في الحرب الروسية الدائرة حاليًا في أوكرانيا، يتكرر لدى المنظّرين من علماء الجغرافيا السياسية، وبين القوميين الروس، مصطلح “مالو- روسيا Malorussia “، أو “روس الصغرى Малая Русь” في إشارة إلى أوكرانيا.
يرفض الجانب الأوكراني هذا المصطلح الشائك، ويرونه من ميراث التاريخ. والحقيقة أن مصطلح “روسيا الصغرى” ظهر أولًا مصطلحًا تاريخيًّا وإداريًّا قبل عدة قرون، خلال صراع روسيا مع القوى المنافسة في أوروبا غربًا، والدولة العثمانية جنوبًا.
تأسست جذور هذا المصطلح منذ نهاية الحكم المغولي وظهور إمارة موسكو الحديثة، لا سيما في القرنين الثالث عشر، والرابع عشر، حين بدأت هذه الإمارة تنمو بالتدريج، وتصبح القيصرية الروسية العظمى، وتتحول لاحقًا إلى إمبراطورية كبرى.
وتذهب بعض الدراسات إلى أن مصطلح “روسيا الصغرى” لم ينشأ إلا في القرن الرابع عشر بوصفه تعبيرًا دينيًّا مسيحيًّا إداريًّا، ولا علاقة له بالسياسة أو الجغرافيا.
فالروس الذين اعتنقوا المسيحية في القرن العاشر أسسوا كنيسة أرثوذكسية في تقليد مباشر للكنيسة البيزنطية في إمارة موسكو الكبيرة، في مقابل قيام كنيسة أصغر إلى الغرب من نهر الدنيبر في الإقليم التاريخي “جاليتشا”، الذي يقع اليوم غير بعيد عن المدينة الأوكرانية الشهيرة “لڤيڤ” قرب الحدود مع بولندا.
وفق هذا الرأي، فإن “روس الكبرى ” في مقابل “روس الصغرى” كان مصطلحًا يشير إلى أعداد المؤمنين أو التابعين للعقيدة الأرثوذكسية في الإقليمين، وليس له مغزى جيوبوليتيكي كما يظن كثير من النقاد.
ويدعم هذا الرأي أننا في جغرافية مصر قبل الإسلام كنا نعرف التقسيم الإداري في العصر البيزنطي وفق “الأبرشيات المسيحية”، وكانت الأقاليم المصرية خاضعة في جزء منها للتنظيم الإداري وفق حجم الأبرشية، وعدد المعتنقين فيها.
غير أن اسم “روسيا الصغرى” سرعان ما اندثر واختفى عدة قرون من جرّاء اختفاء الأثر البيزنطي، وصعود التأثير العثماني الإسلامي، الذي استولى أصلًا على بيزنطة، وحوّل عاصمتها من عاصمة ديار المسيحية إلى عاصمة ديار الإسلام.
ومع الصراع بين بولندا وروسيا في القرن الثامن عشر، عقد بعض قادة المقاومة الأوكرانية للاستعمار البولندي تحالفًا مع روسيا؛ ومن ثم عاد مصطلح “روسيا الصغرى” ليكتسب هذه المرة صفة جغرافية سياسية وجيوبوليتيكة، معبرًا في الوقت نفسه عن حقيقة ضعف أوكرانيا، وحاجتها إلى الحماية، فلجأت إلى الشقيقة الكبرى: الإمبراطورية الروسية.
سيتوغل مفهوم “الأخ الأكبر” لاحقًا في التراث الشيوعي في القرن العشرين في علاقة روسيا بالجمهوريات السوفيتية الأربع عشرة التي كانت تتبع روسيا، باعتبار أن الأخ الروسي الأكبر هو الأكثر كرمًا وحكمةً وسخاءً وتقدمًا.
لكن ذلك سيتحول- بمرور الوقت- إلى شكوى هذه الجمهوريات من الأخ الأكبر الذي تحول إلى “الأخ المتسلط” أو المستبد، الذي يريد فرض رأيه على الأشقاء الصغار، وإبقاءهم تابعين خاضعين، لا نظراء، ولا أنداد.
وبالطبع يمكن فهم الحرب الدائرة حاليًا في أوكرانيا- في جزء منها- من زاوية العلاقات المتوترة بين الأخ الأصغر والأخ الأكبر، ولا سيما أن الأخ الأصغر هنا وجد مؤيدين وداعمين من أعداء متربصين بالأخ الأكبر (في الناتو الأوروبي والأمريكي).
في المقابل، يتداول الناس حاليًا أيضًا مصطلح روسيا الجديدة “نوڤوروسيا”، الذي ظهر لأول مرة في القرن التاسع عشر، وكان يقصد به الأجزاء الشرقية والجنوبية المطلة على البحر الأسود من أوكرانيا، وكان يعني “روسيا الجديدة”.
يمتد هذا الإقليم شرقًا من حوض نهر الدونيتس حتى ميناء أوديسا في غرب البحر الأسود، وقد صاغت السلطات الروسية هذا الاسم في ثمانينيات القرن التاسع عشر، في عهد القيصرة “يكاترينا الثانية”.
والملاحظ أن الأقاليم الجنوبية لروسيا على البحر الأسود منذ نهاية القرن الثامن عشر حملت عددًا من أسماء “روسيا الجديدة”، وفي مقدمتها الميناء الرئيس الكبير على البحر الأسود، واسم “نوفوروسيسك”، أي “ميناء روسيا الجديدة”، الذي كان له دور إستراتيجي كبير في التحضير لغزو القرم وجنوب شرق أوكرانيا.
وتسعى روسيا منذ عام 2014 إلى إحياء مجد “نوڤوروسيا” في شرق أوكرانيا وجنوبها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.