جغرافيا

روسيا في المحيط الهادئ.. التنافس مع اليابان (2/ 2)


  • 21 ديسمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: aljazeera

رأينا في المقال السابق أسس التنافس والصراع مع اليابان على جبهة المحيط الهادئ، وأن روسيا لا تزال تنظر إلى اليابان باعتبارها مصدر قلق أمني فقط لاستيعاب الجيش الأمريكي، وقد ظلت واشنطن تشكل عقبة أمام التقارب بين روسيا واليابان، كما يتضح من العقوبات التي فرضتها على روسيا، لكن نفوذ الولايات المتحدة ربما يكون في تراجع. لقد أظهرت طوكيو جهودًا كبيرة في السنوات الأخيرة لتحسين العلاقات مع روسيا، وهو ما يثير استياء واشنطن، ومع ظهور الصين كخصم للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، قد تعكس واشنطن موقفها السابق من خلال تشجيع الشراكة الروسية اليابانية في آسيا بدلًا من عرقلتها.

ومع ذلك، هناك ميزات اقتصادية من التعاون الروسي الياباني؛ إذ تنبع ميزة الاقتصاد الجغرافي الروسي بالنسبة لليابان من المصلحة الإستراتيجية المشتركة لموسكو وطوكيو في شمال شرق آسيا، ولا سيما في المجالات التالية:

  • تزيد التكنولوجيا الحديثة التي تتمتع بها اليابان، وموقعها في سلاسل القيمة العالمية، أهميتها بوصفها شريكًا محتملًا للمساعدة على تحديث الاقتصاد الروسي، ومساعدته على الهروب من أزمة “لعنة الطاقة”.
  • تُعد أراضي روسيا ذات جاذبية لليابان والصين بسبب مواردها الطبيعية، والخوف المستمر من أن تصبح ملحقًا للطاقة.
  • بوسع اليابان، بوصفها دولة متقدمة جدًّا، أن تكون مصدرًا لنقل التكنولوجيا والاستثمارات الأجنبية في الطاقة، كما يمكن أيضًا أن تكون روسيا مصدرًا لتنويع إمدادات الطاقة لليابان.
  • هناك إمكانات كبيرة لتوسيع التواصل الاقتصادي بين اليابان وروسيا مع تحسن مناخ الاستثمار والبنية التحتية في الشرق الأقصى الروسي، لكن هذه الفرص تضيع تدريجيًّا بسبب تركيز روسيا المتزايد على السوق الصينية، والعرقلة من جانب الولايات المتحدة، وكانت روسيا عازمة على زيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى اليابان زيادةً كبيرة، وجذب طوكيو لتصبح صاحبة مصلحة أساسية في أمن الطاقة الروسي من خلال توفير التكنولوجيا والاستثمارات لاستخراج الطاقة المشتركة.
  • إن الإستراتيجية العقلانية التي تنتهجها اليابان، ردًا على التوزيع المتغير للقوة في شمال شرق آسيا، تتلخص في السعي إلى تحقيق التكامل الاقتصادي الصارم مع روسيا، وسيتعين على طوكيو قبول تسوية سياسية مؤلمة بشأن المناطق المتنازع عليها، أو فصل التكامل الاقتصادي عن التسوية الإقليمية، وعلى الرغم من التوترات المستمرة، تظل روسيا الدولة الأكثر صداقة لليابان في شمال شرق آسيا، على النقيض من العداء المتبادل بين اليابان وكل من الصين، وكوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.

لماذا تتأخر روسيا في التسوية بشأن جزر كوريل؟

يمثل صعود الفكر الاقتصادي في التفكير الإستراتيجي لروسيا مثبطات قوية للتنازل عن جزر كوريا؛ لعدة أسباب، أهمها:

  • لا تدعم الأدلة الادعاء بأن التسوية غير السياسية مطلوبة للتعاون الاقتصادي، فهناك خلاف بشأن ذلك.
  • تتمتع جزر الكوريل الجنوبية بمنفعة جيواقتصادية مهمة، حيث تم اعتبارها “ذات أهمية كبرى لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ السريعة النمو”؛ من أجل تعزيزها، ومن أجل التنقل ومرور بحرية أكثر لكل من السفن التجارية والعسكرية إلى المحيط الهادئ.
  • تعد السيطرة على أرخبيل الكوريل بكامله ذات أهمية متزايدة مع استمرار روسيا في بناء موانيها على ساحل المحيط الهادئ وتحديثها، وتطوير طريقها البحري في القطب الشمالي.
  • لا يوجد سبب عاجل وملح مقنع لروسيا للتنازل عن سيادتها على كوناشير أو إيتوروب لتحسين الاتصال الاقتصادي مع اليابان؛ فقد كان المناخ الاقتصادي غير المواتي سابقًا في الشرق الأقصى الروسي هو العائق الرئيس أمام التكامل الاقتصادي في الماضي، والجاذبية الاقتصادية الحالية لهذا الشرق الأوسط، وقد عُزِّزت المنطقة على نحو كبير بالنسبة لروسيا من خلال الحفاظ على السيادة على جزر الكوريل الجنوبية بوصفها ممرًا تجاريًّا إستراتيجيًّا، ولا يمكن لليابان أن تتجنب الارتباط الاقتصادي مع روسيا.

مقترحات التسوية الإقليمية بين روسيا واليابان

لا بد أن تكون التسوية الإقليمية جزءًا لا يتجزأ من التحول الإستراتيجي الأوسع في العلاقات الروسية اليابانية، وتتطلب التسوية الخطوات التالية:

  • يتعين على روسيا أن تتخلى تمامًا عن جزيرتي شيكوتان وهابوماي اللتين تغطيان 7% من الأراضي التي تطالب بها اليابان، واللتين وافقت بالفعل على تسليمهما بموجب الإعلان المشترك لعام 1956. السبب الذي قدمته الحكومة السوفيتية لإلغاء هذا الاتفاق لم يعد ذا صلة؛ لأن القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان لا تشكل تهديدًا مباشرًا لروسيا بعد انتهاء الحرب الباردة.
  • يجب على اليابان أن تبدأ بدعم النشاط الاقتصادي في جنوب جزر كوريل وعبر روسيا، من خلال الاستثمار المباشر في القطاع العام، والحوافز الاقتصادية الإيجابية لقطاعها الخاص.
  • يتعين على روسيا واليابان إنشاء منطقة اقتصادية مشتركة تغطي جزر كوريل الجنوبية الأربع، وتديرها سلطة روسية يابانية تدير نظامًا اقتصاديًّا وقانونيًّا متميزًا.
  • يتعين على روسيا واليابان أن تتوصلا إلى اتفاق سياسي يشكل الأساس لهذا الترتيب الاقتصادي. منذ البداية، ستكون المنطقة بكاملها منزوعة السلاح، وستواصل روسيا ممارسة سيادتها على إيتوروب وكوناشير، ولن تُقيَّد هجرة المدنيين الروس إلى هذه الجزر، التي من المحتمل أن تكون نتيجة للنشاط الاقتصادي الجديد، وسيكون للشعب الياباني الحرية في الانتقال إلى جميع الجزر الأربع.
  • في نهاية فترة الخمسين عامًا، ستنتقل إيتوروب وكوناشير إلى القانون والسيادة اليابانية، لكن النظام الاقتصادي المشترك سيستمر خمسين عامًا أخرى، وسيكون للمقيمين الدائمين الروس حرية البقاء، وسيتمتعون بالحق في الحصول على جنسية مزدوجة (اليابانية والروسية).  وهكذا، فإن جزر الكوريل الجنوبية سوف تشبه هونغ كونغ من حيث إنها سوف تندمج في نهاية المطاف مع اليابان، ولكن خلال الخمسين سنة الأولى سيبقى معظمها تحت العلم الروسي، وفي نهاية هذه الفترة سوف تصبح جميع الجزر جزءًا من اليابان من الناحية القانونية، ولكن بنظام اقتصادي خاص لخمسين سنة أخرى، وبحضور روسي قوي.

 العلاقات الروسية الصينية في ضوء الصراع مع اليابان

على نحو متزايد، تشتمل العلاقات الروسية الصينية على مجالات رئيسة من التعاون والتقارب، وخاصة فيما يتصل بالسياسات المُصممة لمعارضة الولايات المتحدة، ومع ذلك، فقد طورت روسيا سياسة إقليمية أوسع مع الدول الآسيوية الرئيسة (ومنها الهند على نحو خاص)، جزئيًّا لمنع الاعتماد المفرط على الصين.

ولقد شهدت العلاقات الروسية الصينية تغيرًا نوعيًّا، وانتقلت إلى ما هو أبعد من “محور الملاءمة” السابق، فاتجهت نحو الاعتماد المتبادل غير المتماثل المتزايد، حيث تكون روسيا الشريك الأصغر من حيث القوة الاقتصادية، ولكن يتم التعامل معها سياسيًّا كدولة متساوية في السيادة، وكان التركيز الأمريكي القوي على مواجهة الصين سببًا في تعزيز التحالف الجيوسياسي بين الصين وروسيا، الذي كان في ظهور مطّرد منذ نهاية الحرب الباردة.

ومع أن الصين تشكل الركيزة الأساسية لمحور السياسة الروسية في آسيا، فقد سعت روسيا أيضًا إلى تعزيز علاقات سياسية إقليمية أخرى، وبدرجة أقل وخاصة مع اليابان، وكانت مشاركة روسيا مع اليابان تركز على القضية الثنائية المتمثلة في النزاع الإقليمي بشأن جزر كوريل، ولكنها تحمل أهمية إستراتيجية أوسع كثيرًا، وكان الهدف من التعاون مع اليابان هو أن يُظهر لبكين أن لدى موسكو شركاء محتملين آخرين في آسيا؛ ومن ثم كان هذا الموقف بمنزلة تزويد روسيا بوسيلة لتعويض موقف الصين المتنامي في شرق آسيا، كما كان يُنظر إلى العلاقة الروسية اليابانية في موسكو على أنها وسيلة لموازنة موقف الصين المتنامي في الإقليم، وإضعاف التحالف الأمريكي مع اليابان، ولا سيما فيما يتعلق بتطبيق اليابان للعقوبات الغربية.

إن التحدي الجيوسياسي الرئيس الذي يواجه روسيا في آسيا يتلخص في الحفاظ على التوازن مع الصين بوصفها شريكًا، ومع صعود الأجندة الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تقودها الولايات المتحدة؛ مما أدى إلى وجود ضغوط متزايدة على روسيا لحملها على النظر في إقامة تحالف إستراتيجي بينها وبين الصين.

وفي حين تظل مواجهة الولايات المتحدة محور التركيز الرئيس للسياسة الخارجية والأمنية الإقليمية لروسيا، فإن القيادة الروسية تهدف إلى تجنب الاضطرار إلى الدخول في علاقة مؤسسية مع الصين، حيث ستكون الأضعف بكثير بين الاثنتين، حيث من الممكن تعميق التعاون الروسي الصيني، ولكن لا ينبغي أن يتم ذلك بطرائق تحد من استقلال روسيا الذاتي.

لقد توقف محور روسيا في السياسة الآسيوية على تعزيز العلاقات مع الصين كجزء من التقارب الثنائي الطويل الأمد، ومن عام 2013 إلى عام 2019، ارتفعت حصة الصين في التجارة الخارجية لروسيا من 10.5% إلى 16.7%، واستمرت في الارتفاع إلى 18.3% في عام 2020، وقد اقتربت روسيا دبلوماسيًّا من بكين، لا سيما في المنتديات المتعددة الأطراف.

ينصب تركيز العلاقات الروسية الصينية في المقام الأول على الوقوف ضد التهديدات المتصورة من الولايات المتحدة، وليس  لتعميق التعاون الاقتصادي أو التوافق السياسي؛ ومن ثم كان الدعم الروسي للمصالح الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ مقيدًا، وبدلًا من دعم مطالبات الصين الإقليمية على نحو مباشر في بحر الصين الجنوبي، دعت روسيا إلى حل النزاعات الحدودية من خلال الدبلوماسية، وعلى أساس القانون الدولي، وفي الوقت نفسه، حافظت روسيا على علاقاتها مع اليابان والهند لموازنة صعود الصين الإقليمي، وعززت علاقاتها مع الفلبين وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام، وهي الدول التي لديها نزاعات إقليمية ومطالبات بالسيادة مع الصين.

 تعد روسيا إحدى الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية بوصفها أكبر دولة أوراسية وعابرة للقارات، وتحتل مكانة مهمة في المبادرة؛ ومن ثم يمكن وصف العلاقة الحالية بين القوتين الأوراسيتين العظميين بأنها اتفاق، أو شبه تحالف. ترحب موسكو بمبادرة الحزام والطريق، ولكن على عكس كثير من الحكومات الأخرى في جميع أنحاء العالم، لم توقع قط على اتفاق للانضمام رسميًّا إلى المبادرة، ويشير هذا إلى أن روسيا ترى أنه لا ينبغي أن تهيمن الصين على التكامل الأوراسي، فضلًا عن إصرار الكرملين على المساواة في المركز مع الصين.

العلاقات الروسية الكورية في ضوء الصراع مع اليابان

لقد كانت شبه الجزيرة الكورية مجالًا مهمًّا لإستراتيجية روسيا الدولية، واعتبرت موسكو أن كوريا تاريخيًّا وجيوسياسيًّا ضمن نطاق المصالح الوطنية الروسية الدائمة، وكانت هذه هي الحال قبل الفترة السوفيتية وفي أثنائها.

تقوم السياسة الروسية تجاه شبه الجزيرة الكورية على ضرورة الحفاظ على علاقات حسن الجوار والشراكات مع كلتا الدولتين الكوريتين.

فيما يتعلق بشبه الجزيرة الكورية ترتبط روسيا -على نحو رسمي وغير رسمي- باثنين من المصالح الأساسية:

  • أولًا: لا تريد روسيا أسلحة الدمار الشامل في أي مكان في العالم، وخاصة بالقرب من حدودها.
  • ثانيًا: روسيا لا تريد حربًا في كوريا، وهناك ثلاثة أسباب لذلك:
  • تتفهم روسيا الوضع الدولي الحالي، وخاصة رغبة واشنطن المزعجة في إرساء القواعد الدولية، في حين تتجاهل القانون الدولي والمنظمات الدولية، وفي المقام الأول الأمم المتحدة، ومجلس الأمن التابع لها.
  • إذا اندلعت حرب بالقرب من الحدود الروسية فستكون كارثة رهيبة، ولا أحد يعرف ما قد يحدث، فالروس لا يريدون سحابة نووية، أو دخول آلاف اللاجئين الجوعى إلى أراضيهم.
  • تعد كل من كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية شريكتين اقتصاديتين لروسيا، ولروسيا مشروعات اقتصادية في كلا البلدين. بشكل عام، تريد روسيا وضعًا وديًّا وتعاونيًّا على حدودها؛ مما يوفر الظروف المناسبة لنمو الاقتصاد الروسي.

تُعد جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية (كوريا الشمالية) مهمة للسياسة الخارجية الروسية، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، تم التوقيع على أكثر من 40 اتفاقية حكومية دولية ومشتركة بين الإدارات بين الطرفين. كان التوقيع على إعلاني بيونغ يانغ وموسكو في اجتماعات القمة لعامي 2000 و2002 مهمًّا لمستقبل تطوير العلاقات الروسية الكورية الشمالية.

لقد عملت موسكو على نحو هادف ونشط -ولا تزال تعمل- في إطار التسوية السياسية للملف النووي الذي يشكل تهديدًا في شبه الجزيرة الكورية، فقد أدانت روسيا الطموحات النووية لكوريا الشمالية، وأدت روسيا الدور القيادي في تطوير القرارين 1695 و1718 (الصاروخي والنووي) لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي عبر عن القلق الخطير للمجتمع الدولي فيما يتعلق بتصرفات كوريا الشمالية.

وتظل المشكلة التي لم تُحَل في العلاقات الثنائية هي الديون المستحقة على كوريا الشمالية لروسيا، التي تبلغ 9 مليارات دولار، وتصر بيونغ يانغ على إلغاء الديون بالكامل بحجة أن هذا الدين تشكل نتيجة قيام كوريا الشمالية بمهمة “الدفاع عن البؤرة الاستيطانية في الشرق الأقصى للاشتراكية العالمية”، ومن المفهوم أنه في خضم الأزمة المالية والاقتصادية الحالية، فإن روسيا ليست مستعدة لطلب الأموال من بيونغ يانغ، لكن مواصلة تطوير التجارة الاقتصادية، أو التعاون الاستثماري مع كوريا الشمالية غير ممكن دون التوقيع على اتفاقية مناسبة بشأن إعادة هيكلة ديون كوريا الشمالية.

أما كوريا الجنوبية فقد طورت موسكو معها العلاقات السياسية باطّراد منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، فلا يوجد أي قضايا متنازع عليها بينهما، كما أن مستوى العلاقات السياسية بينهما مرتفع جدًّا على الساحة الدولية، وغالبًا ما تتخذ الدولتان المواقف نفسها عمليًّا، وتم التوقيع على اتفاقيات حكومية دولية بشأن حماية المعلومات العسكرية السرية والسياحة.

ولأول مرة خلال سنوات كثيرة من التعاون، تلقت كوريا الجنوبية معدات وأسلحة عسكرية روسية، ذهب جزء كبير منها إلى سداد الديون المستحقة على الاتحاد الروسي لجمهورية كوريا، التي يبلغ مجموعها 600 مليون دولار، وشهد التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري بين روسيا وجمهورية كوريا نموًّا ملحوظًا في السنوات الأخيرة.

ويبدو أن هذا التوازن والحذر في علاقات روسيا بكل من الكوريتين يأخذ في حسبانه التنافس مع اليابان، وملف جزر كوريل، والحضور الروسي في المحيط الهادئ.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع