مقالات المركز

“خريف داتشان”.. ومأزق الأوروبيين


  • 3 ديسمبر 2025

شارك الموضوع

يعيش الأوروبيون حالة من الهلع والصدمة؛ السبب الأول لهذه المخاوف بات معروفًا، وهو توقف الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا عسكريًا، بما يجبرها عمليًا على قبول مبادرة الرئيس ترمب لوقف الحرب في أوكرانيا المستمرة منذ 24 فبراير (شباط) 2022، في حين تقوم حسابات الغالبية العظمى من الدول الأوروبية على إطالة زمن الحرب؛ أملًا في استنزاف روسيا.

السبب الثاني، والأهم لهذا الهلع، هو “عدم مشاركة” الجيش الأمريكي بقوات عسكرية وجنود في المناورة الدورية لحلف دول شمال الأطلسي (الناتو) التي تهدف إلى تعزيز روح التضامن والحماية “للجناح الشرقي” للحلف، والتي يطلق عليها  مناورات “خريف داتشان”.

لكن الصدمة الأكبر أن الرئيس ترمب ذهب أبعد من ذلك عندما سحب 800 جندي أمريكي كانوا يتمركزون في رومانيا، وأعادهم إلى ولاية كنتاكي الأمريكية، مع أن رومانيا هي التي كانت تستضيف الجزء الأكبر من مناورات “خريف داتشان”، وهي أيضًا ضلع رئيس من الجبهة الأمامية لقوات “الناتو” ضد روسيا، حيث تطل رومانيا على البحر الأسود، وهي منطقة تدور فيها، وحولها، العمليات العسكرية البرية والبحرية والجوية ضمن تفاعلات الحرب في أوكرانيا. وكانت رومانيا مع بولندا أول دولتين في الجناح الشرقي للحلف الأطلسي نُشرت فيهما منظومات الدفاع الجوية العملاقة بداية من عام 2007. وتزداد الدهشة عند معرفة أن رومانيا كانت من أوائل الدول الأوروبية في مجموعة بودابست التسع (رومانيا، وبلغاريا، والمجر، وسلوفاكيا، والتشيك، وبولندا، وليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا) التي وصلت إلى “عتبة الإنفاق العسكري” التي طالب بها الرئيس ترمب، وهي 2% من الناتج القومي. واليوم زاد الإنفاق الدفاعي لرومانيا على 2.5% من الناتج القومي، بما يعادل أكثر من 8.5 مليار دولار سنويًا، وذهبت غالبية هذه الأموال لشراء السلاح والذخيرة الأمريكية.

سحب الجنود الأمريكيين من رومانيا أرسل مجموعة من الرسائل الأمريكية إلى الأوروبيين، أبرزها أن الولايات المتحدة لن تتحمل عبء الدفاع عن أوروبا -خصوصًا الجناح الشرقي- في مواجهة روسيا. ومع أن 800 جندي هو عدد بسيط جدًا مقارنة بنحو 100 ألف جندي أمريكي ينتشرون في القارة العجوز، فإن قرار سحبهم كشف عن مجموعة من الخطوات المقبلة التي سوف يقدم عليها الرئيس ترمب، تقوم على “ترتيب الأولويات الأمريكية” بما يتعارض مع الدور العسكري الحاسم الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفُسّر القرار من الجانب الأمريكي بحاجة “البنتاغون” إلى مزيد من القوات الأمريكية لضبط الحدود مع المكسيك، ومواجهة تجار المخدرات القادمين من أمريكا الجنوبية، وحاجة وزارة الحرب الأمريكية إلى نقل مزيد من الجنود والأصول العسكرية إلى بحر الصين الشرقي، وبحر الصين الجنوبي، ومنطقة الإندو- باسيفيك؛ لدعم الحلفاء الآسيويين ضد تنامي القدرات العسكرية للصين. فما خيارات الأوروبيين بعد رفض البيت الأبيض المشاركة بقوات عسكرية في مناورات “خريف داتشان”؟ وهل يعني هذا بداية اعتماد الأوروبيين على أنفسهم؟ وهل يصب الموقف الأمريكي الجديد في مصلحة السلام والاستقرار في أوروبا؟

خطوة أولى

هناك يقين أوروبي بأن سحب 800 جندي أمريكي من أوروبا ما هو إلا خطوة أولى لتقليص القوات الأمريكية في القارة الأوروبية، خصوصًا أن الرئيس ترمب سبق له طرح فكرة عن تقليص عدد القوات الأمريكية في ألمانيا بنحو 9500 جندي في أثناء ولايته الرئاسية الأولى، واشتراطه في الولاية الحالية إنفاق الدول الأوروبية نحو 5% من الناتج القومي بحلول 2035 من أجل أن يدافع عنها. وعندما وُقِّعَ الاتفاق التجاري الأمريكي- الأوروبي في أسكتلندا في سبتمبر (أيلول) الماضي، رضخت دول الاتحاد الأوروبي لطلب ترمب بشراء الأسلحة والذخيرة من الشركات الأمريكية، وهو ما جعل خيارات الأوروبيين ضيقة جدًا بين سحب ترمب قواته من أوروبا، وإصراره على شراء الأوروبيين السلاح من الولايات المتحدة؛ وهو ما يدفع إلى فشل خطط الأوروبيين لبناء قاعدة صناعات عسكرية قوية لسد حاجة الجبهة الأوكرانية من جانب، وسد الثغرات الكثيرة في معظم الجيوش الأوروبية من جانب آخر. وإذا انتهت الحرب في أوكرانيا، فهناك قناعة أوروبية بأن الرئيس ترمب سوف يطرح على الأوروبيين صيغة واحدة تقوم على التصالح مع روسيا، واستعادة العلاقات كما كانت قبل الحرب في أوكرانيا؛ لأنه سوف يسحب عددًا كبيرًا من الجنود والأصول الأمريكية من أوروبا، وهذا ليس تعنتًا من الرئيس ترمب ضد الأوروبيين بقدر ما هو حاجة أمريكية بامتياز، فقد أعلنت وزارة الحرب الأمريكية أنها سوف تعمل مع المتعهدين العسكريين الكبار على زيادة إنتاج القذائف الدقيقة من طراز 155 بنحو 40 ألف قذيفة شهريًا، لتضاف إلى نحو 30 ألف قذيفة تُنتَج شهريًا في الوقت الحالي، بعد أن جرفت الحرب في أوكرانيا جزءًا كبيرًا من المخزونات الأمريكية؛ حيث كانت أوكرانيا تستخدم وقت ذروة الحرب في عامي 2022 و2023 نحو 250 ألف قذيفة شهريًا. وعجز الاتحاد الأوروبي أكثر من مرة عن إنتاج مليون قذيفة كل عام لأوكرانيا بسبب صعوبة التمويل، والخلافات مع دول مثل المجر، وعدم وجود سلاسل إمداد كافية؛ حيث تحتاج الأسلحة والذخيرة الحديثة إلى سلاسل إمداد طويلة، وإمدادات مستدامة.

لماذا؟

أسباب كثيرة تدفع الرئيس الأمريكي إلى العمل على تقليص التزامات بلاده في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، وأبرز هذه الأسباب هي:

1- روسيا والتفاهم معها

تقوم الحسابات الأمريكية على أن روسيا يمكن التفاهم معها، وخلال التاريخ الأمريكي- الروسي لم تنزلق موسكو أو واشنطن إلى الصراع معًا، بل على العكس؛ فكبار المفكرين الأمريكيين، أمثال بريجنسكي وكيسنجر، كانوا يقولون دائمًا إن روسيا هي “قوة للاستقرار” في أوروبا، ووسط آسيا، وفي المحيط الهادئ والقطب الشمالي. وعندما فكرت روسيا في بيع ولاية ألاسكا عام 1867 قررت بيعها للولايات المتحدة، وليس إلى بريطانيا. وكان الاتحاد السوفيتي وروسيا كتفًا بكتف في الحرب ضد النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية. حتى خلال الحرب الباردة، أدارت واشنطن وموسكو جميع الخلافات من “مساحة التنافس”، دون الانزلاق إلى “ساحة الصراع المباشر”. وبعد “قمة ألاسكا” هناك مشروع لربط الأراضي الروسية بالأراضي الأمريكية عن طريق جسر أو نفق “السلام” في مضيق بيرينغ، وهذا يفسر لماذا تتحدث الإدارة الأمريكية بود واحترام عن روسيا. كما أن خطة الرئيس ترمب لا تتضمن وقف الحرب في أوكرانيا فحسب؛ بل دمج روسيا في الاقتصاد الأوروبي والأمريكي، وهذا ما قاله -عشرات المرات- وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي كان يقول إن روسيا جزء من الاستقرار والسلام العالمي، وليس العكس. هذه الحقيقة تزعج الأوروبيين كثيرًا؛ لأن السعي الأمريكي إلى تقليص الالتزامات العسكرية الدولية لا يتعلق بالأوروبيين وحدهم؛ بل بالشرق الأوسط وإفريقيا؛ حيث تشير إستراتيجية “الإطار” التي يعمل عليها البيت الأبيض إلى تقليص الأصول العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط وإفريقيا بعد إحلال السلام، ووقف الحرب في غزة.

2- المحيطان والقبة الذهبية

هناك اقتناع أمريكي جديد بأن المحيطين الهادئ والأطلسي، مع “القبة الذهبية” التي يحاول الرئيس ترمب بناءها، بالإضافة إلى تكنولوجيا الصواريخ الأسرع من الصوت، تجعل فكرة “الدفاع المتقدم” التي تبناها الساسة الأمريكيون طوال 8 عقود منذ تأسيس حلف “الناتو” تحتاج إلى مراجعة، وهذا يعني أن الولايات المتحدة يمكن أن تسحب جزءًا كبيرًا من قواتها المتمركزة في أوروبا إذا ضمنت أن يكون هناك سلام واستقرار بين روسيا والأوروبيين.

3- نداءات لم يُسمع لها

لا يمكن إنكار المشكلات التي تتعلق بالجيش الأمريكي نفسه؛ فأعداد الجيش الأمريكي تتراجع، ولم يُوفَّ قط بالعدد المطلوب، والشباب الأمريكي يفضل العمل في القطاع المدني على القطاع العسكري؛ حيث يدر القطاع المدني مرتبات أفضل، وظروفًا حياتية أفضل من العمل في الجيش الأمريكي. كما أن كل نداءات وزارة الحرب ودعواتها لشركات السلاح فشلت في الوصول إلى المستهدفات من إنتاج السلاح والذخيرة، وهو ما يطيل فترة انتظار تسلم الجيش الأمريكي وحلفاء واشنطن للسلاح والذخيرة.

4- أولويات جديدة

تتحدث مراكز الأبحاث الأمريكية عن أولويات جديدة للجيش الأمريكي، أهمها النمو غير المسبوق في القدرات التقليدية والنووية للصين، ويتوقع البعض في واشنطن وقوع حرب بين الصين وتايوان بين عامي 2028 و2030. كما أن الرئيس ترمب يريد أن يركز على الأمن الداخلي، وأمن الحدود مع المكسيك، والعودة إلى “مبدأ مونرو”؛ بهدف العمل على الحفاظ على “الحديقة الخلفية” للولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية والكاريبي.

أزمات أوروبية

تضيف أزمة سحب الجنود الأمريكيين من أوروبا أزمة جديدة للقارة التي تعاني أزمات كبيرة وعميقة، منها:

أولًا- عدم استقرار الحكومات

لأول مرة في تاريخ أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يكون هناك هذا العدد من الحكومات المؤقتة، وحكومات تصريف الأعمال، ونموذج ذلك الحكومات الفرنسية التي لا تستمر أكثر من أشهر منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة. كما أن هناك مشكلات بين الائتلافات الحاكمة جعلت كثيرًا من الحكومات الأوروبية غير مستقرة، وأدى ذلك إلى استقالات وحكومات أقليات، كما هي الحال في هولندا وإسبانيا. وفي دولة مثل بولندا، التي تقع على الحدود الغربية لأوكرانيا، رئيس منتخب حديثًا (كارول ناوروكي)، فضلًا عن أن أحزابًا متشددة باتت تشارك في السلطة، كما هي الحال في إيطاليا، وفنلندا، والسويد، وسلوفاكيا، وهناك دول تعمل على وقف أي دعم لأوكرانيا، مثل المجر والتشيك.

ثانيًا- الحلقة الأضعف

باتت أوروبا الحلقة الأضعف مقارنة بروسيا عندما يأتي الحديث عن القاعدة الصناعية العسكرية وجاهزية الجيوش، وأوروبا أيضًا هي الحلقة الأضعف في مجال أشباه الموصلات والذكاء الصناعي عند المنافسة بين الولايات المتحدة والصين.

الخروج من هذا المأزق فيما يتعلق بالأوروبيين يبدأ بتشجيع أوكرانيا على وقف الحرب، والانخراط بحسن نية في علاقات حسن جوار وتعاون مع روسيا، وإعادة بناء القاعدة الصناعية الأوروبية التي كانت مصدرًا للرخاء والازدهار طوال العقود الماضية، لكن إطالة زمن الحرب، والانسحاب الأمريكي المتدرج، سوف يتركان أوروبا وحدها في الساحة لمواجهة روسيا في حرب لا يتمناها أحد، وفي الوقت نفسه تكون أوروبا قد تخلفت كثيرًا عن منافسيها الدوليين في الصين والولايات المتحدة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع