نُشرت خلال الأسبوع الماضي أخبار بشأن إعلان قرار الحكومة الروسية رفع مشروع اتفاقية بين الاتحاد الروسي وجمهورية السودان، تقضي بإنشاء مركز دعم لوجستي للأسطول البحري الحربي الروسي في إقليم دولة السودان، وتحديدًا في ميناء بورتسودان، وما تبعه من صدور قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الاثنين الماضي، الذي كلف بموجبه وزير الدفاع بتوقيع هذه الاتفاقية التي تؤسس لوجود عسكري روسي دائم أو شبه دائم (وفقًا لأحد بنودها تسري الاتفاقية لمدة 25 عامًا تجدد تلقائيًّا لمدد مكونة من 10 سنوات) في البحر الأحمر، بالقرب من باب المندب ومياه المحيط الهندي، وهو الوجود الذي لطالما سعت روسيا إلى الحصول عليه منذ العهد القيصري وحقبة اللعبة الكبرى مرورًا بالفترة السوفيتية؛ بهدف التأسيس لموطئ قدم في المياه الدافئة، سواء في البحر المتوسط (حصلت عليه في طرطوس السورية)، أو في البحر الأحمر.
هذا الخبر لم يحظَ بما يستحق من تغطية وتحليل، ربما على خلفية الضجيج الذي أحدثته انتخابات الرئاسة الأمريكية، وهو أمر مفهوم. ومع أن هذا الموضوع المهم يحتاج إلى تحليل منفصل عن أبعاده وتبعاته، لكنه يأتي على خلفية وضع آخر يطرح علامات استفهام عن موقف روسيا مما يحدث الآن في إثيوبيا، وهي التي تسعى بخطوات حثيثة في السنوات الأخيرة للعودة بقوة إلى القارة الإفريقية عن طريق بواباتها التقليدية، وإثيوبيا كانت دائمًا إحداها، وذلك بعدما كانت العلاقات مع إفريقيا تشغل آخر البنود في أولويات السياسة الخارجية لروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، إلى أن عادت تتقدم في إطار الإستراتيجية الجديدة، ولذلك شواهد متعددة، منها قمة روسيا إفريقيا العام الماضي في سوتشي، والخطوات العملية التي نلحظها الآن.
هذا الموقف يجعلنا نطرح بعض الأسئلة؛ لأن العلاقات الروسية الإثيوبية كانت دائمًا توصف بالقوة في مجالات عدة، وبصفة خاصة في المجالين العسكري والروحي الثقافي؛ لذا سأحاول تقديم طرح قد يفسر -ولو جزئيًّا- هذا الموقف الروسي تجاه ما يجري في إثيوبيا نفسها، أو ما يجري بين إثيوبيا ودول الجوار.
يُنظر إلى التطورات الأخيرة في إثيوبيا على خلفية التوترات التي تحولت إلى صراع داخلي مسلح، والتي تفاقمت منذ اغتيال مغني مشهور ينتمي إلى عرقية الأورومو الصيف الماضي، على أنها انعكاس لصراع عميق على السلطة في إثيوبيا، فضلًا عن كونها تبرز التناقضات العرقية الموجودة بالفعل في الداخل الإثيوبي، ورئيس الوزراء آبي أحمد -على الرغم من كونه ينتمي إلى عرقية الأورومو- يواجه مقاومة داخلية، حتى في صفوف ممثلي هذه العرقية من بعض المجموعات السياسية المنتمية إليها.
ومع أخذ الجذور التاريخية لهيكل السلطة بأديس أبابا في الحسبان، حيث لم تكن عرقية الأورومو -التي ينتمي اليها أغلب سكان إثيوبيا- تنتمي إلى النخبة الإثيوبية الحاكمة، ولم يكن لها -عادةً- تمثيل في السلطة، فإن ما زاد الأمور سوءًا هو عدم الرضا الواضح من جانب ممثلي عرقية الأمهرة، صاحبة السلطة والنفوذ في إثيوبيا تاريخيًّا، التي تشعر الآن بفقدان هذه الميزات التي كانت تحظى بها على مدى زمن طويل.
في الوقت نفسه، تشكَّل لدى إقليم تيغراي -بؤرة تفجر النزاع- موقف سياسي معارض للحكومة المركزية، جعلها عاجزة -منذ وقت طويل- عن فرض السيطرة الكاملة على هذا الإقليم، وهكذا بات الإقليم يشكل تهديدًا كبيرًا لكيان الدولة الإثيوبية تحت مظلة الفيدرالية، خاصة لوقوعه جغرافيًّا في الشمال الإثيوبي، حيث تحدّه من الشمال إريتريا، ومن الغرب السودان، الذي تكررت المناوشات بينه وبين إثيوبيا في هذه المنطقة، ولكن تم احتواؤها من الجانبين قبل أن تتفاقم، ما دل على عدم السيطرة الكاملة للحكومة المركزية على هذا الإقليم، وما قد يتسبب فيه من مشكلات كثيرة للبلد.
سياسة رئيس الوزراء الحالي جمّدت مؤقتًا التناقضات الكامنة بين الأمهرة والأورومو، ولكنها لم تحلها، والإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي وعد بها لم تأتِ بأي نتائج يلمسها الشارع؛ ولذلك تزايدت التوترات في الداخل الإثيوبي، مع الأخذ في الحسبان أن الدولة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المساعدات الخارجية، الغربية تحديدًا، وعلى ما يقدمه البنك الدولي، وصندوق النقد، ومع فهم أن الصورة الكاملة للوضع الاقتصادي الداخلي، ومدى تأثره بسبب كورونا، غير واضحة؛ لأنه على الرغم من وجود إحصاءات رسمية لأعداد المصابين والوفيات نتيجة الوباء، فإنه بسبب ضعف المنظومة الصحية في البلاد من الصعب القول بمدى دقتها.
أدت إعادة رئيس الوزراء هيكلة حزب الازدهار منذ عدة أشهر، واستبعاده ممثلي إقليم تيغراي منه، إلى إحداث توتر كبير في الإقليم، وقد أثارت هذه الخطوة جدلًا سياسيًّا واسعًا، فضلًا عن أن مساعي آبي أحمد لتأجيل الانتخابات التي كانت مقررة في أغسطس (آب) بحسب الدستور، تحت ذريعة أن الوضع لا يسمح بإجرائها، قد تسببت في موجة غضب وانتقادات واسعة، وتحديدًا في هذا الإقليم؛ ما دفع رئيسة الغرفة الأعلى للبرلمان إلى تقديم استقالتها احتجاجًا على هذه الخطوة، ومطالبتها وممثلي الإقليم في ذلك الوقت بإجراء الانتخابات في موعدها المقرر.
في ذلك الوقت، وعلى الرغم من الرأي السائد بشأن الموقف الروسي، وفق ما ذكرته دراسات مراكز التحليل المهتمة بالشأن الإفريقي في روسيا، التي لا تستبعد حدوث مصادمات ومواجهات داخلية، بل إمكانية تدخل الجيش فيما يحدث، ووقوع اغتيالات سياسية، ومواجهات مع مجموعات وحركات مسلحة داخلية، فإنه كان هناك اعتقاد سائد أيضًا بأن آبي أحمد يعول على الدعم المالي والسياسي والإعلامي الغربي، وفي المقام الأول الأمريكي؛ ما قد يساعده على التغلب على التحديات التي تواجهه.
منقول من حساب الكاتب في منشور سابق على فيسبوك
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.