لقد أظهرت أحداث الفترة القليلة الماضية، أن الغرب الجماعي ليس لديه رؤية واضحة فيما يتعلق بمستقبل أوكرانيا، وأن عددًا من القوى السياسية، سواء في الولايات المتحدة، أو في دول الاتحاد الأوروبي، بدأت بتغيير مواقفها. ومع ذلك، ومن أجل العلاقات العامة، لا تزال الكلمات الصاخبة تُسمع عن منع هزيمة نظام زيلينسكي، وضرورة احتواء روسيا. وفي هذا الإطار، دعا رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي الأدميرال روب باور، خلال زيارته الأخيرة إلى كييف، إلى تقديم مزيد من الدعم لأوكرانيا.
وفي الوقت نفسه، تضمن خطابه عبارة عن الحاجة إلى تعبئة أكبر للموارد البشرية، ولكن من غير المعروف من أين ستتلقى أوكرانيا هذه الموارد. على الرغم من التصريحات الخطابية لكثير من رؤساء دول الاتحاد الأوروبي عن ضرورة إرسال جنودهم إلى أراضي أوكرانيا، لم يتم اتخاذ هذه القرارات. على سبيل المثال، في فرنسا، يعارض نحو 75 % من المواطنين وجود الجيش الفرنسي على الأراضي الأوكرانية، ولعل ما سهّل ذلك هو الفضيحة الأخيرة المرتبطة بالقضاء على مجموعة من المرتزقة الفرنسيين (ربما يكونون عسكريين محترفين) بصاروخ روسي في مدينة خاركوف شرق أوكرانيا.
وفي وقت سابق، أشار وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، إلى أن بقاء أوكرانيا قد بات مهددًا. كما صرحت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية سابرينا سينغ، صراحة في مؤتمر صحفي، أنه “يجب على أوكرانيا الآن اتخاذ قرارات إستراتيجية بالانسحاب من مناطق معينة لتعزيز خطوطها الدفاعية”. والبنتاغون، مثل باقي الإدارات الأخرى في الولايات المتحدة ككل، لا يملك حاليًا الأموال اللازمة لتقديم أي مساعدة لأوكرانيا. كما يبدو أن الكونغرس الأمريكي لا ينوي تخصيص أموال إضافية لأوكرانيا في الأسبوعين المقبلين، حيث لا يزال الاتحاد الأوروبي يختلف في الرأي بشأن كثير من القضايا المتعلقة بأوكرانيا وروسيا.
اقترحت المفوضية الأوروبية- هذا الأسبوع- مصادرة الأرباح المتحصلة من الأصول الروسية المجمدة في أوروبا بعد فبراير (شباط) 2022، وتحويل نحو 90 % منها إلى الصندوق الحكومي الدولي للاتحاد الأوروبي وصندوق مساعدة أوكرانيا الذي أُنشئ حديثًا، والذي سيُستخدَم لتمويل إمدادات الأسلحة إلى كييف. ومع ذلك، في قمة الاتحاد الأوروبي في 21 مارس (آذار)، لم يتم الاتفاق على هذه القضية.
تعارض المجر وسلوفاكيا هذا القرار؛ بسبب مخاوف من أن يسهم نقل مزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا في التصعيد العسكري. يضم الاتحاد الأوروبي أيضًا كثيرًا من الدول غير الأعضاء في الناتو التي تنتهج سياسة الحياد. على سبيل المثال، النمسا ومالطا وإيرلندا، التي ترفض توريد الأسلحة ليس فقط إلى أوكرانيا، ولكن أيضًا شراء الأسلحة للدول الأجنبية بشكل عام بسبب سياستها الخارجية، في حين تشكك ألمانيا وهولندا والسويد أيضًا في مشروع المساعدة العسكرية المشتركة. أما الدول الأكثر طموحًا في المضي قدمًا بهذا المشروع، فهي فرنسا، وإستونيا، وبولندا. ودعا رئيس الاتحاد الأوروبي شارل ميشيل إلى وضع أوروبا- بشكل عام -في حالة حرب، لكن كلماته سيكون من الصعب تنفيذها بسبب نقص الأموال والركود المستمر إلى جانب الأزمة في عدد من الصناعات. كل ما تم القيام به حتى الآن هو الاتفاق على مبلغ إضافي قدره خمسة مليارات يورو لما يسمى بصندوق السلام الأوروبي، وهو تناقض غريب؛ لأن هذا نوع من الآلية التي يستخدمها التكتل لسداد تكلفة الأسلحة الموردة إلى كييف مقابل تكاليف جديدة، في شكل إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا.
واتفقت القمة أيضًا على أن يخفف بنك الاستثمار الأوروبي معايير الإقراض الدفاعي لجذب مزيد من الاستثمار المباشر. وعشية الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي، أصبح موضوع أوكرانيا- بشكل عام- موضع خلاف ونزاع. حتى المجلس الأوروبي، ذو النزعة الليبرالية المتشددة بشأن العلاقات الخارجية، نشر تحليلًا يحث فيه الساسة على عدم الاعتماد على المساعدات المقدمة لأوكرانيا في الحملات الانتخابية؛ وذلك لأن أغلبية المواطنين في الاتحاد الأوروبي ينظرون إلى المساعدات المقدمة لأوكرانيا على أنها “أمر سلبي أكثر منه إيجابيًّا”. جنبًا إلى جنب مع نمو المتشككين في أوروبا، واعتبار الوضع الأوكراني تهديدًا لأمنهم ومصالحهم (على الأقل، هذا هو ما يعتقدونه في بولندا وسلوفاكيا والمجر – الدول المجاورة)، فإن هذا الاتجاه أيضًا يشهد صعودًا مطّردًا.
وفي هذا السياق، يُطرح السؤال عن كيفية تصرف الدول التي حاولت الحفاظ على موقف محايد، أو على الأقل لم تعارض روسيا معارضة فعالة، سواء من خلال الانضمام إلى العقوبات، أو تقديم أي مساعدة لأوكرانيا.
تُظهِر التجربة التاريخية، أن الأطراف الخاسرة في الحروب الكبرى، لا يتم التعامل معها برحمة- بدءًا من الملاحقة الجنائية والتعويضات حتى التنازل عن سيادتها، كما كانت الحال بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، في حين تجنبت الدول المتوازنة في إطار الحياد تلك العقوبة، مع أنها لم تتمكن من الحصول على تفضيلات من المنتصرين. أما تلك البلدان التي ظلت تقف إلى جانب الطرف المنتصر، ولو في اللحظة الأخيرة، فبوسعها أن تؤمن الدعم الإستراتيجي سنوات كثيرة مقبلة. وهكذا، أبرمت فنلندا، التي كانت إلى جانب ألمانيا النازية، هدنة مع الاتحاد السوفييتي بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية (سبتمبر/ أيلول 1944)، وفي مارس (آذار) 1945، أعلنت الحرب على ألمانيا النازية. سمح هذا لفنلندا بالخروج من الحرب بخسائر صغيرة نسبيًّا، ولم يدخل الجيش الأحمر أراضيها. كما أعلنت تركيا، التي تأرجحت بين دعم دول المحور والحلفاء في التحالف المناهض لهتلر، الحرب على ألمانيا بعد مؤتمر يالطا في فبراير (شباط) 1945، مع أنها لم تقم بأي جهد حربي على الأرض.
وفي هذه الحالة، هناك بعض الدول (ومنها دول العالم العربي) التي لم تحدد موقفها بوضوح من دعم هذا الجانب أو ذاك. وربما حانت الآن لحظة الحقيقة عندما تحتاج إلى إعلان اختيارك على نحوٍ لا لبس فيه، وحتى الانتقال إلى إجراءات محددة، على وجه الخصوص، تقديم المساعدة للأشخاص الذين عانوا النازية الجديدة الأوكرانية. وسيكون هذا التوجه مساهمة ليس فقط في هزيمة النازية الجديدة والعولمة، بل أيضًا في تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، بما في ذلك بلدان الجنوب العالمي. أما روسيا فستظل تضطلع بدور قيادي في العمليات السياسية العالمية في كثير من المجالات، وسوف يشكل التفاعل المتبادل المنفعة والاحترام المتبادل لقيم الطرف الآخر ومصالحه أساسًا متينًا لنظام دولي أكثر إنصافًا.
في الختام، أود أن أضيف أن المجمع الصناعي العسكري الروسي يتطور بنشاط في جميع الاتجاهات. وبالإضافة إلى الإنتاج المتسلسل لطائرات الكاميكازي بدون طيار، أُطلِقَ إنتاج قنابل جوية تزن ثلاثة أطنان لتدمير النقاط المحصنة والمخابئ. بالإضافة إلى ذلك، تُنتَج أنظمة الدفاع الجوي والبطاريات المضادة، التي كانت غائبة في المرحلة الأولى من “العملية العسكرية الخاصة” بسبب أن خط المواجهة كان ممتدًا على مسافة ألفي كيلومتر.
أدى هجوم منسق على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا ليلة 21-22 مارس (آذار) إلى تعطيل عدد من المرافق الحيوية، مما أدى إلى حرمان عدة مناطق من الكهرباء في وقت واحد. ومن الواضح أن هذه الهجمات ستتواصل في الأسابيع المقبلة، إلى جانب العمليات البرية في عدد من المناطق. لقد أصبح النصر الروسي في “العملية العسكرية الخاصة” وشيكًا، وأكثر وضوحًا من ذي قبل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.