تواجه حركة حماس اليوم لحظةً مفصلية في التاريخ الفلسطيني؛ لحظةً تتجاوز آثار العدوان وحرب الإبادة الجماعية على غزة، لتطرح أسئلةً مصيرية تتعلق بالاستمرار، والتموضع في الفضاء الوطني الفلسطيني، وإعادة تعريف الفعل الوطني في ظل تحولات عميقة في بنية الصراع وشروطه الإقليمية والدولية.
لقد مثّلت عملية “طوفان الأقصى” صدمة عنيفة في وعي الاحتلال، استغلّها اليمين الإسرائيلي المتطرف لشن حرب صفرية ضد الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، لكنه -في المقابل- كشف عن حجم التحديات البنيوية والسياسية التي تعصف بالمشروع الوطني الفلسطيني؛ من الانقسام السياسي الذي بدا وكأنه تجاوز حدود النخب، ليطول نسيج الشعب الفلسطيني نفسه، بفعل طبيعة الحرب الشاملة التي يتعرض لها قطاع غزة، وبسبب إكراهات الجغرافيا السياسية، وما تفرضه من قيود وتكاليف على حركة الشارع.
يُضاف إلى ذلك التآكل المؤسسي الذي أصاب البنية الفصائلية بما يوازي اهتراء المؤسسات الرسمية الفلسطينية، وصولًا إلى غياب العقل السياسي الجامع والقادر على بلورة إستراتيجية وطنية تتكامل فيها المقاومة والسياسة، وتُنهي الفصام النكد بين الشرعية والسلاح.
لم يعد ممكنًا التعامل مع ما يجري على أنه مجرد حرب تهدف إلى اجتثاث حركة حماس، أو حملة عسكرية لإضعاف قدراتها القتالية ونزع سلاحها؛ فقد بات واضحًا مدى محدودية هذا السلاح في التأثير في معادلات الصراع، أو في رسم خطوط حمراء تحدّ من وحشية الاحتلال، وتكبح مخططاته الرامية إلى حسم الصراع، بما يعني فعليًّا هزيمة الشعب الفلسطيني، وتصفية قضيته.
ما نشهده اليوم هو استخدام هذا الملف ذريعةً إضافية لتمديد أمد الحرب، وكسب الوقت لتنفيذ مخططات الاحتلال الهادفة إلى تفتيت الجغرافيا الفلسطينية، وتمزيق النسيج الديمغرافي، ومحو الهوية الوطنية، وذلك بعد انكشاف الخدعة التفاوضية التي مارسها الاحتلال من خلال تجزئة ملف تبادل الأسرى.
كما لم يعد مقبولًا الاكتفاء بتفسير هذه اللحظة على أنها “حلقة جديدة في سلسلة النضال”، في ظل التكلفة الباهظة التي يدفعها الشعب الفلسطيني، وغياب أي أفق لإنهاء الحرب، واستعادة القدرة على التعافي وإعادة التوازن السياسي والميداني، فلا يمكن تجاوز هذه اللحظة دون مراجعة وطنية شاملة للخيارات المطروحة، وأدوات الفعل القائمة.
فنحن أمام تحوّل إستراتيجي لا يخصّ حركة حماس وحدها؛ بل إن تداعيات هذه الحرب تمسّ مجمل الشعب الفلسطيني، ولا يجوز وطنيًّا اختزال إدارة هذه المرحلة في يد طرف واحد، أو حصرها في ملف تبادل الأسرى؛ فإن ما يجري اليوم يطول مصير الشعب الفلسطيني بكامله، ويهدد مستقبل القضية الوطنية، ويطرح أسئلة جوهرية عن بنية النظام السياسي الفلسطيني، ومنظومة العمل الوطني، وجدوى الأدوات والآليات المستخدمة حاليًا في إدارة الصراع.
من المقاومة المنفردة إلى الشراكة الوطنية الجامعة
لقد أثبتت التجربة أن المقاومة -رغم شرعيتها وضرورتها في مواجهة الاحتلال- لا يمكن أن تشكل بديلًا عن مشروع وطني فلسطيني شامل، كما لا يجوز أن تُمارس خارج إطار الشراكة الوطنية، أو بمنطق التفرد في القرار. وينطبق هذا المبدأ كذلك على أي مسار سياسي يُبنى على إقصاء الأطراف الفلسطينية الأخرى، كما حدث في اتفاق أوسلو، مهما كانت المبررات أو الظروف المحيطة به.
ما نحتاج إليه -دومًا- هو تكامل المسارات، ومقاربات شاملة لصراع معقّد ومتداخل في أبعاده الحضارية والإقليمية والدولية، وأهم من ذلك، الاستناد إلى شراكة وطنية كاملة في صناعة القرار، بما لا يصطدم بوقائع إقليمية أو لحظات دولية غير مواتية، وبالدرجة الأولى بحسابات دقيقة للتوازنات في موازين القوى والقدرات، وهذا يفرض على حركة حماس -بحكم ثقلها الجماهيري والميداني- أن تنخرط في تحوّل إستراتيجي متعدد المستويات، يشمل ما يلي:
وذلك ضمن إطار وطني جامع يُعيد تأسيس السياسة الفلسطينية على أسس الشراكة والتكامل، بحيث تصبح الحركة جزءًا لا يتجزأ من الشرعية الوطنية الفلسطينية، بما يضمن التزام الجميع بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني، والاعتراف الكامل بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية. وفي هذا السياق، تلتزم حركة حماس بانتهاج سياسة جماعية داخل اللجنة التنفيذية للمنظمة، سواء من خلال تمثيلها المباشر، أو من خلال تصعيد شخصيات وطنية توافقية، وذلك في غضون فترة انتقالية تمهّد لإجراء انتخابات شاملة للمجلس الوطني الفلسطيني.
بما يتيح للحركة إعادة التموضع السياسي من خلال سياسة خارجية متوازنة، تُعزّز علاقاتها مع مختلف الأطراف الإقليمية، على قاعدة الحياد الإيجابي، والالتزام بالأمن القومي العربي بما يخدم القضية الفلسطينية. ويشمل ذلك رفض ارتهان القرار الوطني الفلسطيني لأي طرف خارجي، واعتبار ذلك خروجًا عن الإجماع الوطني الفلسطيني.
مع أن القانون الدولي يُعد من أبرز ضحايا هذه الحرب، فإن التمسك به مرجعيةً للعمل السياسي لا يزال يمثل مصلحة وطنية عليا للشعب الفلسطيني. وقد عبّرت حركة حماس عن هذا التوجه منذ إصدار وثيقتها السياسية عام 2017، التي أكدت فيها التزامها بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وعاصمتها القدس، مع ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين، واعتبرت أن هذا البرنامج يُمثل الحد الأدنى من التوافق الوطني، وأن الجهة التي تعطل تحقيقه هي الاحتلال الإسرائيلي.
من خلال الالتزام بسياسة أكثر شفافية وتشاركية مستقبلًا، مع الاستعداد لتحمّل المسؤولية عن أي انتهاكات قد تكون ارتُكبت عن غير قصد من قبل الحركة. إن استمرار استنزاف القدرة الفلسطينية على الصمود في معركة مفتوحة بلا أفق سياسي، يُهدد بإضعاف موقع القضية الفلسطينية إقليميًّا ودوليًّا، ويقلّص القدرة على انتزاع أي استحقاق وطني ملموس، خاصة في ظل تصاعد مخاطر خروج الصراعات الدولية والإقليمية عن السيطرة، وبما يشمل محاولات إعادة رسم مستقبل غزة بعيدًا عن الإرادة والقرار الوطني الفلسطيني المستقل. الأمر الذي يحتّم العمل وطنيًا على توسيع أدوات النضال، زيادة وزن العامل الفلسطيني في المعادلات الإقليمية والدولية بما يمنع أي ترتيبات تستبعد الإرادة الفلسطينية، وذلك بتعزيز القدرات المؤسساتية والشرعية الفلسطينية، وتطوير أشكال المقاومة لتشمل الجوانب الشعبية، والدبلوماسية، والقانونية، مع العمل على تدويل ملف العدوان على غزة، وتعزيز الضغط السياسي والإعلامي المتواصل. كما يتطلّب ذلك تفعيل الاشتباك السياسي مع الاحتلال ضمن مقاربة وطنية شاملة، تُراكم الإنجازات، وتحدّ من الخسائر، وتُعيد الاعتبار إلى المشروع الوطني الفلسطيني في هذه المرحلة المفصلية.
في ضوء ما سبق، يمكن اقتراح أربعة مسارات متداخلة مع مخارج حركة حماس ومعها الحالة الوطنية الفلسطينية برمّتها من نفق الحرب نحو أفق وطني جديد:
يُشارك فيه جميع القوى الوطنية والإسلامية، ويتجاوز منطق المحاصصة، ويؤسس لإجماع وطني جديد. ويتحقق ذلك من خلال:
أولًا– بلورة خطة فلسطينية عاجلة لإنهاء الحرب التي هي من طرف واحد، تُطرح خلالها جميع الملفات، وتُقدَّم فيها إجابات وطنية جامعة للتحديات المتعلقة بـ”اليوم التالي”، سواء الشروع بإنفاذ لقاء بكين بشأن حكومة طوارئ “تكنوقراط”، أو لجنة إسناد مجتمعي وفق حوارات القاهرة، يسبقها إعلان واضح تعلن حماس فيه تنحّيها عن إدارة القطاع
ثانيًا– التوافق على طبيعة المشروع الوطني الفلسطيني وأدواته، بما في ذلك موقع المقاومة المسلحة ضمنه، مع تأكيد أن المقاومة، بمفهومها الواسع، ليست بديلًا عن السياسة؛ بل رافعة من روافعها.
تتطلب المرحلة الراهنة أن تتولى منظمة التحرير الفلسطينية قيادة عملية التفاوض، على غرار ما جرى بعد حرب عام 2014، بوصفها الإطار الشرعي والجامع الوحيد للشعب الفلسطيني. ويُشترط لتحقيق ذلك بلورة رؤية سياسية واضحة تستند إلى جملة من المطالب الأساسية، تشمل: وقف الحرب تمامًا، ورفع الحصار المفروض على قطاع غزة، وتثبيت اتفاق لوقف إطلاق النار، وتوفير ضمانات دولية جدية لإعادة الإعمار، وفتح أفق سياسي حقيقي يقوم على أساس الحقوق الوطنية الفلسطينية.
الانفتاح على كافة المبادرات الساعية إلى وقف الحرب، والاحتماء بالإطار الإقليمي بمساريه: الخطة المصرية التي باتت خطة عربية لرفض خطة التهجير التي يطرحها الرئيس الأمريكي ترمب، والمسار الثاني هو التحالف الدولي لفرض حل الدولتين الذي تقوده المملكة العربية السعودية، بدعم من اللجنة السباعية المنبثقة عن القمة العربية الاسلامية؛ مما يوفر للفلسطينيين إطارًا تفاوضيًّا متماسكًا ووازنًا إقليميًّا ودوليًّا أمام الخطط الأمريكية والإسرائيلية تجاه الملف الفلسطيني.
نقول إن اللحظة الراهنة لا تقبل التردد أو المناورة، فهي إما أن تقود إلى نقلة نوعية في المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة تأسيسه من قلب غزة الجريحة، وإما أن تُعيد إنتاج ذات البنية المأزومة التي أوصلتنا إلى هذا الانسداد. إن حركة حماس، بما تملكه من إمكانات، تقف أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف ذاتها ودورها، ليس بوصفها مجرد فصيل مقاوم؛ بل بوصفها جزءًا من قيادة وطنية جامعة، تسعى إلى تحقيق الحقوق الوطنية التاريخية والثابتة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.