، ووسعت شبكتها الدبلوماسية، وزادت مصالحها الأمنية في القارة. ولقد عبر رئيس الوزراء الهندي الأسبق مانموهان سينغ في بيانه الافتتاحي في قمة المنتدى الهندي الإفريقي الأول في نيودلهي في أبريل/ نيسان 2008: “إن إفريقيا هي قارتنا الأم. ربما تكون ديناميكيات الجيولوجيا هي التي أدت إلى تباعد أراضينا، لكن التاريخ والثقافة وعمليات التنمية ما بعد الاستعمارية جمعتنا معًا مرة أخرى. وإن المحركين الرئيسين للعلاقات الحديثة بين الهند وإفريقيا هما التجارة والاستثمار”.[1]
ويعمل المنتدى الهندي الإفريقي على تعزيز العلاقات الثنائية في إطار سياسي له ثلاثة مستويات: القاري (الاتحاد الإفريقي)، والإقليمي (المجموعات الاقتصادية الإقليمية)، والثنائي (البلدان الفردية). وقد انعقد المنتدى في نيودلهي في أبريل/ نيسان 2008، عندما اعتُمِد إعلان نيودلهي وإطار التعاون، وأصبح الإطار بمنزلة مخطط يعكس ويوجه جهود الهند لتعزيز العلاقات التجارية مع القارة. وخصصت الهند ما يقرب من (12) مليار دولار للمشاركة الاقتصادية لبناء القدرات، وتنمية الموارد البشرية الإفريقية.[2]
وانعقد المنتدى الهندي الإفريقي في إثيوبيا، مايو/ أيار 2011، عندما أعلنت الهند دعمها لتطوير خط سكة حديد جديد بين إثيوبيا وجيبوتي من خلال تقديم (300) مليون دولار، ورصد (5.4) مليار دولار لخطوط الائتمان، و(700) مليون دولار للمؤسسات وبرامج التدريب. كما قدم بنك التصدير والاستيراد الهندي (بنك إكسيم)، المملوك للقطاع العام، (10) ملايين دولار إلى بنك التنمية لغرب إفريقيا، و(250) مليون دولار إلى بنك الإيكواس للاستثمار والتنمية، و(30) مليون دولار إلى بنك التصدير والاستيراد الإفريقي، و(25) مليون دولار إلى بنك التجارة والتنمية الجنوب إفريقي و(8) ملايين دولار لحكومة سيشيل.[3]
وتم تشكيل مجلس الأعمال الهندي الإفريقي في آذار/ مارس 2012، برئاسة سونيل بهارتي ميتال، رئيس مجموعة بهارتي، والحاج أليكو دانجوت، الرئيس والمدير التنفيذي لمجموعة دانجوت. وباعتباره آلية لتعزيز العلاقات الاقتصادية، فإن المجلس مكلف بالنظر في القضايا الاقتصادية والتجارية التي تؤثر في القطاعات الأساسية.
ونتيجة لهذه الجهود، شهدت التجارة بين الهند وإفريقيا نموًا حادًا، وقد بلغت التجارة مع البلدان الإفريقية (75) مليار دولار عام 2015.[4] كما وسعت نيودلهي نطاق نظام تفضيلي للتعريفات الجمركية المعفاة من الرسوم ليشمل (50) دولة من أقل البلدان نموًا، ومنها (34) دولة في إفريقيا؛ في محاولة لزيادة التدفقات التجارية بين الهند وإفريقيا.
كما ظلت الهند وإفريقيا منخرطتين انخراطًا وثيقًا في السياسة التجارية، مع التنسيق الوثيق بشأن قضايا الدعم الزراعي والتسعير. وتنسق الهند والدول الإفريقية بعضها مع بعض في منظمة التجارة العالمية للتفاوض وتبادل المعلومات بشأن القضايا المشتركة ذات الاهتمام المشترك. ومن خلال المشاركة في المنصات المشتركة داخل منظمة التجارة العالمية، مثل مجموعة العشرين التي تعمدت نيودلهي إشراك الاتحاد الإفريقي بها خلال القمة الأخيرة على أراضيها.
وتشهد تجارة الهند مع إفريقيا ارتفاعًا سريعًا في كثير من القطاعات، وذلك بسبب معدلات نمو اقتصادي هندي عالية جدًا، وتنافست التكتلات الهندية مع الصين واليابان وكوريا الجنوبية على الموارد الإفريقية، مثل المعادن، والفلزات، والأحجار الكريمة، والسبائك، والمواد الكيميائية، في حين صدرت الآلات، والسلع المصنعة، والإلكترونيات، واللوازم الطبية.
ويشكل النفط الخام والمنتجات النفطية القادمة من إفريقيا ثلثي واردات الهند من إفريقيا. وقد أدى ارتفاع أسعار النفط، الذي يشكل نصف التجارة الثنائية من حيث القيمة، إلى تحويل التوازن بين الواردات والصادرات لصالح إفريقيا. ومع ذلك، فإن انخفاض قيمة الواردات من إفريقيا، وارتفاع قيمة الصادرات إليها، أدى إلى تضييق الفجوة التجارية. ومن الممكن أن يؤدي انخفاض أسعار النفط العالمية إلى تقليص الفجوة التجارية بين الطرفين.
عام 2014، حققت إفريقيا فائضًا تجاريًّا قدره (5.4) مليار دولار مع الهند، وكان ذلك الفائض ناتجًا بالكامل تقريبًا عن صادرات السلع الأولية (كانت صادرات نيجيريا من النفط غير المكرر مساهمًا رئيسًا).[5] وبما أن طاقة التكرير في إفريقيا لا تزال محدودة، فإن الشركات الهندية حريصة على الاستفادة من إفريقيا كسوق لتصدير المنتجات النفطية المكررة، وقد بدأت بالفعل استكشاف الفرص في بعض الأسواق الرئيسة في القارة (مثل كينيا وموريشيوس) كقواعد للتصدير إلى أماكن أخرى في إفريقيا.
وتتمثل الواردات الهندية الرئيسة لإفريقيا في السلع المصنعة ذات العمالة الكثيفة، وخاصة المنسوجات والملابس، بالإضافة إلى الزيوت المعدنية المكررة، والمركبات ومكوناتها، والمنتجات الصيدلانية، والحبوب، والإلكترونيات. وشهدت نيودلهي زيادة أقل بكثير في الصادرات إلى إفريقيا مقارنة بالواردات منها، وشكلت قطاعات التكنولوجيا القائمة على الموارد (والمنخفضة التكلفة في كثير من الأحيان) هذه الزيادة.
تُظهر إحصاءات التجارة لعام 2012 المناطق ذات الأهمية التجارية للهند، بترتيب تنازلي، مثل غرب إفريقيا، والجنوب الإفريقي، وشمال إفريقيا، وشرق إفريقيا، ووسط إفريقيا. ويعكس هذا النمط الثروات المعدنية التي تتمتع بها إفريقيا، فضلًا عن عمق وحجم الأسواق التي تتاجر معها الهند (يمثل النفط 84.6% من إجمالي الواردات من غرب إفريقيا، على سبيل المثال).
وأهم الشركاء التجاريين للهند هم نيجيريا وجنوب إفريقيا، تليهما أنجولا (بالنفط والألماس)، ثم مصر وتنزانيا. وتمثل هذه الدول الخمس (67%) من إجمالي التجارة الهندية مع إفريقيا. وإلى جانب المواد الخام، أصبح الذهب من الواردات الرئيسة للهند. أما الغاز الطبيعي، والأسمدة، والمواد الكيميائية، فمن المرجح أن تظل شمال إفريقيا مهمة حتى تتطور صناعات الغاز الطبيعي الواعدة في شرق إفريقيا وجنوبها. أما فيما يتعلق بحجم السوق، فستظل جنوب إفريقيا ذات أهمية حاسمة بوصفها شريكًا تجاريًّا غير نفطي.
تعد الزراعة ركيزة أساسية للتجارة بين الهند وإفريقيا، حيث بلغت واردات الهند الزراعية من إفريقيا (1.56) مليار دولار عام 2014. وكان أكثر من نصف هذه الواردات من حيث القيمة من جوز الكاجو الخام بشكل أساسي، من غرب إفريقيا وشرقها وجنوبها لمعالجته في الهند، وهو الاتجاه الذي تكثف في السنوات الأخيرة بسبب تراجع المعالجة المحلية في الصحراء الكبرى الإفريقية. وكان الخشب ثاني أكبر الواردات بقيمة (2.19) مليون دولار، معظمه للاستخدام الصناعي والمنزلي. كما تستورد الهند كميات كبيرة من المحاصيل التقليدية من الكاكاو، والبن، والشاي، والقطن، مع أن الهند نفسها هي المنتج الرئيس لهذه العناصر، وخاصة الشاي، والقطن، لكن هذه الحقيقة تعكس الارتفاع الكبير في استهلاك الشاي الهندي، وتوسع صناعة النسيج في الهند في الأعوام الأخيرة لمواكبة الزيادة السكانية، وتلبية احتياجات السوق المحلية.
تعتمد إفريقيا على الواردات الغذائية لتلبية الطلب المحلي، وينطبق هذا بشكل خاص على الحبوب، حيث تم استيراد ما يقدر بنحو (20.8) مليون طن في الفترة (2011-2012) مقابل إنتاج محلي قدره (103) ملايين طن، وأصبح الاعتماد على الواردات حادًّا بالنسبة للقمح (الذي يزرع في عدد قليل من البلدان في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا) الأرز، وهذا يفرض ضغوطًا شديدة على ميزانيات الواردات الإفريقية، ويزيد خطر نقص الإمدادات الإقليمية، وخاصة في ضوء حالة عدم اليقين بشأن نظام التصدير في الهند، الذي يتعرض- دوريًّا- للحظر، مما يؤدي إلى قطع الإمدادات الهندية عن الأسواق الدولية، ومن ثم الأسواق الإفريقية[6].
تقدر الحكومات الإفريقية الأخطار والتكاليف الكبيرة المرتبطة بفواتير وارداتها الغذائية. أطلقت نيجيريا، التي استوردت (3.9) مليون طن من الحبوب في الفترة (2011-2012)، برنامجًا لتعزيز الإنتاج المحلي من الذرة والقمح والأرز والسكر بشكل كبير، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي. ومع ذلك، كان هذا الهدف متفائلا جدًّا، وستظل البلاد (وكذلك المنطقة الأوسع) تعتمد على الواردات الغذائية من جنوب وجنوب شرق آسيا في المستقبل المنظور.
واجهت كثير من المشروعات في إفريقيا لإنشاء مزارع تنتج الغذاء لتصديره إلى آسيا (وخاصة الصين) معارضة محلية قوية، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الحساسة المتمثلة في حقوق الأراضي، وقد أدت هذه المعارضة إلى تقليص فرص جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا لتصبح المورد الرئيس للغذاء إلى القارة الآسيوية. وعلى هذا، فمن المتوقع أن تظل الهند لاعبًا رئيسًا في الأمن الغذائي في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، وليس العكس. لكن منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا تتمتع بإمكانات ضخمة لتوسيع صادراتها الزراعية مِن غير الحبوب إلى الهند (مع استمرار ارتفاع الاستهلاك المحلي في الهند)، ولا سيما من خلال تصدير سلالات عالية الجودة من الشاي الكيني، والبن الإثيوبي والأوغندي، ومجموعة متنوعة من أنواع الشاي.
تعد شركات الأدوية الهندية أكبر مقدمي الأدوية التي لا تحمل علامات تجارية على مستوى العالم؛ فرفض الحكومة الهندية الاعتراف ببعض براءات الاختراع الصيدلانية الكبرى يسمح للشركات بإنتاج أدوية لا تحمل علامات تجارية بتكاليف منخفضة جدًّا. وتشكل هذه الأدوية العامة المنخفضة التكلفة فرصًا مثالية للأسواق في البلدان النامية، التي تتطلب خدمات رعاية صحية تنافسية من حيث التكلفة قدر الإمكان لتعظيم النسبة المئوية لسكانها القادرين على تحمل تكاليف الأدوية.
مِن المتوقع أن يصل حجم سوق الدواء في إفريقيا ما بين (50- 70) مليار دولار عام 2030 نتيجة للعبء المزدوج المتمثل في الأمراض المعدية، والأمراض غير المعدية المتزايدةِ، وزيادة تكاليف خدمات الرعاية الصحية الحديثة.[7] وتتنافس الشركات المتعددة الجنسيات في مجال الأدوية على حصص هذه السوق المُتنامية، ويتمتع المصنعون الآسيويون بحضور متزايد، حيث استحوذت الهند على (20%) من واردات الأدوية في إفريقيا عام 2018 (ارتفاعًا من 8.5% في عام 2002).[8]
وبلغ إجمالي صادرات الهند من الأدوية في الفترة (2012-2013) نحو (14.7) مليار دولار، مسجلة نموًا بنسبة (11%)، مع توجه (55%) من الصادرات إلى الأسواق الغربية الشديدة التنظيم. ويصدر صانعو الأدوية الهنود إلى (220) دولة في المجمل، حيث تمثل التركيبات (56%) من الإجمالي، والأدوية السائبة (42%). وأكبر عميل للهند هي الولايات المتحدة التي تمثل (22%) من صادرات الأدوية، تليها إفريقيا بنسبة (16%). وحددت حكومة ناريندرا مودي منذ عام (2016) هدفًا بمُضاعفة قيمة صادرات الأدوية لتزيد على 25 مليار دولار.[9]
شهدت الفترة منذ أوائل التسعينيات نموًا اقتصاديًّا غير مسبوق في الهند، يغذيه التحرر الاقتصادي والسياسة القائمة على التصدير؛ لذا تنظر نيودلهي إلى إفريقيا ليس باعتبارها سوقًا لبضائعها المصنعة فقط، وإنما مصدر للطاقة مُحتمل. عام 2014، كان نحو (15%) من واردات الهند من النفط الخام والبترول تأتي من إفريقيا، ولا سيما النفط الخام من نيجيريا وأنجولا، والغاز الطبيعي من مصر والجزائر. وتسهم القارة بنحو ربع النمو في إمدادات العالم من النفط والغاز الطبيعي، مما يمنح الهند إمكانات كبيرة لزيادة وارداتها من النفط الخام وتنويعها.
ومن المتوقع أن يستمر الطلب العالمي على النفط في النمو بأكثر من الثلث حتى عام 2035، حيث ستمثل الصين والهند وغرب آسيا (60%). أما الطلب العالمي على الطاقة، فسيمثل العالم النامي على نطاق أوسع (87%) من النمو بحلول عام 2030. ونظرًا إلى وجود علاقة وثيقة بين النمو الاقتصادي والطلب على الطاقة، فإن حصة الهند من الاستهلاك العالمي للطاقة سوف تستمر في الارتفاع. كما كان لطلبها المتزايد على الطاقة عواقب على الاقتصاد العالمي، مع تحول مركز الطلب في سوق النفط العالمية من منطقة المحيط الأطلسي إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
بلغت الهند الحد الأقصى للطلب على النفط عام 2020، ومن المتوقع أن تصبح ثالث أكبر مستهلك للطاقة في العالم بعد الولايات المتحدة، والصين بحلول عام 2030، متجاوزة اليابان، وروسيا. وعلى مدى السنوات الأربعين المقبلة، من المحتمل أن تستنزف الهند احتياطياتها من الفحم- المصدر الرئيس لاحتياجاتها الحالية من الطاقة. كان الفحم يشكل (51%)، والنفط والغاز (46%)، من مصادر الطاقة التجارية الرئيسة في الهند. أما نسبة الـ (3%) المتبقية فقد أتت من الطاقة الكهرومائية، والطاقة النووية، وطاقة الرياح.[10] وقد أدى هذا الاستهلاك الهندي الواسع للطاقة إلى تفاقم المخاوف من أنه بدون طاقة موثوقة، وبأسعار معقولة، لن تتمكن نيودلهي من الحفاظ على النمو الاقتصادي المرتفع. والسيناريو معقد بسبب مجموعة من العوامل: فالموردون الرئيسون للنفط يوجدون في مناطق غير مستقرة في غرب آسيا وإفريقيا؛ وارتفاع أسعار النفط، وارتفاع أسعار الغاز؛ وتؤدي حالة عدم اليقين الجيوسياسي إلى إثارة المخاوف من احتمال انقطاع الإمدادات وتقلب أسعار النفط؛ وأدى بطء إصلاحات السوق إلى انخفاض الاستثمار في قطاع الطاقة المحلي؛ ولا يوجد سوى القليل من بدائل الطاقة، أو لا توجد على الإطلاق. على سبيل المثال، محاولات توليد الطاقة الكهرومائية مُتعثرة على نطاق عريض.
وتؤكد هذه الاتجاهات والأنماط حاجة الهند إلى تنويع مصادر إمداداتها، ولكن يمكن القول إن الهند ليس لديها سياسة ملموسة بشأن أمن الطاقة، على الرغم من الضرورة المتزايدة لهذه السياسة. تم تعريف أمن الطاقة من جانب القيادة السياسية في الهند بأنه القدرة على “توفير الطاقة الحيوية لجميع مواطنينا، وكذلك تلبية طلبهم الفعال على الطاقة الآمنة والمريحة بتكلفة معقولة”.
تشهد القارة الإفريقية طفرة في الاكتشافات الهيدروكربونية، خاصةً في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، حيث انضم الموردون التقليديون من غرب إفريقيا ووسطها إلى الموردين الجدد من شرق إفريقيا وجنوبها، كما يتمتع النفط الإفريقي بجودة عالية، ومع كثير من الاكتشافات الجديدة خارج مناطق الصراع، أصبح الباب مفتوحًا للمشاركة الأجنبية.
وكانت شركات النفط المتعددة الجنسيات تقوم باستثمارات ضخمة، حيث تعمل شركات غربية كبرى بشكل تقليدي مثل بي بي، وشيفرون، وإكسون موبيل، وشل، وتوتال، في نيجيريا، وأنجولا، والجزائر، والكونغو، لكن دخلت الشركات الشركات الصينية متعددة الجنسيات، التي تتمتع بقدرة تنافسية عالية، وتحظى بدعم قوي من الدولة بحملة استحواذ تستحوذ على الموارد الرئيسة، وحصة السوق في جميع أنحاء إفريقيا.
لذا تواجه شركات النفط الوطنية الهندية منافسة شديدة في إفريقيا على الأصول من شركات النفط الغربية والصينية. ويتم تمثيل الهند في إفريقيا في الغالب من خلال ثلاث شركات نفط وطنية هي: (ONGC Videsh Ltd) الذراع الخارجية لشركة النفط والغاز الطبيعي المحدودة (ONGC)؛ وشركة أويل إنديا المحدودة (OIL)؛ وشركة النفط الهندية المحدودة (IOCL). وتنشط شركات النفط الوطنية الهندية بشكل تقليدي في شمال إفريقيا وغربها، ولم تغامر بالدخول إلى موزمبيق إلا مؤخرًا بعد اكتشاف احتياطيات ضخمة من الغاز هناك.
لم تحقق أي مِن الشركات الهندية نجاحًا في الحصول على مواقع نفطية. لقد تخلت عن معظم تلك التي استحوذت عليها إما بسبب ضعف الآفاق التجارية، أو عدم قدرتها على الوفاء بالاتفاقيات التعاقدية، أو لأن المناطق لا تزال في المرحلة الاستكشافية. وقد تفوقت شركات النفط الوطنية الصينية على الشركات الهندية في أنجولا، وغانا، ونيجيريا. كما انسحبت الشركات الهندية من ليبيا، لكنها ما زالت حاضرة في السودان، وجنوب السودان، ولكنْ هناك انخفاض في إنتاج النفط مع عمليات الإغلاق نتيجة التوتر السياسي والحرب الأهلية.
لا تتمتع شركات النفط الهندية بخبرة في مجال النفط في الخارج؛ نظرًا إلى افتقارها إلى القوة المالية والمتطلبات الفنية لمنافسيها الأجانب؛ لذا تعرضت شركات النفط الوطنية الهندية، بما في ذلك القطاع الخاص، لهزيمة شاملة في سعيها للحصول على موارد النفط، لا سيما أمام الشركات الصينية، التي تتمتع برأس مال سوقي أكبر، وتتلقى دعمًا اقتصاديًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا أكبر.
إن الاهتمام الاقتصادي والسياسي الهندي بإفريقيا يهدف إلى تعزيز الروابط مع البلدان على أمل أن تتراكم الفوائد الدبلوماسية. وقد أتى هذا التكتيك بثماره عام 2006 عندما حشدت نيودلهي المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) خلف محاولة الهند للحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وكجزء من رغبة الهند في نظام عالمي جديد مُتعدد الأقطاب، وتكون فيه قائدة بلدان الجنوب، وهو موقع رمزي تشتد فيه المنافسة مع الصين، تعد أحاديث إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتأمين التمثيل الدائم للهند في مجلس الأمن موضوعًا ثابتًا في العلاقات الهندية الإفريقية. ولا يرتبط هذا فقط بالمشاركة العادلة للقارة الإفريقية في المجتمع الدولي، بل إنه برتبط أكثر بمحاولة تخفيف حالة الضعف التي تشعر بها الهند في مواجهة الصين.
مع أن نيودلهي تواصل اهتمامها بعدم الانحياز ومفاهيم التضامن بين بلدان الجنوب، فإن تركيزها ينصب- إلى حد كبير- على المصالح الوطنية، وخاصة الاقتصادية، كما يتضح من حقيقة أنه خلال التسعينيات كانت الهند تغلق بعثاتها الدبلوماسية في إفريقيا كإجراء اقتصادي، لكنها اليوم لديها (33) سفارة ومفوضية عليا وقنصلية عامة في جميع أنحاء القارة. وقد زادت مبادرتها الدبلوماسية من خلال إنشاء ثلاثة أقسام لإدارة العلاقات مع القارة: قسم شرق إفريقيا وجنوبها؛ قسم غرب إفريقيا؛ وقسم غرب آسيا وشمال إفريقيا (الذي يغطي الدول الإفريقية مثل الجزائر وجيبوتي ومصر وليبيا والمغرب والسودان وجنوب السودان والصومال وتونس، إلى جانب الشرق الأوسط).
إن الدبلوماسية الاقتصادية الهندية موجهة بقوة نحو بناء القدرات في إفريقيا كعنصر من عناصر مساعداتها الخارجية. ويمكن النظر إلى ذلك باعتباره إيثارًا بطبيعته، ومتوافقًا مع الأفكار المرتبطة بالتعاون فيما بين بلدان الجنوب، وعمليًّا، بمعنى أن زيادة القدرات في إفريقيا، لا سيما في المجالات التي تغطيها اختصاصات المؤسسات، قد توفر فرصًا تجارية واقتصادية استثنائية. لكن بشكل دقيق، هذا التعاون الهندي الحالي موجه أكثر نحو الدبلوماسية العامة. وعندما تعلن نيودلهي أن إفريقيا “شريك” في التنمية، وتهتم بمستويات الأمن والاقتصاد فيها، فإنها تنظر إلى هدف أوسع وأشمل؛ وهو بناء صورتها كدولة تُعد حليفًا دبلوماسيًّا وسياسيًّا لإفريقيا جدير بالثقة، ويستحق دعم القارة.
تكافح الهند لمواجهة النفوذ الصيني المؤثر والفاعل في إفريقيا، علمًا بأن بكين تملك احتياطيات من النقد الأجنبي تبلغ نحو (3) تريليونات دولار.[11] وتمتلك مؤسسة الاستثمار الصينية (صندوق الثروة السيادية المملوك للحكومة الصينية) التي تضع (300) مليار دولار تحت تصرفها (100 مليار دولار لشركات النفط الوطنية، و100 مليار دولار للزراعة، و100 مليار دولار للبنية التحتية)، وهذا يقترب من نصف احتياطيات الهند من النقد الأجنبي (نحو 590 مليار دولار). كما لا يستطيع بنك التصدير والاستيراد الهندي مضاهاة القروض الميسرة، أو خطابات الاعتماد التي يقدمها بنك التصدير والاستيراد الصيني.
لكن على عكس الصين، تقوم الهند في الغالب بتمويل المشروعات في إفريقيا مباشرة بدلًا من تقديم المنح، وهي طريقة مساعدة يمكن القول إنها ليست عرضة للإساءة، أو الشروط، أو فخ الديون. وتعد هذه محاولة هندية لموازنة الفارق الضخم في الإمكانات الاقتصادية أمام التوسع الصيني في إفريقيا. إن الوضع الهندي في إفريقيا يحاول أن يقدم نمطًا جديدًا، حيث يأخذ مسافة أيضًا مِن النمط الغربي، علمًا بأن نيودلهي لا تدعم أي نظام إفريقي، ولا تحاول وقف أي عملية إصلاح للحكم، لكنها في الوقت نفسه لا تفرض أي شروط، ويرجع ذلك- إلى حد كبير- إلى الالتزام بمفاهيم نهرو بشأن سيادة كل دولة.
مِن المتوقع أن تنمو السياسة الاقتصادية الهندية في إفريقيا، ولو ببطء، ولكن لا يمكن تجاهل أثرها أو حضورها، حيث تُعزَز القدرات في المجالات التي تحددها الاحتياجات والتطلعات الإفريقية. إن شراكة “الهند- إفريقيا” يتم تفصيلها بعناية من أجل خلق الفرص الاقتصادية، والحضور الناعم والودي على المدى الطويل في إفريقيا. وإذا كانت التجارة والاستثمار يمثلان الذراع اليمنى للعلاقات الاقتصادية، فإن التعاون التنموي وبناء القدرات ينبغي أن يمثلا الذراع الثانية، ويعملان بالتآزر.
وتتطلع الهند إلى الاندماج- بإيجابية- في الاقتصادات الإفريقية؛ بهدف إقامة علاقات ثنائية ومتعددة الأطراف، متبادلة المنفعة، ومستدامة، لا سيما أن نيودلهي لديها مشوار طويل لمكافحة الفقر، والقضاء على الأمية والأمراض، وتحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي ومن الطاقة، وتطوير بنيتها التحتية، وإتمام عملية التطور التكنولوجي للبلاد؛ لذا يعتمد تطور العلاقات الهندية- الإفريقية على مدى قدرة تعامل نيودلهي مع ملفاتها الاقتصادية والاجتماعية الصعبة داخليًّا، واستمرار النمو الاقتصادي الذي سيضمن لها الاستمرار في “سياسة الفيل” في إفريقيا على الأقل قبل تطويرها أكثر للوصول إلى حالة المنافسة الفاعلة أمام الصين.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير