
قد تختلف أو تتفق في تقييم ما قامت به الدبلوماسية العربية، خصوصًا “دبلوماسية القادة والزعماء”، منذ العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. البعض في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام التقليدي كذلك، ينتقدون -بشدة- أداء الدول العربية خلال الحرب على غزة، ويرفع هؤلاء سقف المطالب التي تصل أحيانًا إلى حد المطالبة بدخول الدول العربية في حرب شاملة مع إسرائيل، لكن المدقق في عمل الدبلوماسية العربية يتأكد له أن الدول العربية، ولا سيما مصر والإمارات والسعودية وقطر، أدت أدوارًا تاريخية خلال العامين الماضيين، وسوف يشهد التاريخ على هذا الدور المحوري في جميع أروقة الدبلوماسية على جميع المستويات الثنائية أو المتعددة الأطراف، فالرئيس الأمريكي دونالد ترمب قال -بوضوح- إنه يرفض أي قرار إسرائيلي لضم الضفة الغربية، لماذا؟ “لأنه أعطى وعدًا للدول العربية بعدم ضم الضفة الغربية لإسرائيل”، وهذا أمر غير مسبوق، وله معنى كبير، وهو أن الدول العربية والعلاقات التي تجمع الزعماء العرب مع الرئيس ترمب، باتت تشكل رصيدًا كبيرًا عند “سيد البيت الأبيض”، وأن الرئيس ترمب لا يستطيع أن يتجاوز هذا الوعد الذي قطعه للدول العربية؛ لأن هذه الدول استطاعت أن تصوغ علاقات ومعادلات وحسابات جديدة مع الولايات المتحدة تجعل الرئيس الأمريكي لا ينظر فقط إلى مصالح إسرائيل، كما كان يحدث دائمًا في عهود وأزمنة سابقة، بل يأخذ في الحسبان المصالح العربية والفلسطينية؛ ولهذا لم يكتفِ الرئيس ترمب بطرح مبادرته التي تتكون من 20 بندًا، بل يسهر على تنفيذها، وعدم السماح بالتلاعب والخداع الإسرائيلي بها؛ ولهذا تصدى الرئيس ترمب وأركان إدارته لنتنياهو والمتطرفين معه عندما حاول الكنيست الإسرائيلي أن يتخذ قرارًا بضم الضفة الغربية لإسرائيل في أثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس لإسرائيل، وبعد حديث الرئيس ترمب بأنه “أعطى وعدًا للدول العربية بعدم ضم الضفة” شاهدنا كيف انتفض نائبه جي دي فانس، ووزير خارجيته مارك روبيو، وصهره جاريد كوشنر، ومبعوثه الشخصي ستيف ويتكوف ضد قرار الكنيست الإسرائيلي، وكلها أمور جديدة في النظرة الأمريكية إلى الجهود المكوكية التي قامت بها مصر والسعودية والإمارات وقطر من أجل الحفاظ على حل الدولتين، وعدم ضم إسرائيل للضفة الغربية، وهو ما أثمر نتائج مذهلة وغير مسبوقة للقضية الفلسطينية، ففي سابقة تاريخية أيضًا تقوم الطائرات المسيرة الأمريكية بجولات فوق قطاع غزة حتى يبني الرئيس ترمب موقفه السياسي استنادًا إلى معلومات أمريكية وليست إسرائيلية؛ لأن الدول العربية أقنعت ترمب بأن نتنياهو يمكنه أن ينسحب من اتفاق وقف إطلاق النار. ويشكل مجلس المراقبة العسكري المدني في “كريات جات”، جنوب إسرائيل، الذي يراقب وقف إطلاق النار في غزة، ويرفع العلم الأمريكي، ويضم عناصر من دول مثل إسبانيا وفرنسا، أكبر نجاح للدبلوماسية العربية، فما أبرز ثمار الدبلوماسية العربية ونجاحاتها خلال عامي الحرب في قطاع غزة؟ وكيف وظفت القيادة في مصر والسعودية والإمارات وقطر كل قدراتها من أجل خدمة القضية الفلسطينية؟ وإلى أي مدى يمكن البناء على ما تحقق من أجل تثبيت وقف إطلاق النار، وبناء مسار حقيقي يفضي إلى تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وقيام دولته على حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية؟
المحطات الكثيرة التي مرت بها القضية الفلسطينية خلال العامين الماضيين كشفت عن قدرات ضخمة للدول العربية، وأن قادة هؤلاء الدول استطاعوا تغيير العقلية والذهنية الغربية عن القضية الفلسطينية، ويمكن القول إن جهود الرئيس عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات، وصاحب السمو الشيخ تميم بن حمد أمير دولة قطر، استطاعت أن تغير مسار القضية الفلسطينية بالكامل، ففي السابق كان ينظر إلى القضية الفلسطينية من منظور إنساني واقتصادي باعتبار الفلسطينيين مجموعة من اللاجئين الذين يريدون أن يلقوا بإسرائيل في البحر، وفي أحسن الأحوال كان تطرح حلول ناقصة، مثل ما يسمى “السلام الاقتصادي”، وأن مجرد تحسين حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية يمكن أن ينسيهم قضيتهم وحلمهم بدولة مستقلة ذات سيادة، وهنا أدت الدبلوماسية العربية أدوارًا غير تقليدية، ويتجلى بعضها في المسارات الأربعة التالية، التي كانت تعمل جميعها بالتوازي والتنسيق الكامل، وهذه المسارات هي:
أدركت مصر منذ البداية أن إسرائيل سوف تستغل ما جرى يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) من أجل تصفية القضية الفلسطينية؛ ولهذا صدر بيان من رئاسة الجمهورية المصرية يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حذر من تصفية القضية الفلسطينية، ومن التهجير القسري لسكان قطاع غزة خارج القطاع، وبدأت مصر تعمل على مجموعة الإستراتيجيات، وهي:
1- تغيير الرواية الإسرائيلية
حاولت إسرائيل -ومن معها- تصوير الأمر وكأنه بدأ يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بهجوم حماس والفصائل الفلسطينية على إسرائيل، لكن مصر بدأت في تغيير هذه السردية بتأكيد أن ما جرى يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 هو “نتيجة لسبب”، والسبب هو غياب الأفق السياسي لحل القضية الفلسطينية، وأن انسداد الأفق السياسي، وتوقف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتفاخر نتنياهو بأنه أجهض حل الدولتين هو الذي يفتح الباب أمام العنف، وأن استقرار الشرق الأوسط يبدأ وينتهي بالتوصل إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية، لكن الأهم في الجهد الدبلوماسي المصري هو تأكيد أن القضية الفلسطينية لم تبدأ بهجوم حماس على إسرائيل يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بل بدأت مع أول اشتباك حدث بين الفلسطينيين والإسرائيليين على قطعة أرض في القدس الغربية عام 1873، أي منذ أكثر من 150 عامًا، مرورًا بثورة البراق 1929، والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وكلها أحداث كانت حتى قبل قيام إسرائيل في مايو (أيار) 1948.
2- لسنا ضد اليهود
كان هذا التحرك بمنزلة “خطوة نوعية وذكية” من الدبلوماسية الرئاسية المصرية عندما اجتمع الرئيس عبد الفتاح السيسي على الهواء مباشرة مع وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن، وقال له في حوار مباشر تابعه الجميع في كل أنحاء العالم إن الدول العربية والشعوب العربية والإسلامية ليست ضد اليهود على الإطلاق، وإن التاريخ شاهد على تعايش اليهود في الدول العربية والإسلامية دون أي مشكلات، وقطعت هذه الكلمات المبكرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي كانت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2023، الطريق على أي محاولة لتصوير هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على أنه هجوم على اليهود؛ لأن الحقيقة هي أن هناك دولة احتلال تحتل أرضًا، وسكان هذه الأرض يقاومون من أجل تحرير الأرض، وقيام الدولة الفلسطينية، وأن القضية سياسية بالكامل، وليس لها أي علاقة بأصحاب الأديان، وكان تصحيح هذا الأمر على أعلى مستوى في مصر، وفي حديث حي ومباشر على الهواء مباشرة مع وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن بمنزلة نجاح دبلوماسي غير مسبوق، وكان خارج الصندوق حقًّا.
3- خطوط حمراء
رسم الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ اليوم الأول للحرب على قطاع غزة “الخطوط الحمراء” التي لا يمكن لمصر أن تقبل بها، أو تتسامح معها، وهي رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو الضفة الغربية، ورفض تصفية القضية الفلسطينية أو تحويلها إلى قضية إنسانية، وخروج إسرائيل من قطاع غزة بكامله، وظل الرئيس عبد الفتاح السيسي يؤكد هذه الثوابت في جميع اللقاءات الثنائية والمتعددة بداية من قمة السلام في العاصمة الإدارية الجديدة، في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وصولًا إلى قمة شرم الشيخ في أكتوبر (تشرين الأول) 2025.
4- تثبيت الغزيين على الأرض
أدركت الدبلوماسية المصرية منذ البداية أن إسرائيل تريد أن تحول قطاع غزة والضفة الغربية إلى “أرض بلا شعب”، وطرد السكان من هناك عبر تحويل هذه المناطق إلى مناطق غير قابلة للحياة؛ ولهذا ركزت كل جهود الدبلوماسية المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي على إدخال أكبر قدر من المساعدات إلى قطاع غزة لتثبيت السكان في أراضيهم، وعدم مغادرة القطاع، وشهد العالم كله لهذه الجهود الجبارة التي وجدت استحسانًا وإشادة من المجتمع الدولي كله، ولعل مشهد دخول الحافلات المصرية لنقل سكان قطاع غزة من دير البلح وخان يونس ومنطقة المواصي إلى شمال غزة، عقب وقف إطلاق النار، أبرز صورة لهذه الجهود، وهذا النجاح.
5- وحدة فلسطينية
تدرك مصر أن الانقسام الفلسطيني أخطر على القضية الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي نفسه؛ ولهذا تعمل مصر منذ عام 2007 على توحيد الصف الفلسطيني، وتستضيف جلسات الحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة لبناء مشروع وطني فلسطيني يلتف حوله كل الفلسطينيين لتفويت الفرصة على نتنياهو بأنه لا يجد شريكًا فلسطينيًّا واحدًا في عملية السلام، وأرفقت مصر هذا الجهد بالمساعدة على التوصل إلى أسماء 15 شخصية من “التكنوقراط” لقيادة المرحلة الانتقالية في غزة إلى حين تسلم السلطة الفلسطينية القطاع، وتدريب الشرطة الفلسطينية التي سوف تتولى حفظ الأمن في القطاع في اليوم التالي لوقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من غزة.
6- الإعمار
تتصدى مصر لأخطر قضية تتعلق بكل فلسطيني في قطاع غزة، وهي إعادة الإعمار، وتبنت القمة العربية الإسلامية في 4 مارس (آذار) الماضي الخطة المصرية لإعادة إعمار القطاع، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل سوف تستضيف مصر مؤتمر إعادة إعمار غزة دون تهجير السكان، وهو أمر ينتظره كل سكان القطاع، وتعمل مصر على نجاح خطة الإعمار من خلال حشد كل الدول والمنظمات الدولية من أجل تحقيق هذا الهدف.
قادت السعودية وسمو الأمير محمد بن سلمان الجهود العربية والدولية من أجل حشد مزيد من الدول للاعتراف “بحل الدولتين”، وشكلت السعودية مع فرنسا “التحالف الدولي” من أجل حل الدولتين، وعقد هذا التحالف اجتماعات كثيرة في الرياض والقاهرة وبروكسل ومدريد، وتوج هذا “بإعلان نيويورك” في سبتمبر (أيلول) الماضي، الذي أدى في النهاية إلى اعتراف دول كبيرة وذات تأثير فاعل في التفاعلات الدولية، مثل فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، والآن هناك نحو 160 دولة تعترف بدولة فلسطين.
أظهرت دولة الإمارات دبلوماسية حازمة وصارمة في التعامل مع الألاعيب الإسرائيلية، وعندما كانت إسرائيل، وحتى الولايات المتحدة، قريبة من الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على قطاع غزة، كان الموقف الإماراتي حازمًا جدًّا بأنه لن يقبل بهذا القرار، وهو ما يعني ضمنيًّا تلويحًا إماراتيًّا بأوراق كثيرة تبدأ بوقف التعاملات مع إسرائيل، وصولًا إلى إمكانية قطع العلاقات الدبلوماسية، ولعل ما قاله المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات أنور قرقاش، الذي قال “ضم الضفة الغربية أو أي أراضٍ فلسطينية هو خط أحمر لا يمكن تجاوزه” بالنسبة للإمارات، هو أمر جعل نتنياهو يعيد التفكير، وشكلت الاتصالات الإماراتية مع الولايات المتحدة المنصة التي دفعت الرئيس ترمب ونائبه وصهره ومبعوثه الشخصي إلى رفض قرار القراءة الأولى للكنيست ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل.
تعرضت قطر لهجومين على أراضيها هذا العام؛ الأول من إيران في 23 يونيو (حزيران) الماضي، والثاني جاء من إسرائيل في 9 سبتمبر (أيلول) الماضي، ومع ذلك تتمسك قطر بدعم الشعب الفلسطيني، وتواصل دورها “كوسيط” مع مصر والولايات المتحدة في تثبيت وقف إطلاق النار، ودعم طموحات الشعب الفلسطيني في مرحلة ما بعد الحرب، وتناغمت الجهود الدبلوماسية القطرية مع نظيرتها المصرية في جميع مراحل التفاوض التي قادت إلى هدنتين؛ الأولى في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، والثانية التي بدأت في 19 يناير (كانون الثاني) 2025، وانتهت في 18 مارس (آذار) من العام الحالي، وصولًا إلى دور قطر الفاعل مع مصر وتركيا والولايات المتحدة لتنفيذ خطة الرئيس ترمب لوقف الحرب في الشرق الأوسط.
المؤكد أن الدبلوماسية العربية اجتهدت كثيرًا، ونجحت في تحقيق كثير من القفزات السياسية والدبلوماسية للشعب الفلسطيني خلال عامي الحرب على قطاع غزة، وهو أمر لا يمكن أن ينكره أحد، وفي تقديري، سوف تواصل الدبلوماسية العربية البناء على ما تحقق من أجل إيجاد حل نهائي وعادل للقضية الفلسطينية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير