تقدير موقف

حفتر في موسكو.. دلالات اللقاء مع بوتين وإعادة تموضع النفوذ الروسي في ليبيا


  • 15 مايو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: rbc.ru

في ظهور مفاجئ بالعاصمة الروسية موسكو، شارك القائد العام للجيش الوطنى الليبي المشير خليفة حفتر، برفقة نجله صدام حفتر، يوم 9 مايو (أيار) 2025 في احتفالات عيد النصر في ذكراه الثمانين، بدعوة رسمية من الجانب الروسي. وقد جرت مراسم الاستقبال الرسمية على مستوى عال، فقد كان في استقباله في المطار نائب وزير الدفاع الروسي.

ورغم الطابع الاحتفالي العلني، فإن هذه الزيارة، وبعد عقد لقاء مغلق بين حفتر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اكتسبت -في رأيي- طابعًا سياسيًّا وإستراتجيًّا واضحًا، فقد عُقد هذا اللقاء بحضور شخصيات عسكرية روسية بارزة، على رأسها نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال يونس بك يفكوروف، الذي يُعد الآن الذراع الروسية العسكرية الرئيسة في التنسيق في الملفين الليبي والسوري، فضلًا عن الإشراف على الوجود العسكري الروسي في القارة الإفريقية.

وإذا بدأنا من توقيت هذه الزيارة وسياقها، فسنرى أنها تأتي في لحظة دقيقة تشهدها الساحة الليبية، فعلى الرغم من توقف أعمال الاقتتال بين شرق ليبيا وغربها، فإنها دخلت في حالة من الجمود، حيث تعسر المسار الانتخابي الموحد تحت رعاية الأمم المتحدة. والانقسام المؤسسي بين شرق ليبيا وغربها حقيقة قائمة وعقبة كأداء، مع وجود مؤشرات على توجهات “فيدرالية كامنة” في شرق ليبيا، حيث يجري تعزيز الهياكل الإدارية والعسكرية في شرق ليبيا بقيادة حفتر، بما يكرس أمرًا واقعًا أشبه بحكم ذاتي، وإن كان غير معلن.

وفي هذه المرحلة سعت روسيا -وما زالت تسعى- إلى إعادة هيكلة وجودها وحضورها في ليبيا في مرحلة ما بعد “فاغنر”، بحيث تحول العلاقة إلى نمط مؤسسي مباشر.

وفي هذا السياق، فإن للقاء بوتين وحفتر في هذه اللحظة دلالات مهمة. وعلى الرغم من غياب التصريحات الرسمية التفصيلية، لأن اللقاء أُعلن، وأذاع الإعلام مقطعًا من بروتوكول الاستقبال، فإننا -رغم غياب التفاصيل- نستطيع استنتاج عدة مضامين إستراتيجية من هذا اللقاء:

– تجديد الاعتراف الروسي بشرعية خليفة حفتر بوصفه فاعلًا محوريًّا ورئيسًا في مستقبل ليبيا، وتحديدًا في الشرق.

– إعادة تنظيم النفوذ الروسي من الصيغة غير الرسمية (فاغنر) إلى شراكة عسكرية وأمنية تحت مظلة ورعاية وزارة الدفاع الروسية.

– طرح ملفات اقتصادية مدخلًا للنفوذ الناعم، وبصفة خاصة في مجالات إعادة الإعمار، والطاقة، والبنية التحتية.

– تقديم صدام حفتر، وهذه نقطة بالغة الأهمية في رأيي، بوصفه شريكًا محتملًا في المرحلة المقبلة، حيث التقاه بوتين مع والده، وهذا الأمر هدفه أن يتيح لموسكو الاستثمار في استقرار نسبي طويل الأمد في شرق ليبيا.

وانطلاقًا مما ذكرته، يُطرح سؤال منطقي: ما أبعاد الحضور الروسي في ليبيا بعد مرحلة فاغنر؟

بصفتي مراقبًا من داخل موسكو، يمكنني رصد مجموعة من المبادئ التي تتحكم في كيفية تعامل الكرملين مع الملف الليبي:

– في المقام الأول، بالطبع البراغماتية المطلقة، فروسيا لم تعد تربط نفسها بتحالفات أيديولوجية أو تبعية سياسية، لا  في ليبيا ولا في غيرها؛ بل تسعى إلى بناء نفوذ مع الفاعلين القادرين على تأمين المصالح الواعية.

– محاولة احتواء الحضور الغربي والتركي، فموسكو تتابع بحذر التحركات التركية في غرب ليبيا، وتسعى عبر حفتر إلى موازنة النفوذ في طرابلس من خلال عمقها في الشرق.

– الهندسة السياسية الهادئة: لا تميل روسيا إلى المواجهة الصريحة مع أطراف دولية في ليبيا، بل تميل إلى الهندسة الناعمة للنفوذ عبر الإقتصاد والأمن.

لذلك، ومن واقع متابعة ملف الوجود الروسي في ليبيا بعد مرحلة فاغنر، يمكن القول إنه حدث تحول في الموقف الروسي شهد تطورًا في أدوات “التدخل” الروسي، شمل ذلك ما يلي:

– إيفاد مستشارين عسكريين رسميين تابعين لوزارة الدفاع داخل ليبيا.

– استمرار الوجود الأمني في محيط المنشآت النفطية والبنى التحتية في الشرق بغرض التأمين.

– إدارة تدريجية للملف الليبي من داخل وزارتي الدفاع والخارجية، بعيدًا عن القنوات الموازية.

– تحويل العلاقة مع حفتر من مجرد الدعم الميداني إلى تنسيق إستراتيجي منظم ومفتوح ومعلن سياسيًّا.

إذن، وبصفتي مراقبًا، ولكوني مصريًّا، أتساءل: ما موقع مصر من الحراك الروسي شرق ليبيا؟

مما لا شك فيه، ولا جدال حوله لكل باحث، بل لأي شخص عادي، أن ليبيا تمثل عمقًا إستراتيجيًّا مباشرًا للأمن القومي المصري؛ وعليه فإنني أرى أن القاهرة تتابع تطورات الحضور في شرق ليبيا بعين إستراتيجية مفتوحة جيدًا وواعية، وتنظر إليه باعتدال، وترحب بتوزان النفوذ مع تركيا ما دام يتم بالتنسيق المشترك، ولا يقوض المصالح المصرية.

لكنها ترفض -بشدة- التحركات غير المنسقة التي قد تؤدي إلى اختلال المعادلات المحلية داخل ليبيا نفسها، أو تلك التي قد تشكل تهديدًا للمجال الحيوي المصري، خاصة مع الانكشاف الليبي على ساحات أخرى، مثل السودان، وتشاد، والساحل.

كما أن القاهرة تحتفظ بعلاقات وثيقة مع قيادة الجيش الوطني الليبي، وهي حريصة -من واقع متابعتي- على أن تبقى العلاقة الروسية- الليبية في الشرق مكملة للدور المصري، لا بديلة عنه.

 من كل القراءة السابقة، وهي تحليلية لا أكثر، وجهد شخصي يعبر عن وجهة نظر مراقب، واستنادًا إلى المعطيات الراهنة، يمكنني استنتاج أن زيارة المشير حفتر إلى موسكو -ولقاءه مع الرئيس بوتين- تحمل دلالات تتجاوز الطابع البروتوكولي، فهي خطوة ضمن مسار أوسع لإعادة ترتيب أوراق الشرق الليبي، في ضوء انسداد الأفق السياسي العام، كما أنها -بلا شك- تكشف عن نية روسية لإعادة تموضع فعال داخل المشهد الليبي، وتحديدًا عبر بوابة الشرق.

وفي المقابل، تبقى مصر الطرف العربي الأكثر اتصالًا وارتباطًا بمآلات هذا الحراك، مما يستدعي مقاربة إستراتيجية مرنة، تضمن حماية المصالح المصرية، وتستثمر في التوازن الإقليمي دون انجرار إلى صراع نفوذ مع موسكو، بل على العكس من ذلك، قد تجد القاهرة في موسكو شريكًا لتقوية موقف شرق ليبيا دون الانجرار إلى صدام مباشر مع تركيا أو القوى الغربية، وهو ما يندرج تحت بند ما يعرف بسياسة “التوازن الحذر”.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع