تواصل القوات الروسية إحراز تقدم ميداني في أوكرانيا رغم الجمود المسيطر على المسار الدبلوماسي. وأعلن الجيش الروسي، يوم الاثنين الماضي، السيطرة على بلدة جديدة في مقاطعة دنيبروبيتروفسك بوسط أوكرانيا؛ مما يعكس استمرار التقدم البطيء، ولكن الثابت، الذي تحرزه موسكو على الأرض. جاء هذا التطور في وقت يخيّم فيه جمود واضح على الجهود الرامية إلى التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الحرب المستعرة منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة، وتحديدًا منذ بدء العملية العسكرية الخاصة في فبراير (شباط) 2022.
بحسب بيان وزارة الدفاع الروسية، تمكنت قواتها من السيطرة على قرية زابوريزكه في مقاطعة دنيبروبيتروفسك. يُعد هذا الاختراق مهمًّا؛ لأن القوات الروسية دخلت هذه المنطقة للمرة الأولى في يوليو (تموز) الماضي ضمن عملياتها العسكرية المتواصلة. وقد اتسمت حملة روسيا الأخيرة بمعارك عنيفة للسيطرة على مناطق واسعة ومدمرة في شرق أوكرانيا ووسطها، وهي مناطق لم يتبقَّ فيها سوى عدد قليل من السكان والمباني السليمة نتيجة القصف والقتال المستمر.
في المقابل، نفت كييف ترسيخ الروس مواقعهم في دنيبروبيتروفسك، مؤكدةً أن المعارك هناك لا تزال بين كرّ وفرّ. وتكتسب مقاطعة دنيبروبيتروفسك أهمية خاصة لأنها مركز صناعي حيوي، وظلت بمنأى -نسبيًّا- عن القتال العنيف خلال المراحل السابقة من الحرب، فلم تشملها المناطق الخمس (دونيتسك وخيرسون ولوغانسك وزابوريجيا وشبه جزيرة القرم) التي أعلنت موسكو ضمّها رسميًّا إلى أراضيها، لكن مع إعلان روسيا توغل قواتها في دنيبروبيتروفسك ازداد نطاق الحرب جغرافيًّا ليشمل منطقة كانت -حتى وقت قريب- بعيدة عن خط النار.
وعلى صعيد ميداني آخر، تتواصل حرب المسيّرات بين الجانبين بوتيرة متصاعدة، فقد أفادت مصادر أوكرانية أن روسيا شنّت أكثر من 100 هجوم بواسطة طائرات مُسيّرة على مناطق مختلفة يوم الاثنين، ما أسفر عن مقتل مدني يبلغ 37 عامًا، وإصابة اثنين آخرين بجروح في مقاطعة سومي (شمال شرق أوكرانيا). في المقابل، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها تصدت لهجوم أوكراني بنحو20 طائرة مُسيّرة استهدفت مناطق في غرب روسيا. هذه الهجمات المتبادلة بالطائرات دون طيار تُبرز تحول الحرب إلى نزاع استنزاف طويل الأمد تُستخدم فيه التقنيات الحديثة لضرب العمق الإستراتيجي للطرفين، وهو ما يزيد تعقيد المشهد، ويُبعد آفاق الحل السلمي.
على الصعيد السياسي، لا تلوح في الأفق بوادر انفراجة دبلوماسية، فبعدما أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن رغبته مجددًا في التوسط لعقد قمة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، تبددت الآمال بإمكانية انعقاد هذه القمة. رفضت موسكو -الأسبوع الماضي- الفكرة رفضًا قاطعًا في الوقت الراهن، مستبعدةً أي اجتماع مباشر بين بوتين وزيلينسكي تحت الظروف الحالية. ويشير هذا الموقف إلى استمرار هوة الخلاف بين الطرفين، حيث تتمسك موسكو بمطالبها المعلنة، وتطالب كييف وحلفاءها الغربيين بتقديم تنازلات جوهرية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات. في المقابل، تؤكد أوكرانيا أن أي تسوية يجب أن تقوم على استعادة أراضيها، واحترام سيادتها التي انتهكتها موسكو.
جمود المسار التفاوضي الحالي يأتي بعد عدة مبادرات دبلوماسية شهدتها الأشهر الماضية دون نتائج ملموسة، فقد عُقدت اجتماعات دولية (مثل مباحثات جدة التي رعتها السعودية، ومشاورات على مستوى مستشاري الأمن القومي في أوروبا) لبحث صيغة لإنهاء الحرب، لكنها لم تحرز اختراقًا يُذكر. ومع دخول الحرب عامها الرابع، تزداد المخاوف من تحولها إلى صراع مجمّد طويل، خصوصًا مع عدم استعداد أي من الطرفين لتقديم تنازلات حاسمة. في هذا السياق، يراهن بعض الوسطاء الدوليين على تغيير موازين القوى الميدانية لدفع أحد الطرفين إلى المرونة، وقبول التفاوض، لكن التطورات الأخيرة على الأرض تعكس توازنًا هشًا: روسيا تتقدم تدريجيًّا، وأوكرانيا تصد جزءًا من الهجمات، وتحصل على دعم عسكري غربي متواصل؛ مما يجعل الحل العسكري مستبعدًا، والحل السلمي مؤجلًا.
في ظل استمرار القتال، تتكثف الدعوات الغربية لبحث ترتيبات أمنية مستقبلية تضمن حماية أوكرانيا، ومنع تكرار العدوان عليها، وذلك ضمن أي اتفاق سلام قادم. وفي هذا السياق، وصل نائب المستشار الألماني ووزير المالية لارس كلينغبيل إلى كييف -يوم الاثنين الماضي- حاملًا رسالة دعم ألمانية ومقترحات بشأن العملية السلمية. ودعا كلينغبيل -فور وصوله إلى العاصمة الأوكرانية- إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار في أوكرانيا كخطوة أولى تمهد لحل تفاوضي. كما شدّد على ضرورة تقديم “ضمانات أمنية موثوقة” إلى كييف في حالة التوصل إلى تسوية تنهي الحرب مع موسكو.
وأوضح كلينغبيل، في بيان صدر عن الحكومة الألمانية بالتزامن مع زيارته، أنه يتعاون تعاونًا وثيقًا مع المستشار الألماني فريدريك ميرتس لدراسة أفضل السبل التي يمكن لألمانيا من خلالها دعم أوكرانيا في عملية سلام محتملة. وأكد المسؤول الألماني أن “ألمانيا ستتحمل مسؤولياتها” في مرحلة ما بعد الحرب، مشيرًا إلى أن برلين مستعدة للقيام بدورها لضمان أمن أوكرانيا واستقرارها. ومع ذلك، أقرّ كلينغبيل بأن التوافق بين الحلفاء الغربيين (أوروبيين وأمريكيين) على تفاصيل هذه الضمانات الأمنية ليس بالأمر السهل؛ نظرًا إلى تعقيد المسألة وتشابكها مع قضايا إقليمية ودولية أخرى.
ومن جانبه، صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الموجود في واشنطن لإجراء محادثات مع الجانب الأمريكي، بأن إشراك أوروبا في أي منظومة لضمانات أمن أوكرانيا أمر لا بد منه. تصريحات ميرتس تعكس موقفًا أوروبيًّا يريد تحمّل مسؤولية أكبر في أمن القارة، وعدم ترك العبء بالكامل على الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تلتقي هذه التصريحات مع توجه عام لدى واشنطن بأن تضطلع أوروبا بالدور الرئيس في كفالة أمن أوكرانيا مستقبلًا، على أن تدعم الولايات المتحدة هذه الجهود دون أن تقودها مباشرة.
على صعيد أوكرانيا نفسها، جدّد الرئيس فولوديمير زيلينسكي يوم الأحد (الذي وافق عيد استقلال أوكرانيا) مطالبته بضمانات أمنية فعلية على الأرض بعد انتهاء الحرب. ويتمثل المقترح الأبرز الذي يدعو إليه زيلينسكي في نشر قوات دولية أو قوات حفظ سلام أجنبية داخل أوكرانيا لضمان أمنها، وردع أي اعتداء جديد من روسيا. وترى كييف أن وجود قوات أجنبية أو تابعة لتحالفات دولية على أراضيها سيشكّل تعهدًا ملموسًا بحمايتها، ويمنع تكرار ما حدث في فبراير (شباط) 2022. بيد أن موسكو ترفض رفضًا قاطعًا فكرة وجود قوات أجنبية قرب حدودها؛ إذ ترى ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتوسعة فعلية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) على حدود روسيا، وهو ما تعدّه أحد الأسباب الرئيسة في نشوب النزاع بالمقام الأول.
في ضوء هذه المواقف، يقر الخبراء بأن بلورة ضمانات أمنية لأوكرانيا مسألة معقدة، فالخيارات المطروحة تتراوح بين تقديم التزامات دفاعية شبيهة بالمادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو، أي تعهّد الدول الغربية بالرد جماعيًّا على أي اعتداء يستهدف أوكرانيا، ونشر وحدات عسكرية أجنبية على نحو دائم على الأراضي الأوكرانية كقوة ردع، بالإضافة إلى استمرار برامج تسليح الجيش الأوكراني وتدريبه على المدى الطويل. كل هذه التصورات تصطدم برفض روسي قاطع؛ ما يجعل التوصل إلى صيغة مقبولة للجميع أمرًا بالغ الصعوبة في الوقت الراهن. ومع ذلك، يؤكد المسؤولون في كييف، وحلفاؤهم الغربيون، ضرورة إيجاد إطار أمني جديد يبدد مخاوف الأوكرانيين، ويثني موسكو عن أي مغامرة عسكرية مستقبلية قبل الحديث عن توقيع أي اتفاق سلام.
اللافت أن برلين تسعى إلى التوفيق بين ضمان أمن أوكرانيا وعدم استفزاز روسيا في آن واحد. وفي هذا السياق، لم يُبدِ المستشار ميرتس أي موقف واضح حتى الآن بشأن احتمال مشاركة الجيش الألماني نفسه في قوات دولية قد تُنشر في أوكرانيا مستقبلًا. هذا التريث الألماني يعكس حساسية المسألة داخليًّا وأوروبيًّا، لا سيما في ظل تاريخ ألمانيا الحديث والنقاشات بشأن دور جيشها خارج الحدود. ومن المتوقع أن يستمر النقاش بين الحلفاء بشأن ماهية الضمانات الأمنية المقبولة، وكيفية تقديمها لكييف، بالتوازي مع محاولات إحياء مسار التفاوض السياسي عندما تسمح الظروف الميدانية بذلك.
في ظل هذا المشهد العسكري والدبلوماسي المعقد، تواصل الدول الغربية مدّ يد العون لأوكرانيا على الصعيدين العسكري والاقتصادي. وفي هذا الإطار، أعلنت الحكومة النرويجية حزمة دعم مالي جديدة وضخمة لكييف، تؤكد التزام أوسلو المستمر بدعم الأوكرانيين، فقد صرّح مكتب رئيس الوزراء النرويجي يوناس غار ستور -يوم الاثنين- أن النرويج تعتزم تخصيص85 مليار كرونة نرويجية (نحو 7.2 مليار يورو) مساعدات لأوكرانيا في العام المقبل. هذا المبلغ الكبير يساوي ما التزمت به النرويج عام 2025 أيضًا، ما يدل على رغبة أوسلو في الإبقاء على مستوى الدعم المرتفع نفسه في عام 2026.
وإذا حظي هذا المقترح بموافقة البرلمان النرويجي، فإن إجمالي الدعم النرويجي (العسكري والإنساني) المقدم لأوكرانيا بين عامي 2023 و2030 سيقفز إلى نحو 275 مليار كرونة (أي أكثر من 23 مليار يورو)؛ بذلك ترسخ النرويج موقعها كواحدة من أكبر الدول الداعمة لأوكرانيا نسبة إلى حجم اقتصادها. فمن الجدير بالذكر أن النرويج، بفضل عائدات النفط والغاز الكبيرة، أنشأت صندوقًا سياديًّا ضخمًا يتيح لها تقديم مساعدات سخية دون التأثير سلبًا في اقتصادها المحلي، وهذا ما يفسر قدرتها على تقديم دعم بهذا الحجم، مع أن تعداد سكانها لا يتجاوز 5 ملايين نسمة.
وأكد رئيس الوزراء ستور -في بيان رسمي- أن الحكومة ترغب في تمديد برنامج الدعم الاستثنائي لأوكرانيا عامًا إضافيًّا بالزخم نفسه، وقال: “على الرغم من الحديث عن وقف إطلاق النار والسلام، فإن الحرب في أوكرانيا لا تزال مشتعلة. وفي ظل هذا الوضع، من المهم أن نظل على عهدنا في تقديم دعم قوي ومتواصل لأوكرانيا على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية كافة”. بهذا التصريح، شدد ستور على أن أي حديث عن حلول سلمية أو وقف للقتال يجب ألا يكون ذريعة لتقليص المساعدات، بل على العكس، يستوجب الأمر استمرار الوقوف إلى جانب أوكرانيا حتى تتضح معالم السلام الحقيقي.
تزامنت هذه الإعلانات مع زيارة رئيس الوزراء النرويجي إلى كييف، حيث التقى بالرئيس زيلينسكي، وناقشا سبل تعزيز صمود أوكرانيا في الحرب. وأكد ستور خلال الزيارة أن أوسلو ملتزمة بدعم أوكرانيا على المدى البعيد، سواء عن طريق المساعدات المباشرة، أو من خلال المنظمات الدولية. ومن المقرر أن تُدرج هذه المساعدات الضخمة ضمن موازنة النرويج لعام 2026 التي ستعرضها الحكومة على البرلمان في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. ولأن الحكومة النرويجية الحالية حكومة أقلية، فهي بحاجة إلى تأييد أحزاب المعارضة لتمرير الموازنة. ورغم بعض النقاش الداخلي بشأن حجم المبالغ المخصصة للخارج، فإن الدعم لأوكرانيا يحظى بإجماع كبير في الأوساط السياسية النرويجية، مما يجعل إقرار هذه الحزمة أمرًا مرجحًا.
وفي المجمل، تعكس الخطوة النرويجية حرص الدول الأوروبية على إظهار وحدة الصف في مساندة أوكرانيا، وإيصال رسالة واضحة إلى موسكو مفادها أن المساعدات لن تتوقف ما دامت الحرب مستمرة. فإلى جانب النرويج، تواصل دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، تقديم دعم عسكري واقتصادي بمليارات الدولارات لكييف، في سباق لتعزيز موقفها التفاوضي وصمودها الميداني.
في المحصلة، وبينما تتواصل المعارك الميدانية دون حسم واضح، تبقى آفاق السلام معلقة على قدرة الوسطاء الدوليين على إيجاد تسوية ترضي جميع الأطراف، أو على تغير المعطيات على أرض المعركة. وحتى ذلك الحين، تستمر أوكرانيا في تلقي الدعم الغربي المكثف لتعزيز صمودها، في وقت تراهن فيه موسكو على إحراز المزيد من المكاسب التدريجية. وهكذا، يظل المشهد العام في أوكرانيا مزيجًا من نار الحرب وجمود الدبلوماسية، تقدم ميداني يقابله جمود سياسي، في انتظار لحظة قد يلوح فيها الحل، أو قد يشهد فيها النزاع تصعيدًا آخر يغير الحسابات.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.