في 4 مايو (أيار) 2025، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن الوزير سيرغي لافروف أبدى -في اتصالات متعاقبة مع نظيريه الباكستاني إسحاق دار والهندي سوبرامانيام جايشانكار- استعداد موسكو “للعمل من أجل تسوية سياسية” إذا أبدى الطرفان رغبة متبادلة . يأتي العرض بعد أقلّ من أسبوعين على هجوم باهالجام في كشمير (22 أبريل/ نيسان)، الذي خلّف 26 قتيلًا، وتسبّب في موجة تصعيد شملت اختباراتٍ صاروخية باكستانية، وإطلاق نارٍ ليلي عبر خط السيطرة.
يستدعي العرض الروسي استحضار سابقة تاريخية بالغة الأهمية: إعلان طشقند الذي وقّعه الاتحاد السوفيتي في يناير (كانون الأول) 1966 لإنهاء حرب 1965 بين الهند وباكستان. آنذاك أدى رئيس الوزراء السوفيتي أليكسي كوسيغين دور الوسيط، وقد قبل الطرفان بالتسوية تحت وطأة الإرهاق العسكري، وضغط المجتمع الدولي . غير أنّ نجاح طشقند لم يُشكّل نموذجًا دائمًا؛ إذ انفجرت حرب عام 1971 بعد خمس سنوات فقط، وتوالت الأزمات الحدودية على نحو متقطِّع، لكن بقاء تجربة الوساطة السوفيتية راسخة في الذاكرة الدبلوماسية لنيودلهي وإسلام آباد يمنح موسكو رصيدًا رمزيًّا تحاول توظيفه من جديد.
من الناحية البنيوية، تمتلك روسيا اليوم أوراق تأثير مادية في العاصمتين؛ فهي لا تزال أكبر مصدر للسلاح إلى الهند، بما في ذلك منظومات الدفاع الجوي “إس- 400” ومقاتلات “سو- 30 إم كاي آي”، ما يمنحها قدرة على الإيحاء بنفوذ سياسي يفوق وزنها الاقتصادي الراهن. في الوقت نفسه، شرعت موسكو منذ 2020 في تطوير علاقات طاقة متسارعة مع باكستان، أبرزها مشروع خط أنابيب “باكستان ستريم” للغاز، كما كثّفت التدريبات العسكرية المشتركة، في محاولة لتقليل الفجوة التقليدية بين شراكاتها في جنوب
لكنّ هذا “النفوذ المزدوج” يظل عرضةً لتحدّيات ثلاثة؛ أولها: التشابك الإستراتيجي الهندي- الأمريكي في إطار “الرباعية” (QUAD)، الذي يحدّ من استقلال قرار نيودلهي إزاء عروض الوساطة الروسية. ثانيها: اعتماد باكستان المتزايد على الاستثمارات الصينية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، وما تملكه بكين من حقّ فيتوٍ غير معلَن على أي صيغة إقليمية لا تراعي مصالحها. وثالثها: تداعيات العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي؛ ما يقيد حزمة الحوافز الاقتصادية التي يمكن أن تعرضها موسكو للطرفين.
تتفاقم الأزمة الراهنة بسبب ديناميات داخلية متوازية. في الهند يتعرض الائتلاف الحاكم لضغط شعبي يطالب بردّ “حاسم، لكن محدود” على هجوم باهالجام. وفي باكستان برزت التجربة البالستية لصاروخ “عبدلي” في 3 مايو (أيار) كرسالة استعدادٍ عملياتي وكرسالة ردعٍ في آن معًا، ما قوبل في نيودلهي بقراءة تعتبره “عملًا استفزازيًّا”. وإلى جانب تبادل إطلاق النار الليلي، اتخذ البلدان سلسلة إجراءات انتقامية شملت إغلاق المجال الجوي، وتجميد التجارة البرية والبحرية، وطرد الدبلوماسيين. هذه الإجراءات ترفع كلفة اللا حرب واللا سلم معًا، وتخلق حاجةً فورية لوسيط يقدّم “مخرجًا مشرَّفًا” يحفظ ماء وجه القيادات السياسية أمام جمهورين تتصاعد فيهما النزعات القومية.
على الصعيد النظري، تنطبق على المبادرة الروسية عناصر نموذج الحياد النافع في الوساطة الدولية، أي الجمع بين حد أدنى من الحياد وقدرة على تقديم حوافز وضغوط معًا؛ فموسكو تستطيع -من جهة- استخدام صفقاتها التسليحية كعصا وجزرة مع الهند، وهي قادرة -من جهة أخرى- على ربط التسهيلات الائتمانية في قطاع الطاقة الباكستاني بطبيعة السلوك الأمني لإسلام آباد. غير أنّ هذا الحياد مقيَّد تاريخيًّا بانحيازٍ موضوعي نحو نيودلهي، ما يستلزم آلية إشراف متعددة الأطراف -كإشراك الأمم المتحدة، أو منظمة شنغهاي للتعاون- لكسب ثقة باكستان.
تتباين آفاق الوساطة تبعًا لمعادلة الإرادة السياسية. فإذا قبل الطرفان وقفًا فوريًّا لإطلاق النار تحت مراقبة دولية، يمكن عندئذٍ تشكيل لجنة تحقيق ثلاثية (روسية- هندية- باكستانية) في هجوم باهالجام، يليها جدول زمني لإحياء الحوار بشأن كشمير وأمن الأنهار العابرة للحدود. أما إذا استمر تبادل الضربات المحدودة، فستتحول المبادرة الروسية إلى مجرد خطوة في مسار تدويل الأزمة داخل مجلس الأمن الذي دعا أصلًا إلى “أقصى درجات ضبط النفس”. ويظلّ أسوأ السيناريوهات هو انزلاق الطرفين إلى سباق ضربات تقليدية- نووية قصيرة المدى، حيث يتضاءل هامش أي وساطة مفردة، ويزداد خطر الانشطار الإقليمي.
في السياق الراهن، تبدو نافذة الدبلوماسية ضيّقة لكنها لم تُغْلَق بعد. الخطوة الأولى لنجاح أي وساطة هي الحصول على التزام صريح من القيادتين السياسيتين في الهند وباكستان بوقف إطلاق النار على خط السيطرة، وهذا الالتزام لا يُقاس بالتصريحات العلنية وحدها؛ بل يتطلّب أوامر عمليات واضحة إلى الوحدات الميدانية، وتفعيل خطوط الاتصال العسكري المشترك لمنع الحوادث العرضيّة التي كثيرًا ما تتحوّل إلى شرارات اشتعال متجدّدة.
تحتاج الوساطة كذلك إلى حزم حوافز تخلق منافع فورية للطرفين: إعفاءات جمركية مؤقّتة للتجارة العابرة للحدود، وضمانات لتدفّق مياه نهر السند وفق الجداول الزمنية المتّفق عليها، وتمويلات ميسّرة لإعادة إعمار منشآت السياحة المدمَّرة في وادي كشمير. هذه الحوافز ليست ترفًا؛ فهي تمثِّل جسر الثقة الوحيد القادر على تحويل التهدئة العسكرية إلى مكسبٍ ملموس يلمسه السكان؛ ما يقلّل الضغوط الشعبية المطالِبة بالتصعيد.
من جهةٍ أخرى، لم يعد ممكنًا تجاهل العامل الإنساني في أي صيغة تسوية. يعيش نحو ثمانية ملايين إنسان على جانبي خط السيطرة تحت وطأة حظر تنقّل متقطّع، وخوفٍ دائم من القصف. إدراج قضايا حرية الحركة للعائلات المشتّتة، وتسهيل وصول المنظمات الطبية الدولية، وإعادة فتح المعابر الموسمية لتبادل السلع الأساسية يمكن أن يحوّل الوساطة من مجرّد اتفاق نخبوي إلى مسارٍ يعالج المعاناة اليومية للسكان.
ويضطلع المجتمع المدني بدور غير مسبوق في هذه المرحلة، فالجمعيات الحقوقية في كلٍّ من سريناغار ومظفر آباد باتت تربط بين الأمن البشري والتنمية الاقتصادية، وتقدِّم مقترحاتٍ لإنشاء مناطق تجارية منزوعة السلاح تُدار بشراكة بين سلطات الطرفين. إذا ما وجدت هذه المبادرات طريقها إلى طاولة التفاوض الرسمية فسوف تضخّ أفكارًا جديدة، وتكسر نمط المحادثات العسكرية الصرف، التي غالبًا ما تنتهي إلى “هدنات مؤجَّلة”، بدلًا من حلول دائمة.
على الصعيد الإقليمي، تستطيع منظمة شنغهاي للتعاون تقديم مظلّة تقنية لآليات الرقابة. إرسال فريق مراقبين مشترك من الدول الأعضاء سيمنح العملية شفافيّة مقبولة، ويُجنّب موسكو اتهامات الانحياز. الأهم أنّ إشراك أطراف أخرى، كإيران وآسيا الوسطى، سيُوزِّع كلفة ضمان الأمن، ويُنشئ شبكة مصالح تتضرّر جميعها إذا انهارت التهدئة.
أخيرًا، لا تُقاس الوساطة الناجحة بعدد الاجتماعات أو الصور التذكارية؛ بل بقدرتها على تغيير معادلة “التصعيد- التهدئة” التي تحكم خط السيطرة منذ عقود. إذا استطاعت روسيا أن تنتقل بالعملية من مجرّد وقف إطلاق النار إلى جدولٍ واضح لتسوية النزاعات بشأن المياه، والترتيبات الحدودية، والتنمية المشتركة، فإن أزمة 2025 قد تتحوّل من تهديدٍ إقليمي إلى فرصةٍ تاريخية لإطلاق مسار سلام طويل الأمد. أمّا إذا بقيت العروض الدبلوماسية بلا أذرع تنفيذية، فسيتكرّر المشهد نفسه عند أول حادث أمني، وتعود كشمير إلى دائرة الاشتعال التي لم تغادرها طويلًا منذ ما يقرب من ثمانية عقود.
مع أنَّ العقيدة النووية لكلٍّ من الهند وباكستان تقوم على فكرة “الردع”، فإنّ قرب الجبهات وتكاملها مع الأسلحة التقليدية يرفع احتمالات سوء الفهم في لحظة تصعيد. إنّ أيّ إطلاق صاروخي خاطئ، أو تفسير مفرط للإنذارات المبكّرة، يمكن أن يجرّ الطرفين إلى دوّامة انتقام متبادل خلال دقائق؛ لذلك يصبح إدراج بروتوكولات تحقّق ثنائية، وخطوط هاتفية آمنة على مستوى هيئة الأركان، عنصرًا لا يقلّ أهمية عن وقف النار نفسه.
منذ بداية الأزمة، أدت القنوات التليفزيونية والفضاء الرقمي دورًا مضاعِفًا للتوتّر؛ إذ غالبًا ما تتصدّر العناوين كلماتٌ نارية تحوِّل الحوادث الحدودية إلى معارك وطنية. إنّ وضع “مدوّنة سلوك” إعلامية مؤقتة، تتعهد بموجبها كبرى الشبكات في البلدين بتجنّب التحريض، وتبنّي لغة مسؤولة، قد يسهم في تهدئة الرأي العام ويخلق هامشًا للحوار السياسي.
مع تصاعد ظاهرة الاحتباس الحراري، تصبح أحواض الأنهار المشتركة -خاصةً حوض السند- قضيةً مصيرية تتجاوز بعدها التقني إلى الأمني. إعادة تنشيط “لجنة السند المشتركة”، ومنحها صلاحيات طارئة لتسوية النزاعات المائية في زمن الجفاف سيقلّل استخدام المياه كأداة ضغط في لحظات الأزمات العسكرية.
يعيش ملايين من أبناء البلدين في الخليج وأوروبا وأمريكا الشمالية، ويمتلكون تأثيرًا اقتصاديًّا من خلال التحويلات المالية والضغط السياسي عبر اللوبيات المحلية. حثّ قيادات الشتات على إطلاق مبادرات حوار مجتمعي، وتمويل برامج تنموية مشتركة في كشمير، يمكن أن يضيف بُعدًا شعبيًّا لعملية السلام، ويحضّ السياسيين على اتخاذ قرارات جريئة.
أظهرت الدراسات أنّ فتح معبر “وازير آباد- جمّو” وحده قد يرفع تجارة الترانزيت الثنائية من أقل من مليار دولار إلى خمسة مليارات في غضون ثلاث سنوات، وربط شبكة الغاز الروسية المستقبلية بمرافئ كراتشي وبورت كاسم، ثم مدّ وصلةٍ نحو ولاية غوجارات الهندية، يحوّل الإقليم من منطقة صراع إلى عقدة طاقة إقليمية، بشرط ضمانات أمنيّة ثابتة.
تُظهر الوساطة التي عرضتها موسكو أنّ احتمالات الحلّ السياسي ما زالت قائمة، لكنّها ترتبط بسباق مع الزمن، فكلّ يوم يمرّ من دون وقفٍ لإطلاق النار يُقلِّص هامش الدبلوماسية، ويُضاعف خطر انزلاق الهند وباكستان إلى دورة انتقام غير قابلة للضبط، ولا سيما في ظلّ التداخل بين قدراتهما النووية والعمليات الحدودية السريعة. تمتلك روسيا أوراق ضغط وجذب متوازنة نسبيًّا (المبيعات الدفاعية للهند وخطوط الطاقة لباكستان) لكن رصيدها التاريخي المائل إلى نيودلهي يُحتِّم إشراك الأمم المتحدة، أو منظمة شنغهاي للتعاون؛ لإضفاء حياد مؤسسي على العملية. نجاح المبادرة يتطلّب التزامًا علنيًّا وفوريًّا من العاصمتين بوقف النار، وتفعيل خطوط اتصال عسكرية لمنع الحوادث، وطرح حزمة حوافز اقتصادية وإنسانية ملموسة: إعفاءات جمركية، وتمويل إعادة إعمار السياحة الكشميرية، وضمان تدفّق مياه السند. كذلك لا يمكن تجاهل العامل الشعبي والإعلامي؛ إذ ينبغي تهدئة الخطاب الداخلي في البلدين من خلال مدوّنة سلوك إعلامية، ودعم مبادرات المجتمع المدني والشتات في برامج تنمية مشتركة. إذا تحققت هذه الشروط، وتحولت الهدنة إلى مسارٍ يعالج ملفات المياه والتنمية والتجارة، فقد تصبح أزمة 2025 منصةً لإعادة تعريف كشمير من بؤرة صراع إلى فضاء تعاون إقليمي، أمّا إذا بقيت الوساطة بلا أدوات تنفيذية، فسيتكرّر مشهد الاشتعال عند أول حادث جديد، وستستمرّ الدائرة المفرغة من التصعيد والتهدئة التي تطبع الإقليم منذ عقود.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.