خريفٌ ليس كالفصول.. حين تُمحى الأوطان بالأقلام لا بالقنابل. فمنذ الاستقلال، لم تكن الأقليات في سوريا زوائد اجتماعية، أو ضيوفًا على الهامش؛ بل شركاء في صناعة الفكرة الوطنية نفسها. المسيحيون، الدروز، العلويون، الإسماعيليون، والأكراد، جميعهم أسهموا في بناء الجمهورية الأولى، وواجهوا الاستبداد كما واجهه الجميع. لكن حين أعادت القوى الداخلية والخارجية تعريف “سوريا الممكنة”، لم تُدرج هذه الطوائف كعناصر تأسيس، بل كعقبات تعوق المعادلة الجديدة.
بين “وعد الجمهورية” و”وصاية البندقية”، انزلقت الدولة السورية من طموح المواطنة إلى واقع المحاصصة المقنّعة. ومع انهيار المركز بعد عام 2011، لم يأتِ البديل مدنيًّا، بل طائفيًّا بأقنعة الثورة، وأمنيًّا بأدوات الدين. الفصائل ملأت الفراغ، والهويات أُعيد تشكيلها لا بالحوار؛ بل بالسلاح والتجنيس والاختفاء.
هذا التحقيق لا يرصد ما جرى فحسب؛ بل يضعه في قفص الاتهام:
إنه خريفٌ مُصمَّم، بطيء النزف، قاتل. لا يُعلن، بل يُنفّذ، بلا ضجيج. بلا بيان. الدين لم يعد جامعًا؛ بل صار أداة اصطفاف. خُطَب الجمعة تُحرّر في غرف أمنية، والمشيخات تُنتقى بما يرضي سردية السلطة، والكنائس تُفرغ من قساوستها المستقلين. الإعلام لم يعد مرآة؛ بل صار ستارًا يُخفي الأصوات، ويُظهر الوجوه المروّضة. أما الجنسية فتحوّلت إلى عقد إيجار سياسي: تُمنح لمن يُسبّح باسم الدولة الجديدة، وتُسحب ممن لم يُجدد البيعة، أو لم يركع للرواية السائدة.
وهكذا، تتغير البلاد بصمت. تُغلق الجمعيات، تُفكّك المؤسسات، تُحذف الأسماء من السجلات، وتُضاف إلى لوائح “المشبوهين”. تستيقظ ذات صباح، فلا تجد الحي كما كان، ولا الشارع كما حفظته، ولا اسمك كما نُطق أول مرة.
خريفٌ بلا موسم، لكنه حين يحلّ، لا يترك وراءه إلا رماد هوية، وخرائط لا تعترف إلا بمن نطق بلغة الجماعة، أو حمل السلاح دفاعًا عن سرديتها. في هذا السياق، لا تُحرق الأشجار؛ بل تُحرَق السجلات. لا تذبل الأوراق؛ بل تُنتزع الجنسيات.
ولا تتساقط الألوان من السماء؛ بل من وجوه من لم يُجدد الولاء. “خريف الأقليات” في سوريا ليس فصلًا عابرًا في سردية الحرب؛ وإنما مسار طويل من التراكمات المركبة: عسكريًّا، وإعلاميًّا، وإداريًّا، ورمزيًّا. إنه تجسيد لانهيار الدولة الجامعة، وصعود نموذج سلطوي جديد.. يكتب التاريخ، ويعيد تعريف المواطن، ثم يطلب من الجميع أن يصفقوا للرواية الرسمية، ولو كانت تكتب على أنقاضهم.
لم تولد الدولة السورية بوصفها وطنًا للجميع؛ بل بوصفها وعدًا غير مكتمل، مهددًا دومًا بخطاب الخارج وسياط الداخل. منذ الاستقلال، طُرحت فكرة الدولة المدنية على الورق، لكنّ الواقع كان مسكونًا بهاجس التفكك، وكأن الدولة خُلقت للدفاع عن نفسها، لا لخدمة مواطنيها.
مع صعود البعث، لم تُرسَّخ المواطنة بل فُكِّكت: قُدّمت العلمانية كواجهة، لكن ما جرى كان تذويبًا للهويات في مركز أمني مغلق، يديره ضباط من طائفة واحدة، لا بوصفهم ممثليها؛ بل بوصفهم أذرعًا لسلطة ترى في الانتماء تهمة، وفي الولاء خلاصًا. ولمّا استقر الحكم للأسد، تحوّل النظام من مشروع سياسي إلى منظومة وصاية طائفية معلمنة:
ومع ذلك، كان للأقليات دور رمزي في هذه المعادلة:
– المسيحيون بوابة الغرب؛
– الدروز توازن الجبل؛
– الكرد رهان الحدود؛
– الإسماعيليون إبرة الميزان في الوسط.
لكنهم لم يكونوا شركاء في القرار؛ بل أوراق توازن تُستخدم ثم تُعاد إلى الصندوق. النظام لم يُحب الأقليات، بل خاف من الأغلبية. وكلما اشتد الخوف، زاد من احتضانه الرمزي لهم، لا حبًا؛ بل احتياطًا. حين اندلعت الثورة، انكشف كل شيء.. سقطت الواجهة العلمانية. تعرّت الدولة، فبانت الأجهزة. انفجر الشارع، فلم يجد أمامه مؤسسة؛ بل عصبة. وبينما تهاوت القبضة الأمنية في بعض المناطق، لم يظهر نموذج مدني بديل؛ بل طفا على السطح الوحش الطائفي الذي كمن طويلًا تحت الجلد السوري. الجماعات التي ملأت الفراغ كانت أقل شجاعة من النظام، لكنها أكثر وضوحًا منه: (رايات سوداء، وخطب تصفوية، ولجان شرعية، ومحاكم ميدانية).
لم تكن تلك بدايات حرية؛ بل بدايات حرب أهلية بهويات طائفية مستعادة. أُعيد تعريف السوري لا بناءً على قانون؛ بل على مذهبه، سكنه، اسمه الثلاثي، ولمن يهتف. أصبح حمل الهوية الشخصية أقل أهمية من حمل “السيرة الذاتية الطائفية”. هنا لم تُقصف الدولة؛ بل قُصفت المواطنة. لم يُهدم البرلمان؛ بل هُدمت فكرة الشراكة الوطنية؛ وبذلك، لم تسقط سوريا فقط في ثورة ضد الدكتاتورية، بل في خيبة أمل جماعية من وعد الدولة نفسها. ومن رحم هذا الفراغ، بدأت تتشكل سوريا جديدة، لا تشبه ذلك الوطن الذي كنا نحلم به ذات نشيد صباحي؛ بل مزرعة هويات خائفة، ومربعات أمان طائفية، وخرائط يخطّها السلاح لا الدستور.
في عام 2012، أطلقت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالشراكة مع دول خليجية وتركيا، برنامج “تيمبر سيكامور” لتسليح المعارضة السورية. لم يكن الهدف المُعلن أكثر من دعم “الثوار” ضد نظام الأسد، لكن الحقيقة سرعان ما اتّضحت: السلاح لم يكن موجّهًا إلى النظام فقط؛ بل إلى بنية المجتمع نفسه. أُغدقت الأموال، وتدفقت الأسلحة إلى فصائل ذات صبغة مذهبية واضحة، واختفى فجأة كل حديث عن بناء دولة مدنية. لم يكن المطلوب إسقاط النظام فحسب؛ بل إنتاج نظام طائفي رديف، يتقاطع في تكوينه مع مصالح الدول الداعمة، ويستمد شرعيته من السلاح لا من الشعب.
في إدلب، حيث تمركزت فصائل “مدعومة”، كجيش الفتح، ثم هيئة تحرير الشام، بدأ التغيير الديموغرافي يأخذ طابعًا هندسيًّا بطيئًا. لم تُرتكب مجازر جماعية، لكن النتيجة كانت أشبه بمجزرة على مراحل. أُجليت العائلات العلوية من القرى المختلطة في جبل الزاوية، واختفت العائلات المسيحية من قلب إدلب المدينة. من تبقّى، عاش تحت سطوة “الرسم الأمني”، و”جزية الأمان”، أو فضل الرحيل بصمت.
الأرض أُعيد توزيعها: بيوت من هجّروا سُكنت، أراضٍ صودرت، ومساجد أعيد تأهيلها وفق خطاب ديني جديد. حتى المدارس، غُيّرت مناهجها لتكرّس هذا التحوّل: لا مكان للحياد، بل تموضع واضح داخل سردية الجماعة المنتصرة. إحصاءات الانتهاكات في إدلب وريفها:
على النقيض، كانت السويداء -ذات الغالبية الدرزية- منطقة لم يدخلها “تيمبر سيكامور”. لا فصائل مسلحة ممولة، ولا تغيير في بنية السيطرة. النتيجة؟ ثبات ديموغرافي، لكنه محفوف بالتهميش. لم يُهجّر أهل السويداء، لكنهم عوقبوا بالصمت الدولي، وبالحصار المعيشي، وبالإهمال التام من شبكات الدعم. لم تُقصف مناطقهم كالآخرين، لكنها حُرمت من كل مشروع سياسي أو تنموي. بقيت كما هي، لكن ثمن هذا الثبات كان العزلة والانكماش، لا الحضور.
إحصاءات في السويداء:
في إدلب، فُكّكت الهوية المحلية بالقوة، وتحت راية “التحرير”. وفي السويداء، جُمّدت الهوية إلى أن فقدت حضورها في المعادلة. الأولى خضعت لفرز نشط، والثانية لإقصاء صامت. كلتاهما خرجت من دائرة “الوطن”، لكن بأداتين مختلفتين. هذا التناقض يكشف طبيعة “تيمبر سيكامور” كأداة لإعادة رسم الخريطة السكانية والسياسية: ليس فقط عن طريق الدعم العسكري، بل عن طريق فرض نموذج طائفي جديد يتوافق مع مصالح إقليمية، لا مع مصالح السوريين، فحين تُمنح منطقة حق التسلح، وتُحرم أخرى من حق الحضور، تكون النتيجة واحدة: تفكيك الدولة من الداخل.
ولم يكن غياب المجازر المباشرة عذرًا، فالتغيير الناعم حين يُبنى على الإقصاء والاستبدال يصنع في جوهره نتائج لا تقل قسوة: قرى بلا أهلها، ومدنًا بلا ذاكرتها، وسوريا تنكمش نحو مشهد لا يُشبه وطنًا؛ بل خريطة توازنات مفروضة.
بلغ عدد الشهداء المسجلين في الساحل السوري بين 8 ديسمبر (كانون الأول)، و7 مايو (أيار) أكثر من 7342 شخصًا، من بينهم 5514 مدنيًّا، 4582 رجلًا وشابًا، 402 سيدة، 260 طفلًا، ووُثّقت 2092 حالة إعدام ميداني مباشر، معظمهم من الطائفة العلوية، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
المستوى الماكرو- حملات “تنظيف الساحل”: شنت مجموعات مسلحة تابعة للحكومة الانتقالية عمليات منظمة ضد قرى علويّة، استُخدمت فيها المدفعية الثقيلة وعمليات الإعدام الجماعي، وانتهت بدفن مئات الجثث في مقابر جماعية قرب الشاطئ.
المستوى الميسو- إعادة هيكلة الشرطة وفق الشريعة: أُسست “شرطة الأخلاق”، وفرضت مداهمات على مناسبات خاصة بذريعة الانحراف القيمي، ما أدى إلى اعتقالات تعسفية بحق المسيحيين والمسلمين غير الملتزمين بالسردية السلفية.
المستوى الميكرو- الاغتيالات الفردية والضغط الرمزي: شملت انتهاكات يومية، كإهانة وجهاء الأقليات، ونزع الركاب العلويين من الحافلات، وحواجز عشوائية تستهدف الدروز بطلب بطاقات هوية ملوّنة تميزهم.
الخلاصة: لم يكن “تيمبر سيكامور” مجرد خطة تسليح؛ بل أداة لصياغة خريطة اجتماعية جديدة. التسلّح صار ترخيصًا للإلغاء، والفرز الديموغرافي غطاءً لإبادة صامتة، والمجتمع السوري تحوّل إلى رقعة مقسمة حسب الولاء لا الهوية.
أحمد الشرع، المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني، لم يصل إلى السلطة عن طريق صناديق اقتراع أو تفويض وطني؛ بل عن طريق عملية تعويم تدريجية قادتها قوى إقليمية ودولية بدافع الحاجة إلى “استقرار الأمر الواقع”. ولأن السلطة الجديدة لا يمكنها تبرير وجودها بخطاب مدني أو مؤسساتي، فقد اختارت الطريق الأخطر: شرعنة الانتماء الديني والمذهبي بوصفه هوية الدولة.
لم يصرّح الشرع يومًا -صراحة- بأن دولته “سنية”، لكنه أيضًا لم يُنكر أن مشروعه يعيد تشكيل سوريا وفق منظور ديني محافظ يُقصي من لا يدخل ضمن هندسته. مؤسسات التعليم أُعيدت صياغتها لتُفرز الأئمة والمرشدين بدلًا من الأساتذة، وقُلِّص عدد المدارس “المدنية”، وأُلغيت مادة الفلسفة في عدد من المناطق بحجّة “تفكيك الفكر الغربي”. الأخطر أن خطاب الشرع يكرّس فكرة أن الأقليات ليسوا شركاء؛ وإنما مستأمنون: يُترك لهم هامش رمزي في الإدارة، لكن دون تمثيل حقيقي في الأمن، والقضاء، أو الاقتصاد. هذا الطرح يذكّر بنموذج “أهل الذمّة” في التاريخ الإسلامي، لكنه هذه المرة ملفوف بغطاء تقني، إداري معاصر، يجعل التمييز يبدو وكأنه تنظيم إداري وليس طائفيًّا.
حين بدأت معالم ما بعد 2011 تتضح، لم يكن التحول السوري مجرد انهيار لنظام قمعي؛ بل بداية لانقلاب في المفهوم نفسه للدولة، فقد استُبدل بالمنطق المركزي السلطوي منطق وظيفي مجزأ، يُبقي على قشرة الدولة وهو يُفرغها من جوهرها السيادي.
المفارقة أن هذا التحول لم يكن عشوائيًّا؛ بل جاء متسقًا مع أدبيات بعض مراكز التفكير الغربية، ففي تقرير أصدره مركز راند (RAND Corporation) عام 2016 بعنوان “التمسك بوظائف الدولة لا بهياكلها.. إعادة البناء بعد النزاع“، ورد صراحة: “في الدول الخارجة من الحروب، من الأفضل أحيانًا ترسيخ وظائف الدولة الأساسية -مثل ضبط الأمن وتقديم الخدمات- دون الحاجة إلى إعادة بناء مركزية سياسية كاملة. التعدد الوظيفي قد يكون مدخلًا لاستقرار مؤقت، ولو على حساب الوحدة الوطنية”.
هذه الرؤية، التي قد تُفهم نظريًّا في دول متعددة الهويات، تحوّلت في سوريا إلى تطبيق ميداني قاسٍ: لم تُبْنَ مؤسسات حكم محلية؛ بل جُرِّدت المركزية من معناها، وتحوّلت كل منطقة إلى إقطاعية إدارية- مذهبية- جغرافية، تُدار بمنطق “الولاء الوظيفي”؛ ففي الشمال، سادت منظومة الشريعة السنية بمرجعيات عسكرية، وفي الشرق، فُرض النموذج الكردي القومي، وفي الساحل، عاد الحضور العلوي إلى قوقعة أمنية لا سياسية. أما دمشق، فتحولت إلى مركز تنسيق إداري بين هذه الكيانات، لا إلى عاصمة فعلية لدولة ذات سيادة.
هذا كله ترافق مع صياغة دستور جديد عام 2024، وُصف إعلاميًّا بأنه تقدّمي، لكنه فعليًّا رسّخ مبدأ “التمثيل الوظيفي” بدلًا من المواطنة السياسية: الأقليات تُمنح كوتة إعلامية أو اجتماعية، لا حقوقًا سيادية. الكرد يُدرجون ضمن “المكون الشرقي”، لا بوصفهم هوية ثقافية، والمسيحيون يُشار إليهم على أنهم مكوّن “تاريخي”، لا بوصفهم جزءًا من السيادة المستقبلية.
إنها -باختصار- دولة تُنتج مؤسسات بلا مضمون، وتمنح الشرعية لمن يحسن تأدية الدور المطلوب، لا لمن يمثل الشعب. دولةٌ وظيفية بالمعنى الكامل، تتقاطع -وفق أدبيات مراكز القرار الغربية- مع مفاهيم “اللا مركزية الذكية”، و”الاستقرار فوق العدالة”. وإذا كانت تلك الوظائف تمنح الطمأنينة الظاهرة، فإنها تخفي تحتها منظومة إقصاء ناعمة: من لا يخدم الوظيفة، يُطرد من المعادلة. ليس سياسيًّا فقط، بل وجوديًّا.
استُخدم الإعلام الجديد منذ 2021 وسيلةً لإعادة إنتاج صورة الطوائف، لا نقل صوتها. ظهرت شخصيات مسيحية تمثل “الوفاق”، وعلوية تعلن “المصالحة”، ودرزية تنطق بلغة الدولة، لكن الأصوات المستقلة، النقدية، غير المنخرطة في الخطاب الرسمي، اختفت تدريجيًّا من الشاشة، ثم من الحياة العامة.
الأسوأ أن الدين نفسه استُخدم أداة فرز لا توحيد. أُعيد تشكيل المجالس الشرعية، وفُكِّكت المرجعيات التقليدية للطوائف. في بانياس واللاذقية، غُيّر خطباء المساجد لأسباب سياسية، وفي جبل العرب، رُوّج لمشيخة عقل جديدة موالية، في حين مُنعت شخصيات مستقلة من إقامة فعالياتها. في إدلب، فُرض نموذج تديني يُفترض أنه “معتدل”، لكنه يلغي أي تمظهر ديني غير سني. وهكذا لم يعد يُكتفى بإقصاء الأقليات سياسيًّا، بل رُوّضت رواياتها الدينية، وتحوّلت معتقداتها إلى ديكور يُستدعى عند الحاجة لإظهار “التعددية الرسمية”، ومعه ارتفعت جيوش وهمية: التجييش الإلكتروني كأداة للإخضاع الرمزي، مع تصدّع بنية الدولة المركزية وصعود سلطات الأمر الواقع، بات من الضروري نقل معركة السيطرة من ميادين القتال إلى ميادين الوعي؛ ومن هنا وُلدت آلية التجييش الإلكتروني، التي باتت خلال عامي 2023 و2025 الذراع الدعائيّة الأهم لترسيخ السلطة الجديدة، وإخراس المخالفين.
وفق تقارير أوروبية صدرت عن مركز (DFRLab) التابع للمجلس الأطلسي (Atlantic Council)، وعن مرصد (EU DisinfoLab)، فإن ما يزيد على 600,000 حساب وهمي أُنشئ من مناطق سورية وتركية خلال أقل من عامين، استهدفت الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين المستقلين، باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية. وقد لاحظ تقرير الاتحاد الأوروبي، الصادر في مارس (آذار) 2025 (تقرير وحدة مراقبة الحملات الرقمية بالبرلمان الأوروبي) أن هناك موجة تحريض منسقة ضد الأقليات السورية وناشطين من أصول كردية ومسيحية، مصدرها شبكات منظمة ترتبط بسلطة الأمر الواقع في الشمال السوري.
وكان اللافت أن عشرات من الحسابات الأساسية التي أطلقت حملات التشهير والتحريض تحمل صورًا رسمية، وشعارات لوسائل إعلام محلية تتبع حكومة الإنقاذ أو مقربة من حكومة الشرع، وبعضها يتبع شخصيات ذات منصب إداري أو إعلامي رسمي.
في الداخل، لم يكن التجييش أقل ضراوة؛ بل شُكِّلَ ما يشبه “غرف عمليات رقمية” تديرها وحدات متخصصة في الإعلام الأمني والمجتمعي، تتابع التغريدات المعارضة، تضع لوائح بالمطلوبين رقميًّا، وتفبرك لهم محتوى بصيغة تشهيرية أو دينية تحريضية. وقد وصلت بعض حملات التنمر إلى حدّ دفع صحفيات إلى إغلاق حساباتهن، أو طلب اللجوء خارج البلاد، كما حصل في حالات موثقة نشرتها “شبكة صحفيات من أجل الحرية”، بالتعاون مع المركز السوري للحريات الإعلامية في لاهاي.
الدول الأوروبية، مثل فرنسا والسويد وألمانيا، تقدمت -من خلال مكاتبها المختصة بحرية التعبير الرقمية- بمذكرات اعتراض إلى المفوضية الأوروبية، طالبةً تصنيف هذه الحملات ضمن “جرائم خطاب كراهية عابر للحدود”، لكن الرد السوري الداخلي لم يتجاوز التجاهل، بل سُجّلت تصريحات من بعض الإعلاميين الرسميين تسخر من هذه الاتهامات، وتراها “حربًا على خطاب الثورة”.
النتيجة لم تكن في إسكات الأصوات فقط؛ بل في خلق بيئة وهمية من الإجماع، فالحسابات الوهمية تعيد التغريدات نفسها، تصنع “ترندات” داخلية مصطنعة، وتصور الرافضين للنهج السائد على أنهم “خونة” أو “متآمرون على المشروع الإسلامي السوري”، مستخدمة تعابير مثل: “أذناب العلمانية”، “أعداء الله”، “مبشرو الجحيم الكردي”، “أحفاد لورانس”. وهكذا، أصبح التجييش الإلكتروني بندقية بلا رصاصة، لكنها تقتل المعنى، وتستبدل المطاردة بالنقاش، والقطيع بالهوية.
في يونيو (حزيران) 2025، تسرّبت معلومات عن مبادرة سعودية- أمريكية لحل ما يسمى بـ”أزمة الأقليات” في سوريا، عن طريق حوار مركزي ترعاه الرياض وواشنطن، تسبقه إجراءات اقتصادية، وانفتاح على المجتمع المدني. تبدو هذه المبادرة فرصة مبدئية، لكنها تعاني التبسيط الهيكلي: تُعامل الطوائف بوصفها جماعات تحتاج إلى حماية، لا بوصفها أطرافًا سياسية ذات رؤية.
المقاربة القائمة على “الاحتواء الاقتصادي مقابل التخلي عن الطموح السياسي” قد تنجح ظرفيًّا، لكنها تعمّق منطق التقاسم لا المواطنة. كما أنها تسير فوق ألغام ذاكرة غير معالجة: مجازر، تهجير، إقصاء، تفكك أسري، وانتزاع رموز دينية.
إن كانت المبادرة جدّية، فمفاتيحها لا تكمن في تعيين موظف مسيحي، أو إدخال شيخ علوي إلى المجلس الاستشاري؛ بل في الاعتراف الصريح بأن ما جرى هو هندسة مجتمعية، تتطلب تفكيك أدواتها، لا تزيينها. ومع أن أكثر من نصف الطوائف السورية وقواها الاجتماعية وقع ضحية “الإقصاء النشط” من خلال التهجير أو التصفية، فإن الطيف الكردي واجه شكلاً مختلفًا من الإبعاد: الإقصاء الصامت عن طريق التهميش، والاستبعاد التدريجي.
الأكراد، الذين شكّلوا نواة حيوية من قوى الثورة في مراحلها الأولى، وطوروا نماذج حكم محلي تراوحت بين الكومينات المدنية والإدارة الذاتية، لم يكونوا مجرد مكوّن قومي، بل كانوا اتجاهًا سياسيًّا يميل إلى العلمانية والليبرالية، ويرفض بشدة المشروع الديني أو الطائفي للدولة. هذا الميل جعلهم على هامش الصياغة الجديدة للدولة السورية، التي اتجهت بعد عام 2024 نحو بنية هجينة تمزج بين السلفية السياسية والمنظومة العسكرية.
لم تهاجم الدولة الجديدة الأكراد مباشرة؛ بل نُسجت حولهم إستراتيجية “الإهمال الممنهج”:
بالمقابل، استُدعيت بعض الشخصيات الكردية الفردية -ممن انخرطوا في خطابات الولاء- كواجهة شكلية، دون صلاحيات أو تمثيل حقيقي. هكذا، تم احتواء المسألة الكردية دون حلها، وصُدِّر وهْم المشاركة، في حين بقي القرار الفعلي محصورًا بين قوى سلفية قومية الطابع.
والأسوأ أن بعض القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة، أدّت دورًا مزدوجًا: استخدمت القوى الكردية عسكريًّا لمكافحة الإرهاب، لكنها لم توفر لهم أي غطاء سياسي لحماية مكتسباتهم المجتمعية، فكانت النتيجة أن الطيف الكردي، رغم كونه الأكثر حداثة وتنظيمًا، أصبح أيضًا الأكثر هشاشة سياسيًّا، لأنه رفض الدخول في لعبة المحاصصة الطائفية. وهكذا، في ظل نظام لا يعترف إلا بالولاء الأمني، أو التبعية العَقَدية، بقي الأكراد بلا مقعد، مع أنهم من أوائل من صنعوا الطاولة.
في 4 مايو (أيار) 2025، نشر “مركز العدالة السوري الأوروبي” في بروكسل تقريرًا وثّق حالة المواطن (ح. ن.)، من مواليد 1970 في حي الزهراء بحمص. نال والده الجنسية السورية بمرسوم جمهوري في التسعينيات، وكان (ح. ن.) موظفًا في وزارة الري منذ عام 1995، ولم يغادر البلاد قط. لكن فجأة، تلقّى إشعارًا من “لجنة السجلات المدنية” التابعة لحكومة الشمال يفيد بسحب جنسيته بدعوى “خلل في شرط الولادة المتطابقة مع الهوية الوطنية الجديدة”.
حين حاول الطعن، طُلب منه “إثبات الولاء من خلال وساطة عشائرية”، وهو ما رفضه، ليُبلّغ لاحقًا بأنه “غير مسجّل كحامل جنسية في الدفتر الوطني الجديد”؛ مما يعني فعليًّا تحوّله إلى لاجئ داخل وطنه. في المقابل، وفي مطلع فبراير (شباط) 2025، انتشرت صورة لمقاتل أوزبكي يُلقب بأبي البراء التركستاني، وهو يتسلّم وثيقة تجنيس رمزية داخل أحد معسكرات جسر الشغور. الوثيقة كانت مُذيّلة بتوقيع مسؤول في “لجنة شؤون المهاجرين”، وتحمل شعار حكومة الإنقاذ.
الرسالة لم تكن بحاجة إلى تفسير: من حمل السلاح إلى جانب “الثورة”، يُكافأ بالانتماء، ومن لم ينطق بلسان الجماعة، يُسقط عنه حتى اسمه.
وبين سحب الجنسية من علوي في حمص، ومنحها لمقاتل أجنبي قاتل في سهل الغاب، تتكشف السياسة الحقيقية بوضوح تام: لم تعد الجنسية تعبيرًا عن ارتباط قانوني أو وجداني بالأرض؛ بل تحوّلت إلى بطاقة اعتماد لدى السلطة الحاكمة، تُمنح لمن يخدم الأجندة، وتُسحب ممن يراها انحرافًا.
المواطنة، التي يُفترض أن تكون حقًّا طبيعيًّا، أصبحت في عهد السلطة الجديدة امتيازًا مشروطًا. لا تكفي فيها الولادة، ولا الإقامة، ولا السجل المهني، بل يُطلب فوق ذلك إعلان الولاء الطائفي، أو الصمت المطبق، أو التماهي التام مع هوية الدولة الجديدة، التي لا تقبل الانتماء المركب، أو الاختلاف الداخلي.
المنظمات الحقوقية أصدرت بيانات باهتة. لم تُرفع دعاوى جادّة. حتى الدول الأوروبية -التي كثيرًا ما تتغنّى بحقوق الإنسان- صمتت؛ لأن الحرج السياسي أكبر من أن يُواجه، ولأن سردية “الاستقرار” التي تدعمها تلك الحكومات، لا تحتمل نقضها باسم العدالة.
لكن استخدام الجنسية سلاحًا سياسيًّا ليس جديدًا في التاريخ. الجديد فقط هو العلنية الوقحة في سوريا اليوم. إنها نسخة القرن الحادي والعشرين من الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث تُخلق طبقات انتماء قانونية مرنة تُفصَّل على قياس الولاء، لا على شرف الانتماء.
وفي هذه المعادلة الجديدة، لا مكان للمسيحي، أو الإسماعيلي، أو العلوي، أو الكردي، إلا كزائر مؤقت. وإذا ما أراد البقاء، فعليه أن يمحو ذاكرته، ويعيد تعريف نفسه بلغة النظام الجديد: لغة الجماعة.
في أبريل (نيسان) 2025، انفجرت واحدة من أكثر الفضائح الحقوقية إحراجًا للاتحاد الأوروبي: تقرير رسمي صادر عن وزارة الخارجية الهولندية عن الوضع الأمني في سوريا، حاولت الحكومة حجبه وتأجيل نشره، رغم صدوره قانونًا. ما الذي كشفه التقرير؟ ولماذا شكّل صدمة للدوائر السياسية والحقوقية في الداخل الهولندي وأوروبا عامة؟
الوثيقة -التي سُرّبت لاحقًا بعد لجوء محامين إلى القضاء- لم تكن تقييمًا أمنيًّا فقط؛ بل صكّ إدانة واضحًا لمحاولات دولية لتصوير سوريا بلدًا “آمنًا للعودة”، خاصةً في مناطق النظام و”حكومة الشرع”. فبأسماء واضحة ووقائع موثقة، أكّد التقرير استمرار الاعتقالات التعسفية، والاختفاء القسري، وتقييد الحقوق المدنية، ورفض إدماج الأقليات سياسيًّا واجتماعيًّا.
الأخطر أن الوثيقة فضحت سياسة التجنيس الانتقائي التي تمارسها الحكومة الانتقالية الجديدة: تجنيس مئات المقاتلين السنّة الأجانب، مقابل سحب الجنسية من مدنيين علويين وإسماعيليين ومسيحيين، تحت ذرائع مطاطة، من قبيل “الخلل في المعايير”، أو “انعدام الولاء”. ومع أن التقرير أوصى بعدم إعادة اللاجئين السوريين، وخاصة من الأقليات، إلى هذه المناطق، فإن الحكومة الهولندية سعت إلى دفنه، خشية أن يؤدي نشره إلى:
لكن نشطاء ومحامين نجحوا في فرض نشر التقرير بالقوة القانونية، لتُفتح بذلك معركة أخلاقية فريدة: هل يجوز للديمقراطيات الأوروبية أن تُكيّف تقاريرها بحسب ما يخدم سياساتها، حتى لو كلّف ذلك حياة أبرياء؟ إنّ فضيحة التقرير الهولندي ليست استثناءً؛ بل إنها مؤشّر على توجه أوروبي أوسع، تتقدمه دول مثل النمسا وألمانيا والدنمارك، يهدف إلى تبرير إعادة اللاجئين بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على أنقاض مجازر لم تُدفن بعد، وهوية وطنية تُفرغ من معناها. إنها لحظة قاتمة. لحظة تتخلى فيها العدالة عن قانونها، وتغلق فيها الدولة أبوابها في وجه أبنائها الأصليين، لتُفتح على مصراعيها أمام القادمين الجدد… إن كانوا على المقاس الصحيح.
اليوم، وبعد أربعة عشر عامًا من الثورة، لم تعد سوريا ذاتها. تراجع الحضور الطائفي من المشاركة إلى النجاة. العلويون، الذين تمترسوا في مؤسسة الدولة عقودًا، انكفؤوا إلى قراهم، أو غُيّبوا رمزيًّا. المسيحيون فقدوا الثقة بأفق الدولة، وغادر عشرات الآلاف بصمت. الدروز باتوا محاصرين بين خطاب ديني خافت وواقع أمني مشوّش. الإسماعيليون انسحبوا من العمل المدني، بعد أن أُغلقت نوافذ التأثير.
لم تذهب هذه الأقليات إلى المنفى فقط؛ بل إلى منفى داخلي: لا تأثير سياسيًّا، لا تمثيل فعليًّا، لا خطاب خاصًا؛ وإنما وجود رمزي موجه من السلطة. حتى التعدد اللغوي والثقافي، الذي كان يومًا سمة وطنية، أُعيد تدويره في إطار “الهوية المنضبطة”.
المرحلة المقبلة لا تُنذر بصدام دموي بالضرورة؛ بل بتصلب هوية أحادية تُنتج ديمقراطية شكلية تُقصي من لا ينطق بلغتها. وإذا لم يُكسر هذا المسار عن طريق مشروع جامع يضمن الحقوق، فسنشهد ولادة دولة جديدة، أحادية المعنى، ومتعددة فقط في الصور.
في يونيو (حزيران) 2025، أطلق البابا ليو الرابع عشر (أول بابا أمريكي المنشأ) تحذيره الصريح من تلاشي المسيحيين في الشرق الأوسط، قائلًا إن “الهجرة لم تعد خيارًا فرديًّا، بل نتيجة منظومة كاملة تدفع الطوائف إلى الزوال بصمت”.
لم يكن تصريحه استثناءً، بل إنذارًا إستراتيجيًّا متأخرًا، أتى بعد أن بات النزف المسيحي في سوريا واقعًا، لا خطرًا مستقبليًّا. في سوريا، لم يكن التهجير مجرّد أثر جانبي للحرب؛ بل سياسة صامتة توزّعت على ثلاثة مستويات: القتل المباشر، والتهميش المنهجي، والتسهيل الطوعي للهجرة. ولعلّ أكثر ما يضاعف المأساة أن هذه الهجرة لم تُفرض فقط من الخارج، بل في أحيانٍ كثيرة جاءت بتواطؤ داخلي، عن طريق رجال دين انخرطوا في عملية تفريغ الطائفة بهدوء.
في أكثر من محافظة سورية، وبشهادات جمعيات مسيحية مستقلة، لوحظ أن بعض كهنة الكنائس أسهموا في تسهيل ملفات الهجرة الجماعية، لا لنجاة فردية مشروعة؛ بل كجزء من إعادة تموضع مدروس. قدّموا شهادات “ضعف حماية”، وصاغوا رسائل دعم لخروج الأسر، وسهّلوا ارتباطات مع جهات دولية كانت تنفذ برامج “استقبال إنساني”، لكن دون أي شروط للعودة، أو إعادة دمج داخل الوطن.
وهكذا، تحول الكاهن من راعٍ لجماعته إلى وسيط خروج، أحيانًا بنيّة الحماية، وأحيانًا بدافع فقدان الأمل، لكن النتيجة واحدة: كل من كان صوتًا داخل الوطن، خرج منه بصمت. في هذا السياق، تحوّلت المدن المسيحية -من معلولا إلى صيدنايا إلى القلمون- من فضاءات حضارية متجذرة، إلى أماكن محنّطة في الذاكرة، يزورها المهجّرون في الحنين، لا في الحياة.
وفي ظل هذا النزيف، جاء تحذير البابا ليو ليس فقط دفاعًا عن الطائفة المسيحية؛ بل إدانة شاملة لعملية “إعادة تصميم” المشرق، حيث يُكافأ من يقاتل، ويُقصى من يتجذّر، وتُمنح الجنسية لمن رفع السلاح، وتُسحب ممن بنى كنيسة، أو كتب إنجيلًا.
والأخطر أن المجتمع الدولي صمت، بل أسهم أحيانًا في هذه التصفية الرمزية، تحت شعار “مساعدات إنسانية”، دون مساءلة عن أسباب الخروج، أو حق العودة، أو ضمان الحماية داخل الوطن.
الفاتيكان أطلق الإنذار، لكن الكنائس المحلية -أو بعضها- كانت قد فتحت الأبواب وباركت الخروج. فهل لا يزال هناك من يسمع، قبل أن يُغلق الباب الأخير؟
على أطراف الذاكرة، حين تُمحى الأمم لا لأنها هُزمت؛ بل لأن أحدًا لم يدافع عن معناها.. في سوريا ما بعد 2024، لم تعد الحرب تُخاض بالمدافع؛ بل بالتأويلات. لم تعد القذائف هي السلاح؛ بل المراسيم، والخطاب، ودفاتر النفوس. صار القتل قانونًا مؤجّل التنفيذ، والغياب سياسة لا تعترف بمرآة التاريخ.
لم يكن الخطر في رصاصة تطلق؛ بل في سؤال يُعاد طرحه بألف طريقة: “مَن السوري؟” سؤال يتخفّى خلف أوراق الجنسية، ومجالس المصالحة، ونشرات الأخبار، لكن جوابه الحقيقي بات مرهونًا لا بالولادة، ولا بالإقامة؛ بل بالولاء. من لا يطابق هوية الجماعة، يُمحى من الصورة.. لا بصيغة الإعدام؛ بل بصيغة التجاهل.
حين تُسحب الجنسية من علوي في حمص، وتُمنح لمقاتل أجنبي قاتل باسم “التحرير”، لا نكون أمام دولة؛ بل أمام وكالة انتماء تُصدر الهويات على قاعدة السوق لا التاريخ. وحين يُطلب من الأقليات أن تصمت، ثم تشكر مَن أبقى على وجودها كزينة رمزية، نكون قد دخلنا مرحلة “المصالحة بالإكراه”، حيث الذاكرة تهمة، والسؤال جريمة، والصمت هو تذكرة البقاء.
اليوم، لا يقيم المواطن في قريته؛ بل في ملفه الأمني. لا يُعترف به من له جذور؛ بل من له راعٍ. والمدن، لم تعد تُسمّى بأسمائها؛ بل بأسماء شهداء “الطرف المصرّح له بالكتابة”.
إن “خريف الأقليات” لم يكن هبوب ريح عابرة، بل كان مسارًا زاحفًا تفكك فيه كل ما هو وطني، وتحول الوطن إلى مساحة مشروطة، مؤقتة، محفوفة بالمراقبة والسحب والتمييز الرمزي، لا لأن الأقليات خرجت؛ بل لأن أحدًا لم يضعها في حساب الدولة الجديدة.
وإذا لم تنهض القوى المدنية والضمائر الحيّة -في الداخل كما في المنفى- لمواجهة آلة الإقصاء التي تتغذى على الصمت، فإن ما نراه اليوم ليس نهاية الحرب؛ بل بدايتها المؤجلة، فالمجزرة لا تبدأ حين تُطلق الرصاصة، بل حين يُعترف بجزارها، ويُقال للضحية: أنتَ لا تُشبهنا.
لن تُبنى سوريا الجديدة إن لم يُسترد الحق لا إلى أصحاب البنادق؛ بل إلى من حملوا الذاكرة واللغة والأمل.
وإن لم تُكتب الرواية كاملة، سيكتبها المنتصر وحده، بلغته، بجنسيته، وعلى أنقاض وطنٍ لم تُهدم منازله، بل طُمست ملامحه. أما عن سؤال: “لماذا حدث هذا الخراب؟”، فجوابه مؤلم بقدر ما هو صريح:
سوريا لم تدخل خريف الأقليات حين هُجّر أول درزي، أو سُحقت أول كنيسة، أو غادر آخر كردي؛ بل حين قالت الغالبية الصامتة: هذا ليس شأني، وقالت السلطة: التنوعُ عقبة لا يُعوَّل عليه. هذا الخريف لم يكن مصادفة؛ بل نتيجة حسابات دقيقة، نفذتها سلطة تُحسن إدارة الخراب، ويُراقبها عالم يُشفق على الضحايا، شرط ألا يكونوا من الأقليات. وحين يُغلق الباب الأخير، ويصمت الجرس الأخير، ويُطفأ النور في الكنيسة الأخيرة قد لا يبقى في سوريا سوى تاريخ يُتداول بين لاجئين، وخرائط لا أحد يجرؤ على رسمها كما كانت.
المصادر:
قائمة بالمراجع والمصادر الرئيسية التي استندت إليها في بناء هذا التحقيق، تشمل تقارير من مراكز بحثية دولية، ومؤسسات حقوقية، وتقارير إعلامية متخصصة:
١. مراجع لتفكيك الدولة وبحث مفهوم “الدولة الوظيفية” بعد النزاعات
٢. مصادر عن التجييش الإعلامي والاعتداءات الرقمية
٣. إحصاءات حقوق الإنسان والمجازر الطائفية
٤. مصادر إضافية مرتبطة بالتقارير الإعلامية والرقمية
٥. مراجع وتقارير إعلامية أخرى
ملاحظة: تم التوثيق المستفيض باستخدام تقارير منعطفات كبرى من مراكز بحثية رصينة (كالـRAND وDFRLab) تقابلها بيانات ميدانية من المرصد السوري، بالإضافة إلى المصادر الإعلامية الأوروبية.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.