إستراتيجيات عسكريةتقدير موقف

لماذا إعلان اختبار هذا الصاروخ المرعب الآن؟

“رسول العاصفة”.. إلى من يرسله بوتين؟


  • 27 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: cbc.ca

في السياسة الروسية، لا شيء يعلن مصادفة، هذا ما تعلمته من سنوات الدراسة والعمل في هذا البلد. حين يتحدث فلاديمير بوتين من وسط قاعة إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا عن اختبار صاروخ “بوريفيستنك” النووي، فهو لم يكن يخاطب العسكريين الروس فحسب؛ بل يوجه رسالة إلى الداخل والخارج معًا.

في صباح 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 فاجأنا الكرملين بمقاطع بثتها القنوات الروسية الرسمية للرئيس فلاديمير بوتين وهو يترأس اجتماعًا بحضور كبار القادة العسكريين فقط، في غرفة عمليات قيادة الحرب في أوكرانيا.

إعلان الكرملين قال إن الاجتماع مخصص لمراجعة تطورات المجمع الصناعي العسكري الروسي، لكن بوتين، بجانب تطورات التقدم الروسي في أوكرانيا، وإعلان تطويق 5 آلاف جندي أوكراني في كوبيانسك، ونحو 5 آلاف وخمسمئة آخرين في كراسنوأرميسك، أعلن أن الاختبارات النهائية لصاروخ كروز النووي بوريفيستنك قد اكتملت بنجاح، بناءً على تقرير قدمه رئيس هيئة الأركان العامة فاليري جيراسيموف.

مع أن هذا الإعلان جاء في صيغة رسمية مقتضبة، لكن توقيته ومكانه جعلاه -في رأيي- حدثًا سياسيًّا بامتياز، فهذا أول تأكيد علني من بوتين لانتقال هذا المشروع من مرحلة التجريب إلى الجاهزية المبدئية لدخوله ودمجه في القوات المسلحة. وقد تناولت في مقال سابق إعلان الرئيس الروسي، في مؤتمر صحفي من العاصمة الطاجيكية دوشنبه، في ختام زيارته الرسمية إليها، يوم الجمعة 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، قرب ظهور سلاح روسي جديد قوي تقنيًّا يمر الآن بمرحلة اختبارات ناجحة.

وبذلك لا يأتي إعلان اليوم كمجرد إشارة إلى إنجاز تقني عسكري روسي فحسب؛ وإنما إعلان مدروس، من حيث الشكل والمضمون، بأن روسيا تدخل مرحلة جديدة في معادلة الردع الإستراتيجي لكل من يتربص بها، مصرحًا بذلك أو مضمرًا.

تكتسب هذه اللحظة أهميتها من كونها تأتي بعد أسابيع من تصاعد الاشتباكات الجوية في العمق الروسي، ووسط ضغوط غربية متزايدة على الصناعات العسكرية الروسية؛ ما يجعل هذا الإعلان البوتيني وكأنه رسالة إستراتيجية إلى أن روسيا تجاوزت عنق التطوير التقني بامتلاكها سلاحًا خارقًا ونوعيًّا خارج نطاق الدفاعات الغربية، أي لا يستطيع أي بلد في الغرب اعتراضه أو إسقاطه.

بوتين بتعدداه قدرات هذا الصاروخ، لم يكن هدفه -حسب فهمي الشخصي بالطبع- شرح التفاصيل الفنية والتقنية لهذا السلاح القوي؛ بل ترسيخ فكرة أن موسكو أنهت اليوم مرحلة الشكوك بشأن “بوريفيستنك”، وهي الشكوك التي صاحبته منذ الإعلان الأول عنه، أيضًا على لسان الرئيس الروسي في رسالته إلى الجمعية الفيدرالية عام 2018، حسبما أتذكر، وبذلك بدأت مرحلة توظيفه الفعلي كجزء من معادلة الردع مع الخصوم.

إنه العاصفة الروسية الجديدة، فاسم الصاروخ وحده يختصر الرسالة. “بوري فيستنك”، وهذه الكلمة في الروسية مركبة من مقطعين، إذا نقلناه إلى العربية، فأقرب معنى لها -بحسب معرفتي المتواضعة باللغة الروسية- يكون المقطع الأول “فيستنك” ومعناه “رسول” أو “مبشّر”، والمقطع الثاني “بوريا” ومعناها “العاصفة”، واخترتُ لها كاملة معنى “رسول العاصفة”؛ لأنه التعبير الذي يحمل -حسب فهمي- الدلالة التي يضعها الروس في هذا المفهوم.

هناك بالطبع طائر بحري يحمل الاسم نفسه، أي يُسمى “بوريفيستنك”، وهو يحلق في وجه الريح، ولا يهاب العواصف، ويُعد في الأدب الروسي رمزًا للثورة وللجرأة، خصوصًا منذ أن مجَّده أديب الثورة البلشفية، مكسيم غوركي في عمله الشهير” أنشودة نذير العاصفة”. وقد يكون هذا المعنى مشمولًا أيضًا في الاسم.

لكن حسبما أفهم السياقات، عندما تختار موسكو هذا الاسم لسلاح نووي جوال، فإنها لا تختار مصطلحًا شعريًّا؛ بل تُحمله حمولة رمزية كثيفة، مغزاها: روسيا لا تخشى العاصفة؛ بل تبشّر بها.

الصاروخ نفسه إذا تحدثنا باختصار عن خصائصه، حسبما يقول الخبراء العسكريون، فسنجد أنه يجسد هذا المعنى، فهو منظومة كروز مزود بمفاعل نووي صغير يتيح له مدى غير محدود تقريبًا، فضلًا عن قدرة على التحليق أيامًا كاملة على ارتفاع منخفض، ويستطيع تجاوز كل أنظمة الدفاع الجوي الغربية. هذا يعني أنه -عمليًّا- سلاح مصمم ليتسلل لا ليصطدم، أي ليربك الخصم بقدر ما يهدده؛ ولذلك فإن ما أعلنه بوتين ليس مجرد نجاح في المختبر؛ بل إشارة إلى تحول في فلسفة الردع الروسية، أي التحول من الردع الكلاسيكي القائم على السرعة والضربة الماحقة إلى الردع القائم على الغموض والديمومة، والتسلل غير القابل للتنبؤ، فموسكو تدرك أن قدراتها الاقتصادية الحالية لا تمنحها رفاهية الدخول في سباق تسلح تقليدي مع الغرب، ينهكها تمامًا، كما فعل الاتحاد السوفيتي.

الخطاب الذي رافق الإعلان لا يقل أهمية عن هذه القطعة العسكرية التقنية الفريدة في ذاتها؛ ففي لحظة يواجه الاقتصاد الروسي ضغوطًا غير مسبوقة بعد إعلان الأوروبيين حزمتهم التاسعة عشرة ضده، واقترانها بعقوبات “ترمبية” أولى منذ عودته إلى البيت الأبيض، وتحديدًا على أكبر شركتي نفط روسيتين، وخصوصًا مع إثقال الحرب كاهل المجتمع، لتأتي عبارة بوتين: “صاروخ لا نظير له في العالم” كرسالة معنوية للداخل الروسي أن روسيا ما زالت رغم كل هذه الضغوط، والحصار الاقتصادي، قادرة على الإبداع، وقادرة على سبق الغرب، وقادرة على إنتاج “معجزتها النووية”.

إنها -بحسب تخيلي لما يدور في رأس بوتين- محاولة مدروسة بعناية، ومتفقة مع تحدي اللحظة لإحياء الثقة بالقدرات الوطنية، وإعادة شحن المزاج العام الذي يتأرجح بين الصمود والإرهاق، فهذا الإعلان -والمشروع نفسه- يقدم في هذه اللحظة التاريخية بوصفه رمزًا للعلم الروسي المنتصر، أكثر من كونه ترسانة إضافية في المخزون النووي الرهيب.

لكن “رسول العاصفة” لا يتوجه إلى الروس؛ فالرسالة الحقيقية -في اعتقادي- هي: اذهب إلى العواصم الغربية التي لا تمل من اللقاءات والاجتماعات التي تراهن فيها على إنهاك روسيا في حرب أوكرانيا. فبوتين يقول -من دون أن يصرح- إن موسكو لا تزال تمسك بأوراق كبرى لم تُستخدم بعد، وإن الردع الروسي لم يفقد قدرته على المفاجأة.

لن تكون واشنطن أو بروكسل قادرة بعد الآن على الحديث عن “درع صاروخي محصن”، ولا عن “تفوق تقني أطلسي”؛ فصاروخ بقدرة تحليق نووية مستمرة يعني ببساطة أن الحدود الجغرافية فقدت معناها في الحسابات النووية بالطبع؛ وبهذا يضع بوتين على الطاولة بعدًا رمزيًّا جديدًا للردع، فمن منظور موسكو لا يقاس الردع بعدد الرؤوس النووية فقط؛ بل بالقدرة على إعادة تعريف الخوف لدى الخصم.

بوريفيستنك هو سلاح للغموض بامتياز، فلا يوجد أحد -خارج الدائرة المغلقة- يعرف مدى فعاليته الحقيقية أو الفعلية، أو حتى درجة جاهزيته. وهذا الغموض نفسه هو ما تريده موسكو والكرملين وبوتين؛ أن يبقى الغرب في حالة شك دائم.

إنه منهج الردع النفسي نفسه الذي ميز الحرب الباردة، لكن بأدوات جديدة وأكثر تطورًا. لا حاجة أن يضرب الصاروخ لكي يؤدي وظيفته؛ بل يكفي فقط أن يتم الإعلان عنه في اللحظة المناسبة، ليعيد ضبط ميزان الخوف والثقة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع