في عام 2002، في مدينة الجزيرة الخضراء بجنوب إسبانيا، الواقعة على الساحل الغربي لخليج جبل طارق، مقابل صخرة جبل طارق الشهيرة مباشرة، أُنشئ نصب تذكاري لرجل الدولة البارز والقائد العسكري الكبير لعرب الأندلس في القرن العاشر، المنصور بن أبي عامر. وبحسب الأسطورة، فإن المنصور جاء من هذه الأماكن، وتم توقيت تركيب التمثال بالقرب من أسوار المدينة القديمة ليتزامن مع الذكرى الألف لوفاته. يصور النصب البرونزي المهيب، الذي نُفِّذَ على الطراز الحديث، محاربًا قديمًا يحمل القرآن في يده اليمنى وسيفًا في يده اليسرى، في حين تعبر نظرته الفخورة والبعيدة- إلى حدٍ ما- من فوق صخب المدينة إلى سماء إسبانيا التي لا نهاية لها، عن حاكم واثق بنفسه.
لكن النصب التذكاري لم يقف على قاعدته فترة طويلة. وبعد أحد عشر عامًا، فكّكته السلطات البلدية ممثلة في ممثلي حزب الشعب الإسباني اليميني، بحجة أعمال الترميم العاجلة. لقد تأخرت عملية ترميم التمثال كما كان متوقعًا، ورأى اليساريون المحليون (بوديموس وحزب العمال الاشتراكي) دوافع سياسية واضحة في قرار المسؤولين البلديين. ونتيجة لذلك، ظل النصب التذكاري المشؤوم- أكثر من عقد من الزمان- موضوع نزاعات لا نهاية لها بين اليمين واليسار، وبين السياسيين أنفسهم، وكذلك بين الناشطين الاجتماعيين، والصحفيين، والمدونين.
يجادل معارضو النصب التذكاري بأن هذا المحارب المسلم، الذي لم يكل ولم يرحم أعداءه، لا مكان له بين النصب الأثرية ذات الأغلبية المسيحية. وبشكل عام، هذه الشخصية المشكوك فيها، المشهورة بفظائعها الكثيرة، وتعصبها، وقسوتها، لا تستحق أي نصب تذكاري. ويتهم أنصار إحياء ذكرى المنصور- من جانبهم- معارضيهم بالرغبة في نسيان الحقبة المغاربية الرائعة في تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية، والتقليل من أهمية التراث العربي في إسبانيا الحديثة، فضلًا عن رفض جعله ذكرى، وأن هذا النصب التذكاري وغيره، أشبه باعتذارات متأخرة، ولكنها لا تزال ضرورية، إلى العالم الإسلامي، بسبب التجاوزات المؤسفة المختلفة التي حدثت في حرب الاسترداد.
ومن المفارقات أنه في محيط الجزيرة الخضراء في عام 710، قام المسلمون بأول هبوط لهم على الأراضي الإسبانية، ومن هنا بدأ تاريخ إسبانيا العربية أو الأندلس، الذي امتد إلى ما يقرب من ثمانية قرون. وفي القرون اللاحقة، كانت الجيوش الإسلامية، والدعاة الإسلاميون، وعلماء الدين، وحتى الأمراء والخلفاء المستقبليون، يعبرون بانتظام الجزيرة الخضراء من الساحل الإفريقي إلى أوروبا.
مهما كان الأمر، فإن شخصية المنصور لا تزال موضوع نقاش ساخن، يتجاوز بكثير مجتمع المؤرخين المحترفين. وفي إسبانيا، يمكنك العثور على آثار أخرى لشخصيات بارزة من عصر الحكم العربي، لكن لم يصبح أي منها حتى الآن موضوع مثل هذا النقاش الساخن. لا يوجد كثير من رجال الدولة القادرين على التسبب في عواصف من العواطف حتى بعد مرور ألف عام على وفاتهم (دعونا نتذكر أننا منفصلون عن شخصية إيفان الرهيب، التي لا تقل إثارة للجدل بمقدار نصف المسافة التاريخية). لفهم هذه المشاعر، من المفيد القيام برحلة قصيرة- على الأقل- إلى تاريخ إسبانيا خلال الحكم العربي.
نزل العرب لأول مرة على الشاطئ الغربي لخليج جبل طارق عام 710، أي قبل أكثر من قرنين من ميلاد المنصور. على وجه الدقة، لم يكن هؤلاء في البداية عربًا، بل أمازيغ من بلدان المغرب الكبير الذين اعتنقوا الإسلام مؤخرًا، وكانوا خاضعين للعرب. ومع ذلك، نظرًا إلى أن الغارة الأمازيغية على جنوب إسبانيا شكلت نجاحًا غير متوقع، فقد عُزّز الوجود الأمازيغي بعد عامين بقوة استكشافية عربية، وفي غضون عقد من الزمن احتلت القوات الأمازيغية العربية المشتركة تقريبًا جميع أراضي شبه الجزيرة الإيبرية حتى جبال البيريني. كان الغزو أشبه بمسيرة انتصار: “من بين المدن الإسبانية الكبرى، كانت إشبيلية هي الوحيدة التي أبدت مقاومة عنيدة عدة أشهر”. وبعد عشرين عامًا من الإنزال الأول في الجنوب، امتد الفتح الإسلامي إلى جبال البيريني، وانتشر عبر جنوب غرب فرنسا، حيث أوقفه شارل مارتل في نهاية المطاف في معركة بواتييه الشهيرة عام 732.
هل كان من الممكن أن يتقدم العرب إلى الشمال من إسبانيا؟ غالبًا ما يلجأ المؤلفون الغربيون إلى “التاريخ البديل”، حيث يضعون السيناريوهات المروعة المحتملة لتطور الأحداث في أوروبا المسيحية في حالة هزيمة شارل مارتيل في معركة بواتييه، لكن ما يبدو هو أن هذه المعركة لا تمثل أهمية تاريخية أساسية. من غير المرجح أن يكون العرب قد وضعوا خططًا جادة لاحتلال أوروبا الغربية واستعمارها على المدى الطويل، ولم يكن هذا الجزء من القارة الأوروبية ذا قيمة خاصة في نظرهم. كان خيال الفاتحين العرب أكثر حماسة تجاه القسطنطينية الغنية والمألوفة لهم، وإذا تمكنوا من الاستيلاء على عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية في عام 670 أو 717، وكان مثل هذا الاحتمال موجودًا بالتأكيد، فإن الأوروبيين، والعالم، والتاريخ، ربما كان سيسلك طريقًا مختلفًا تمامًا. ومع ذلك، ظلت القسطنطينية صامدة، وظلت إسبانيا أكبر عملية استحواذ عربية في أوروبا.
منذ بداية فتح إسبانيا، ظهرت تناقضات كثيرة بين الأمازيغ الأفارقة وحلفائهم العرب. إذا حمل الأمازيغ على أكتافهم المصاعب الرئيسة لفتح شبه الجزيرة، فإن العرب (أو بالأحرى نبلاءهم) حصلوا على الجوائز الرئيسة في المدن التي فُتحت. تمكن العرب من الاستيلاء على الأراضي الأكثر خصوبة في الأندلس، تاركين الأمازيغ مع الأراضي القاحلة، بالإضافة إلى المناطق الجبلية في أستورياس، وغاليسيا، وليون، التي كان من الصعب جدًّا السيطرة عليها (على سبيل المثال: في شمال غاليسيا، استمر وجود الفاتحين أقل من ثلاثة عقود). وفيما يتعلق بالمسيحيين واليهود المحليين، أدّى العرب دور “الشرطي الجيد”، حيث قمعوا محاولات الأمازيغ زيادة عمليات الابتزاز والقمع بما يتجاوز ما هو ضروري ضدهما. وبطبيعة الحال، فإن الصراع المستمر مع الممالك والمقاطعات المسيحية التي ظلت في شمال شبه الجزيرة وشرقها كان مخصصًا أيضًا للأمازيغ بشكل أساسي. أدى هذا كله في النهاية إلى ثورة أمازيغية كبرى عام 741، قُمعت فقط بمساعدة تدخل واسع النطاق من عرب الشام.
كما تميزت العقود الأربعة الأولى من الحكم العربي في إسبانيا بالاشتباكات المستمرة بين الفصائل العربية المنفصلة التي تمثل العشائر البدوية الشمالية (القيسية) والجنوبية (اليمانية)؛ حيث تجلت الصراعات القديمة التي نشأت في الواحات البعيدة في الصحراء العربية. كانت المشكلة الأساسية هي مركزية حكومة البلاد، ولم يعق ذلك فقط بسبب الخصائص النفسية للقبائل العربية والأمازيغية، ولكن أيضًا بسبب جغرافية شبه الجزيرة الإيبيرية. أُسِّسَ النظام الملكي في أيبيريا بصعوبة كبيرة، وعلى حساب تضحيات كثيرة.
ساعد صعود أحفاد السلالة الأموية القديمة إلى السلطة، الذين حكموا العالم العربي من دمشق بعد عصر “الخلفاء الراشدين”، على ضمان النظام النسبي. عندما قُتل آخر خليفة من الأسرة الأموية، مروان الثاني، في مصر عام 750، بدأت الأسرة العباسية الجديدة بمطاردة من تبقى من ممثلي الأسرة الأموية. نجا الحفيد الشاب للخليفة هشام عبد الملك بن مروان من الموت بأعجوبة؛ بالسباحة عبر نهر الفرات، والهروب من سوريا إلى فلسطين، ثم تجول في أنحاء إفريقيا عدة سنوات، وفي عام 756 هبط في إسبانيا. ابتسم الحظ للأمويين؛ فقد استولى على قرطبة، وأصبح لمدة اثنين وثلاثين عامًا الحاكم السيادي لإسبانيا العربية، مما أدى إلى إحياء أسرة دمشق المنقرضة تقريبًا على الجانب الآخر من العالم العربي. لم تنجح المحاولات الكثيرة التي قام بها العباسيون للتدخل للإطاحة بسليل السلالة المكروهة، ولم تنجح المؤامرات، وأعمال الشغب، والانتفاضات التي قام بها النبلاء العرب والأمازيغ القدامى ضد الأمير الجديد.
ذهب كارهو الأمويين إلى حد أنهم طلبوا المساعدة من إمبراطور الفرنجة شارلمان، الذي قاد جيشه تحت أسوار سرقسطة عام 777. ومع ذلك، كان عبد الرحمن محظوظًا مرة أخرى: “في شرق إمبراطورية الفرنجة، تمرد الساكسونيون مرة أخرى، واضطر الإمبراطور إلى التوجه شمالًا، وفقد في الوقت نفسه حارسه الخلفي وقافلته في المعركة الشهيرة مع الباسك في مضيق رونسيلفاليس”. ولم ينجح شارلمان قط في تكرار تدخله، وحصلت إسبانيا المسلمة على فرصتها التاريخية.
الفتح العربي، والانهيار السريع للدولة القوطية في بداية القرن الثامن، تبين أنه ليس كارثة بقدر ما هو خلاص لإسبانيا. من الواضح أن بناء الدولة لم يكن ناجحًا لملوك القوط الغربيين ضيقي الأفق، والمهتمين بمصالحهم الذاتية، وكان لديهم مشكلات خطيرة فيما يتعلق بالشرعية السياسية. إن إزالة العرب معظم الإقطاعيين المحليين وكبار رجال الدين الكاثوليك، سمحت لأسياد إسبانيا الجدد بتنفيذ إعادة توزيع واسعة النطاق للأراضي، وإحياء الزراعة، التي كانت في تدهور عميق في شبه الجزيرة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية. مع أن العرب أنفسهم فضلوا العيش في المدن، فإنهم شجعوا انتقال سكان الريف المحليين من زراعة الكفاف إلى العلاقات بين السلع والمال.
تدين إسبانيا بازدهارها للفتح العربي خلال القرون القليلة التالية. أُنشئ نظام ري متقدم جدًا لتلك الأوقات، وظهرت محاصيل جديدة في شبه الجزيرة، منها الحمضيات، والقطن، والأرز، وقصب السكر. في المقابل، حفز ظهور الزراعة ازدهار الحرف الحضرية المختلفة: “أُنتجت الأقمشة الصوفية والحريرية في قرطبة، والأسلحة (شفرات توليدو الشهيرة) في طليطلة، والسجاد في سرقسطة، والسيراميك في فالنسيا، وما إلى ذلك”. وصلت إلى أوروبا تكنولوجيا إنتاج الورق، وغيرها من الصناعات المبتكرة عربيًّا.
لم يرغب العرب في الاحتفاظ بالوظائف الرأسمالية للقوط الغربيين في طليطلة، أو جعل إشبيلية المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في إسبانيا- إبان الفتح- مركزهم الرئيس. لقد اختاروا إعادة بناء قرطبة القديمة، التي سرعان ما أصبحت واحدة من أكثر العواصم الأوروبية ازدهارًا. كان تحول المسيحيين واليهود إلى الإسلام كبيرًا؛ فبعد قرن من الاستيلاء على شبه الجزيرة، كان الجزء الأكبر من السكان من المسلمين. ومع ذلك، ظلت المجتمعات المسيحية واليهودية على قيد الحياة، وكانت أكثر عددًا، وأفضل تنظيمًا من أي مكان آخر في العالم العربي. من الجدير بالذكر أنه في إسبانيا، حتى المسيحيون واليهود الذين ظلوا مخلصين لدينهم، غالبًا ما تحولوا من اللاتينية المألوفة إلى العربية كلغة، ليس فقط في التواصل مع العرب، ولكن أيضًا في حياتهم اليومية (أصبحت هذه اللغة منتشرة على نطاق عريض، إلى درجة أنه كان لا بد من ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية).
من بين الأجزاء الثلاثة الرئيسة للخلافة العربية الكبرى (بغداد، والقاهرة، وقرطبة)، لم يكن بإمكان إمارة قرطبة أن تطالب بتراث الحضارة العربية ككل، فهي لم يكن لديها قاعدة موارد العباسيين في بغداد، ولا عقيدة الفاطميين في القاهرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنها كانت تقع على الأطراف البعيدة “للعالم العربي”. على عكس السلالتين العربيتين الكبيرتين الأخريين، لم يضع أمويو قرطبة لأنفسهم الأهداف الطوباوية المتمثلة في توحيد العالم العربي الإسلامي بكامله تحت قيادتهم، وكانت مهامهم أبسط بكثير، وأكثر واقعية، وهي الحفاظ على المواقف الإسلامية وتوسيعها- إن أمكن- في أوروبا ذات الأغلبية المسيحية، لكن ذلك لم يمنع الأمير عبد الرحمن الثالث “الناصر” من إعلان نفسه خليفة عام 929، وتحويل إمارة قرطبة إلى مقر للخلافة.
ويعتبر كثير من المؤرخين أن عهد هذا الأموي هو فترة الازدهار الأعظم لإسبانيا العربية. لقد تمكن من تهدئة الطبقة الأرستقراطية العربية المتمردة، وقمع التطلعات الانفصالية للأتباع الضالين، وضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في شبه الجزيرة. لم يكن شديد النزعة الحربية بطبيعته، ومع ذلك فقد قدم دائمًا صدًّا حاسمًا للتعديات العدائية للملوك المسيحيين في ممالك الشمال، والإمبراطورية الفاطمية في الجنوب. في عهده، ظهرت قوة جديدة في الجيش، ثم في الحياة السياسية في إسبانيا- ما يسمى الصقالبة، وهم (السلاف). في البداية، كان هذا المصطلح يشير إلى الأسرى والعبيد من أصل سلافي، الذين دخلوا إسبانيا عبر أوروبا الغربية، أو البحر الأبيض المتوسط، ثم لاحقًا إلى جميع الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم خاضعين لخلفاء قرطبة. وقد وصل كثير من هؤلاء الغرباء إلى مناصب عليا في قرطبة، واعتمد الخلفاء عليهم أكثر من اعتمادهم على النبلاء العرب القدامى، الذين لا يمكن الاعتماد عليهم دائمًا.
واستطاع الخليفة ضمان كفاءة الإجراءات القانونية، وسلامة الطرق، وتكثيف التجارة البحرية في البحر الأبيض المتوسط. سعت الإمبراطورية البيزنطية، والجمهوريات التجارية الإيطالية، والدوقيات الفرنسية إلى إقامة شراكات مع قرطبة. تجنب عبد الرحمن الثالث- باستمرار- أي مظاهر للتعصب الديني، ولم يجذب إلى بلاطه المسلمين فحسب؛ بل جذب أيضًا المسيحيين واليهود الطموحين. على خلفية التراجع الطويل الأمد للتعليم في بقية أوروبا، برزت إسبانيا بفضل معرفة القراءة والكتابة التي تكاد تكون عالمية (وكان غالبية السكان ثنائيي اللغة على الأقل)، وفي قرطبة عرفوا التراث الفلسفي والأدبي للعصور القديمة أفضل مما كانت عليه في باريس أو لندن. كانت إسبانيا العربية في ذلك الوقت قريبة جدًّا من إنشاء “مجتمع تاريخي جديد من الناس”، يعتمد على الاندماج الحضاري للعرب والأمازيع، والسكان الأصليين السلتيأيبيرون “الإيبيريين”، واليهود وغيرهم من المجموعات العرقية والدينية.
كان عبد الرحمن الناصر، مثل الخلفاء الذين سبقوه من ذوي النظر البعيد، مدركًا لاستحالة الاستيعاب الكامل للسكان الإيبيريين، أو الأسلمة الكاملة لشبه الجزيرة؛ ومن ثم مارس إستراتيجيات يمكن أن يطلق عليها اليوم “الاستقلال الثقافي الوطني”، أو “التعددية الدينية والثقافية”، وقد حققت هذه الإستراتيجيات نجاحًا جزئيًّا على الأقل.
جاء حاكم إسبانيا المستقبلي من عائلة عريقة، على الرغم من عدم ارتباطه بالطبقة الأرستقراطية العربية العليا. وصل أسلافه إلى شبه الجزيرة مع الموجة الأولى من الفتح العربي، وخدموا على مدى ثمانية أجيال أمراء قرطبة، وشغلوا مناصب إدارية وقضائية مختلفة في العاصمة قرطبة، وفي مدن المقاطعات. كما بدأ الشاب محمد بن أبي عامر حياته المهنية مساعدًا لقاضي قرطبة، ليصبح “مدير شؤون” الخليفة الحكم الثاني، وأخيرًا، في السابعة والعشرين من عمره، تولى منصبًا مرموقًا وذا ربح مالي وفير “الناظر على سك العملات” في العاصمة.
وكان يدين بنجاحه المهني- إلى حد كبير- لرعاية أم ولد الخليفة المحبوبة، وهي جارية من إقليم الباسك؛ أورورا (الاسم العربي: صبح). أدت سنوات كثيرة من رعاية أورورا إلى ظهور شائعات مستمرة بين سكان قرطبة عن وجود علاقة حب سرية بينها وبين الشاب العربي. ومن الصعب الحكم على مدى مصداقية هذه الشائعات بعد ألف عام كاملة، ولكن من الناحية السياسية، تبين أن ترادف محمد بن أبي عامر وأورورا كان مثمرًا جدًّا؛ انفصل الشركاء أخيرًا، وتحولوا إلى أعداء لا يمكن التوفيق بينهم إلا في نهاية حياتهما.
في تاريخ الإمبراطوريات العربية، كان من النادر أن يصبح مسؤول مدني رفيع المستوى قائدًا عسكريًّا ناجحًا، إذ لم يكن لدى الإدارات المدنية والعسكرية تقليديًّا سوى قليل من الاتصال بعضها مع بعض. عرف محمد بن أبي عامر الشؤون العسكرية لأول مرة عندما بلغ الثلاثين من عمره؛ إذ أُرسِلَ إلى قوة الجيش الأندلسي العاملة في المغرب، ليس قائدًا؛ وإنما مفتشًا ماليًّا، استُدعِيَ لتحديد “سوء استخدام” محتمل للأموال المخصصة لرشوة الأمراء الأمازيغ المحليين. ومع ذلك، تمكن من استمالة النخبة العسكرية إلى الخلافة، وهو ما ساعده كثيرًا بعد عامين من وفاة الخليفة الحكم. بمساعدة المؤامرات الماهرة، تمكن محمد بن أبي عامر من وضع ابن الخليفة الصغير هشام الثاني “المؤيد بالله” على العرش أولًا، ثم تولي منصب الوصي الوحيد والدائم (الحاجب)، ليتخلص من منافسيه الأكثر خبرة في مؤامرات القصر- في البداية من المدنيين ثم العسكريين.
ارتبط صعود محمد بن أبي عامر إلى أعلى مستويات السلطة بانحرافات كثيرة عن المعايير الأخلاقية المقبولة في الخلافة، وشملت أساليب مثل الرشوة، والافتراء على المعارضين، والإدانات، وحتى الاغتيالات السياسية. ومع ذلك، لا يسع المرء إلا أن يعترف بأن محمد بن أبي عامر أظهر في جميع خطوات السلم الوظيفي قدرات استثنائية. كان قادرًا على إعادة النظام والأمن إلى شعب إسبانيا، بعدما فقدهما جزئيًّا بعد وفاة الخليفة الحكم، وإقامة تحصيل فعال للضرائب والرسوم الجمركية. كان رجلًا تشريعيًّا، واقتصاديًّا، ومديرًا للمدينة من ذوي الخبرة (من بين أمور أخرى، شغل منصب حاكم قرطبة فترة طويلة)، وكان لديه فهم أفضل للجوانب الفنية للحكومة من معظم أسلافه وخلفائه؛ مما أدى إلى إنشاء دولة البيروقراطية التي كانت متقدمة جدًّا عن كل العصور. كان عقله العقلاني والعملي مختلفًا تمامًا عن العقلية الشعرية والعاطفية غالبًا لمعظم الأمويين، ومن الواضح أنه شعر بثقة أكبر في دراسة حسابات خزانته من قراءة مخطوطات الشعراء العرب القدامى.
لكن، بالطبع، دخل محمد بن أبي عامر التاريخ في المقام الأول ليس بوصفه مسؤولًا مدنيًّا، بل بوصفه قائدًا عسكريًّا بارزًا، حيث حصل على لقب المنصور، أي “المنتصر”. في عهده، نُفِّذَ إصلاح واسع النطاق لجيش الخلافة، وتم التخلي أخيرًا عن المبدأ القبلي القديم في التجنيد، وظهرت أنواع جديدة من الأسلحة، وزادت قدرة القوات المسلحة على الحركة، وتغيرت المبادئ التكتيكية، وأُنشئت استخبارات عسكرية فعالة. في الواقع، في هذا الوقت، ظهر أول جيش محترف حقًّا على الأراضي الإسبانية، ويتألف- إلى حد كبير- من الأجانب (الأمازيغ والصقالبة)، ولكن ولاء هذا الجيش لم يكن للدولة أو الخليفة؛ بل للوزير الطموح.
ربما لم يكن المنصور عبقريًّا عسكريًّا بالمعنى الدقيق للكلمة، لكنه كان يعرف كيفية الاستفادة القصوى من أي موقف عملياتي تكتيكي، حتى في المواقف الأكثر صعوبة، وغير المواتية له. وفقًا للسجلات التاريخية، فقد أجرى خلال حياته 57 حملة عسكرية ضد الممالك المسيحية (أي بمعدل حملتين في السنة)، ولم يتلقَ هزيمة واحدة. حظيت الحملات العسكرية المنتظمة والناجحة باستمرار ضد المسيحيين، التي أسفرت عن كميات كبيرة من العبيد والغنائم الأخرى، بشعبية كبيرة في قرطبة، وأصبحت تدريجيًّا المصدر الرئيس للشرعية لسلطة المنصور. يمكن لغارة واحدة ناجحة على كاتالونيا أن تزود أسواق العبيد القرطبية بعشرات الآلاف من العبيد من كلا الجنسين، وتضمن إمدادًا متواصلًا من السلع الحية، إلى ورش الحرف اليدوية، والإقطاعيات الزراعية، والحريم، للنخبة القرطبية.
لم يحدث قط منذ العصور البعيدة للفتح العربي الأمازيغي الأول أن كان المسيحيون في شبه الجزيرة الأيبيرية في مثل هذا الوضع المؤسف كما كانت الحال في عهد المنصور. لقد استولى على جميع مراكز المقاومة الرئيسة للقوة الإسلامية ودمرها تقريبًا (ومنها برشلونة، وليون، وبنبلونة). كما لم يترك المراكز الدينية الرئيسة في قشتالة، وغاليسيا. فقدت الممالك المسيحية أراضي شاسعة في وسط شبه الجزيرة، التي قاتلت من أجلها بعناد مع المسلمين على مدى القرنين الماضيين، كما دُمّرت جميع الدول المستقلة المتبقية رسميًّا في الشمال والشرق، التي احتضن معظمها ساحل كنتبرية الأطلسي. كل هذه الممالك أُجبرت على شكل من أشكال التبعية والاعتماد على قرطبة والتصالح، مع التدخل المستمر للمنصور- المنتشر في كل مكان- في شؤونهم الداخلية. ومن باب الإنصاف، تجدر الإشارة إلى أنه تصرف بالقدر نفسه من الحزم، وبلا رحمة، فيما يتعلق بجيرانه المسلمين الجنوبيين في المغرب.
مع ذلك، في الانتصارات العسكرية والسياسية الكثيرة التي حققها المنصور، سنة بعد سنة، ظهرت بذور المشكلات والهزائم المستقبلية للخلافة. على عكس عبد الرحمن الثالث، لم يكن لدى الحاجب القوي حس التناسب، ولم يكن معتادًا التخفيف من طموحاته الباهظة. بقسوته الاستثنائية، حتى بمعايير القرن العاشر غير الإنسانية، ضمن- مدة طويلة- كراهية الخلافة من جانب المسيحيين الإسبان، الذين كانوا ينتظرون أي فرصة مواتية للانتقام، ولم يحاول حتى التفاوض معهم على حلول وسط تكتيكية، كما فعل معظم زعماء المسلمين من قبله. زرع الموت والدمار، ومحا قرى وأديرة ومدنًا بكاملها من على وجه الأرض. سعى المنصور إلى تحقيق أهداف التخويف الشامل. على سبيل المثال، بعد أن استولى على كويمبرا البرتغالية عام 987، دمر المدينة، إلى حد أنها أصبحت خالية من السكان على مدى السنوات السبع التالية. وبطبيعة الحال، كانت هذه الممارسة محفورة في ذاكرة الجيران الشماليين لخلافة قرطبة، وكانوا ينتظرون- بفارغ الصبر- الساعة التي يمكنهم فيها حتى الوصول إلى المسلمين عديمي الرحمة للانتقام من كل مصائبهم. وهكذا، فإن احتمال التعايش السلمي الطويل الأمد بين إسبانيا الإسلامية والمسيحية، الذي نشأ في عهد عبد الرحمن الثالث، ضاع إلى الأبد.
على ما يبدو، كان المنصور غير مبالٍ بالدين. على سبيل المثال، كان ينغمس في متعة شرب الخمر. ومع ذلك، ففي مرحلة ما، قرر، من أجل تعزيز سلطته، ومن أجل منصب الخليفة المستقبلي، وهو ما لم يحققه في النهاية، أن يتحول إلى بطل متحمس للأصولية الإسلامية. وكدليل على حماسته الدينية، لم يشارك شخصيًّا في إعادة بناء مسجد كاتدرائية قرطبة الذي حظي بتغطية إعلامية جيدة فحسب، حيث عمل حفّارًا وبنّاءً عاديًّا؛ بل أمر أيضًا بحرق كتب الفلسفة، والمنطق، وعلم الفلك، وغيرها من العلوم “المشكوك فيها” في مكتبة قرطبة الغنية. بالإضافة إلى ذلك؛ للحصول على تأثير أكبر، ألقى شخصيًّا عدة مجلدات في النار. وبطبيعة الحال، استقبل رجال الدين هذه المظاهرة بالابتهاج، لكن النخبة العربية المستنيرة والمتسامحة- بشكل عام- لم توافق على ذلك.
ربما أراد الحاجب أن يثير إعجاب الأمازيغ بحماسته في المقام الأول، الذين كانوا عمومًا أكثر تدينًا من العرب، حتى إن بعض المؤلفين يطلقون عليهم اسم “الكالفينيون المسلمون”. على ما يبدو، كان أحد الأخطاء التاريخية الأساسية التي ارتكبها المنصور هو اختلال التوازن القائم بين الأمازيغ والعرب؛ مما أثر سلبًا في الاستقرار السياسي في الخلافة بعد وفاته مباشرة. انتهت الهجرة العربية إلى إسبانيا في القرن التاسع، في حين استمرت هجرة الأمازيغ في عهد المنصور. بالإضافة إلى ذلك، شجّع- بنشاط- هذه الهجرة من الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وهو ما أدى حتمًا ليس فقط إلى تغيير في التوازن الديموغرافي في شبه الجزيرة، ولكن أيضًا إلى تحولات ملحوظة في الديناميكيات الثقافية والأنثروبولوجية للخلافة- مع زيادة نسبة عدد السكان الأمازيغ القادمين من الهضاب الصحراوية في قارة المغرب، حدثت حتمًا “همجية” إسبانيا، وشُكِّلَت الشروط المسبقة للتغيير اللاحق للسلالة الحاكمة العربية إلى السلالة الأمازيغية.
وبقدر ما يمكن للمرء أن يحكم، شكك المنصور في النخبة العربية تشكيكًا مبالغًا فيه، حيث كان يشتبه في تآمرهم، وعدم ولائهم، ومن وقت إلى آخر يقمع أبرز ممثليها. لقد أحاط نفسه- عمدًا- بالأشخاص ذوي المرتبة المنخفضة، الذين كانوا يعتمدون عليه شخصيًّا اعتمادًا كاملًا. لكن، كما تبين بعد وفاته مباشرة، فإن هذا الولاء لم يمتد إلى ورثة المنصور، ولم تنس الأرستقراطية العربية القديمة، ولم تغفر شيئًا للحاجب الذي رفض السماح لها بالمشاركة في الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، في إطار رغبته المستمرة في السلطة المنفردة وغير المقسمة، ألغى المنصور بالفعل قدسية سلطة الخلفاء. مع أنه هو نفسه لم يصبح خليفة، فإنه في قرطبة، ولأول مرة منذ وجود الدولة العربية، بدأ الكثيرون بقبول الإمكانية الأساسية لاستبدال سلالة جديدة بالأمويين. بدأت أسس النظام الذي دام قرونًا تهتز، مما خلق الظروف المسبقة للانهيار السريع للخلافة. حاول المنصور تحويل منصبه الأعلى إلى منصب وراثي، ولكن بالفعل في عام 1009، بعد سبع سنوات فقط من وفاته، هُزمت عشيرة أحفاده وصودرت ممتلكاتهم، أو نُهبت.
أخيرًا، وربما الأهم، فقد غاب المنصور عن بداية الصعود الأوروبي، الذي بدأ في نهاية القرن العاشر. لقد كان ينظر إلى الأوروبيين بغطرسة عربية تقليدية، باعتبارهم برابرة غارقين في الجهل، لا بد أن يخضعوا للقهر في أفضل تقدير، وللدمار في أسوأ تقدير. وفي الوقت نفسه، في نهاية القرن العاشر، كانت أوروبا تتراكم قوتها بالفعل لتحقيق اختراق حضاري جديد. كانت الحقبة الطويلة من العصور المظلمة على وشك الانتهاء، وكانت العصور الوسطى العليا على العتبة. في عام 962، في روما، توج أوتو الأول على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة المنشأة حديثًا، وفي عام 987، في شمال فرنسا المستقبلية في نويون، أسس هوغو كابيت سلالة الكابيتيون الجديدة. اكتسب الإصلاح الكلوني قوة في الحياة الدينية في أوروبا؛ مما أدى- في النهاية- إلى الإصلاحات الغريغورية، وتعزيز حاد للدور السياسي للفاتيكان. كل هذه العمليات لم تلهم المسيحيين الإسبان بنضال جديد من أجل تحريرهم فحسب؛ بل دفعت أيضًا خلافة قرطبة تدريجيًّا من المركز إلى أطراف الحياة السياسية في أوروبا.
ويجب القول إن المنصور كان لا يزال يتمتع بإدراك كافٍ ليشعر بالكارثة الوشيكة. ويشهد المعاصرون أنه في نهاية حياته أصبح عرضة لنوبات الاكتئاب واليأس، وتحدث عن عبث كل جهوده، وتنبأ بالانهيار الحتمي للخلافة، لكن الشعور لا يعني الفهم. على ما يبدو، حتى نهاية أيامه، كان الحاجب القوي يعتقد أنه يفعل كل شيء بشكل صحيح. وبعد أقل من عقد من وفاة المنصور، أصبحت قرطبة مسرحًا لمعارك ضارية بين الأمازيغ والصقالبة، أدت إلى تدمير العاصمة ونهبها.
من المستحيل أن نقبل دون قيد أو شرط وجهة النظر القائلة إن الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية كان محكومًا عليها بالفشل تاريخيًّا، وأن نجاح الاسترداد كان حتميًّا. بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الظلم تحميل المسؤولية الكاملة عن انهيار الخلافة للمنصور شخصيًّا، أو لخلفائه الأقل نشاطًا. في مطلع القرنين العاشر والحادي عشر، كانت الخلافة لا تزال متفوقة- تفوقًا كبيرًا- على القوة المشتركة للممالك المسيحية الشمالية في جميع النواحي (العسكرية، والاقتصادية، والمالية، والديموغرافية). بحلول وقت وفاة المنصور، كان عدد سكان خلافة قرطبة لا يقل عن 3 أو 4 ملايين شخص (وفقًا لبعض التقديرات ضعف هذا العدد)، في حين أن إجمالي عدد سكان الممالك المسيحية في شبه الجزيرة لم يتجاوز نصف مليون. وبالمقارنة مع قرطبة الرائعة، تبدو العواصم المسيحية وكأنها قرى بائسة. بالإضافة إلى ذلك، أُضعِفَ شمال إسبانيا بسبب الحروب الأهلية المستمرة، والأزمات الأسرية، والانقلابات. وصل مستوى أسلمة المناطق التي شملتها الخلافة إلى نحو 80 % من السكان، مع أن الطوائف المسيحية واليهودية المتبقية لم تكن دائمًا على وئام، بعضها مع بعض.
لم تُدمّر خلافة قرطبة بسبب عاطفة الممالك المسيحية الشمالية بقدر ما دُمّرت بسبب التنافس المستمر المذكور أعلاه بين الأمازيغ والعرب، فضلًا عن الموقف المتعجرف غير المعقول للعرب تجاه أوروبا الصاعدة. في إسبانيا، على الرغم من كل الجهود التي بذلها حكام قرطبة المستنيرون، لم يحدث قط توليف كامل بين الثقافتين، على غرار الثقافة العربية الفارسية في الخلافة العباسية. وعلى عكس بغداد، كان التفاعل في قرطبة بين المنتصرين والمهزومين- إذا جاز التعبير- طريقًا ذا اتجاه واحد. وفي الشرق، نظر العرب إلى الفرس الذين قهروهم، وأخذوا من علومهم ومعارفهم، في حين أنهم في الجنوب والغرب نظروا بازدراء إلى الأمازيغ والأوروبيين؛ لذلك، تشكل اندماج الثقافة العربية الفارسية تدريجيًّا في بغداد، وبدءًا من القرن العاشر، عندما استولى الأتراك السلاجقة على السلطة الفعلية في بغداد، أصبحت الاختلافات بين الفاتحين العرب والفرس المهزومين أقل أهمية.
لكن هذا لم يحدث في قرطبة، مع أن العلاقات مع الملوك المسيحيين الأيبيريين كانت- في بعض الأحيان- ودية جدًّا، لكن لم يحدث أي اندماج ثقافي حقيقي. كان العرب ينظرون إلى الأوروبيين بالطريقة نفسها التي ينظر بها الأوروبيون المعاصرون إلى الروس (في أحسن الأحوال كطلاب مجتهدين، وفي أسوئها كبرابرة على أبواب المدينة). إن الأدب الجغرافي والتاريخي للعرب في العصور الوسطى، كما كتب برنارد لويس، أحد كبار الباحثين في دراسات الشرق: “يعكس الافتقار التام إلى الاهتمام بأوروبا الغربية، التي اعتبروها غارقة في الظلام الخارجي للهمجية، معتبرين أن العالم الإسلامي المضاء بنور الشمس ليس لديه ما يخشاه، فضلًا عن التعلم”. لقد نقل العرب الكثير للمسيحيين الأوروبيين، لكنهم لم يقترضوا شيئًا تقريبًا من الأخيرين، وكانت هناك أسباب لذلك- تاريخية وثقافية، لكن هذه- بالطبع- كانت فرصة ضائعة، حددت- في نهاية المطاف- سقوط الدول العربية في شبه الجزيرة الإيبرية.
وإذا كان تراجع العباسيين والفاطميين كان طويلًا، ومن ثم يكاد يكون غير مرئي للمعاصرين، فإن سقوط الدولة الأموية في إسبانيا حدث خلال حياة جيل واحد. مرت أقل من ثلاثة عقود على وفاة المنصور (1002)، وتفككت دولة قرطبة إلى عشرات الشظايا، تتقاتل باستمرار بعضها مع بعض. أثبت الحكم المطلق الصارم والشخصي الذي فرضه المنصور على إسبانيا- في النهاية- أنه مكلف جدًّا، وغير فعال. وقد حال هذا الحكم المطلق دون تطور المؤسسات المستقرة، التي بدونها يتبين أن أي تشكيل للدولة هش، وغير جدير بالثقة.
لم تشكل الخلافة نخبة مسؤولة قادرة على ضمان مواصلة تطوير إسبانيا. ولم يتمكن البربر في الجنوب، ولا الصقالبة في الشرق من إنشاء دول قابلة للحياة. أعلنت قرطبة وإشبيلية أنفسهما جمهوريتين، ولكن على عكس جمهوريات المدن المسيحية في جنوب أوروبا، لم يكن هناك أي تقليد قوي لحكومة المدينة في إسبانيا العربية، مع استثناء محتمل لمدينة طليلطة المتمردة، وفي نهاية المطاف، فشلت التجارب الجمهورية.
في عام 1085، استولى المسيحيون على مدينة طليطلة، وهي المدينة التي كانت ذات يوم عاصمة مملكة القوط الغربيين، وكانت طوال عهد المنصور رمزًا لمقاومة الحكم العربي. لم يضع هذا الحدث حدًا للفتوحات التي قام بها الحاكم القوي لشبه الجزيرة الإيبرية قبل قرن من الزمان فحسب؛ بل كان أيضًا بداية نهاية إسبانيا العربية. في عام 1118، فقدت الخلافة مدينة سرقسطة ذات الأهمية الإستراتيجية، وفي عام 1147 غزا المسيحيون أخيرًا لشبونة. تباطأت عملية الاسترداد بسبب الصراعات والاشتباكات التي لا نهاية لها بين الدول المسيحية، لكنها استمرت على نحو لا يمكن السيطرة عليه، تمامًا كما استُبدِلَ بالصيف الإسباني الحار خريف بارد بشكل لا يمكن السيطرة عليه. مرَّ قرن آخر من الحروب شبه المستمرة في الشمال، وغزوات الأمازيغ في الجنوب، وفي عام 1236 سقطت قرطبة، وسرعان ما سقطت إشبيلية.
كانت الهيمنة القصيرة لسلالات المرابطين الأمازيغ (1090- 1147) على إسبانيا العربية، ثم للموحدين (1147- 1269)، بمنزلة علامة على التدهور السريع الذي لا رجعة فيه بالفعل للدولة والثقافة الأندلسية، فضلًا عن الاضطهاد غير المسبوق للمسيحيين واليهود، حيث كانت السلالة الحاكمة الجديدة من شمال إفريقيا أكبر داعم لعملية تقدم المسيحيين من الشمال. بدأ الاضطهاد الجماعي للأشخاص من الديانات الأخرى، ومن ذلك نقلهم القسري إلى إفريقيا. هذا كله دمر العالم الديني المتنوع والمستقر الموجود سابقًا، وسارع بالسقوط النهائي لسلطة الإسلام في شبه الجزيرة الإيبرية.
في عام 997، قام المنصور برحلة أخرى إلى شمال إسبانيا. هذه المرة لم يكن هدفه مملكة أو مقاطعة متمردة؛ بل أحد أعظم مزارات العالم المسيحي (كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا) في غاليسيا، حيث دُفن الرسول يعقوب الكبير بن زبدي، وفقًا للأسطورة. بعد نهب الأديرة المحيطة، وتسوية الكاتدرائية بالأرض، أمر المنصور المسيحيين الأسرى بحمل أجراس الكاتدرائية على أكتافهم إلى قرطبة، حيث كان من المفترض أن تستخدم هذه الأجراس كأوعية للمصابيح في المسجد الرئيس. ربما كان من الصعب اختراع طريقة لمزيد من إذلال المعارضين المهزومين والمحبطين. لم يكن من الصعب على حاكم الأندلس القوي أن يتخيل أن الوقت سوف يمر، وأن السجناء المسلمين المهزومين والمحبطين بالفعل سيحملون على أكتافهم أجراس كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا القديمة من قرطبة، عائدين بها إلى غاليسيا.
لقد انغلقت دائرة التاريخ، وأدى العنف إلى عنف آخر، وأعطى الكراهية والظلم زخمًا لكراهية وظلم جديدين، ومن الطبيعي أن تفسح سياسات المنصور المجال لشفق الأندلس المظلم؛ لذلك، ربما يكون من الأفضل وضع النصب التذكاري المرمم لابن أبي عامر ليس في ساحة المدينة في الجزيرة الخضراء، ولكن في مكان ما في متحف تاريخي من بين المعروضات الأخرى، التي توضح القيود الواضحة لفعالية استخدام القوة الغاشمة أداةً للسياسة الخارجية، وبناء الدولة.
المصدر: المجلس الروسي للشؤون الدولية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.