أبحاث ودراسات

حزب الله وإيران.. ولاية الفقيه ودخول معترك السياسة المحلية والإقليمية


  • 15 أكتوبر 2024

شارك الموضوع

تحدثنا في المقالين السابقين من رباعية “تاريخ حزب الله” عن قصة صعود حزب الله، وكيف تمكن من ترسيخ وجوده في لبنان، وتحرير الأرض، وبناء الهالة الإعلامية، بعدما حقق شعبية داخل لبنان، وكل العالم العربي. وفي هذا المقال، سنتحدث عن أيديولوجية حزب الله وإشكاليتها، ومدى تأثيرها في ولاءاته السياسية تجاه إيران من عدمها، وكيف ولماذا انخرط في العملية السياسية بعدما كان يرفض الدخول فيها، وصولًا إلى تحطيم هالته الإعلامية.

ولاية الفقيه

لا يمكن فهم عقيدة حزب الله وأيديولوجيته وارتباطه بإيران دون فهم عقيدة “ولاية الفقيه”، وهو موضوع طويل ومعقد، سأسعى إلى اختصاره وتبسيطه قدر الإمكان.

كلمة “شيعي” تعني: “موال أو تابع لنهج شخص أو فئة أو جماعة”، والشيعة في الإسلام هم أولئك المسلمون المؤمنون بموالاة واتباع أهل بيت الرسول، وأهل البيت في معتقدهم هم أبناء علي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء بنت الرسول محمد، وهما الحسن والحسين ونسلهما، وداخل الشيعة مذاهب وفرق عدة. ما يهمنا هم الفرقة الأكبر عددًا، التي يؤمن بعقيدتها غالبية الشعب الإيراني، وحزب الله وجمهوره، وهي الفرقة الإمامية؛ نظرًا إلى إيمانهم بضرورة وجود إمام بعد وفاة الرسول يتولى شؤون الدين والدنيا، والاثنا عشرية؛ لإيمانهم بوجود اثني عشر إمامًا بعد وفاة الرسول، أولهم علي بن أبي طالب، ومن بعده ابنه الحسن، وبعده أخوه الحسين، وباقي التسعة من نسل زين العابدين بن الحسين بن علي، وهؤلاء هم أئمة كل شيعي اثني عشري يدين لهم بالولاء، ومنهم يأخذ دينه، وإليهم يدفع الخُمس من أمواله، وبأمرهم يضحي بروحه وحياته.

بعد وفاة الإمام الحادي عشر؛ الحسن العسكري، عام 874م، ظهرت إشكالية داخل المذهب، وتسلسل الإمامة فيه، سُميت “عصر الحيرة”، حيث لم يظهر له ولد ليخلفه بالإمامة، ثم خرجت بعدها نظرية تقول بوجود ولد بالفعل للإمام يُسمى محمد، وقد أُخفي عن العباسيين حتى لا يقتلوه، وإنه غاب غيبة صغرى نحو (70) سنة، كان يخاطب فيها شيعته والمؤمنين به من خلال وكلاء أو سفراء أربعة من المخلصين له، وهم من يأخذ عنهم الشيعة الفتاوى، ويدفعون لهم الخُمس نيابة عنه.

بدءًا من عام 941م، دخل هذا الإمام فيما سُميت الغيبة الكبرى بعد وفاة الوكيل الرابع له. في ظل الغيبة الكبرى لن يظهر الإمام إلا في آخر الزمان؛ لكونه المهدي، لكن السؤال الذي طُرح آنذاك: “كيف يمكن للشيعي أن يحصل على الفتوى بالأمور الدينية، وإلى من سيدفع الخُمس من أمواله؟”، وهذا الخُمس يقسم إلى قسمين: قسم يوزعه الإمام على الفقراء، والآخر يحصل عليه الإمام ليكون تحت تصرفه، ولحل هذه الإشكالية ظهرت فكرة مراجع التقليد، أي رجل دين شيعي وصل إلى مرتبة الاجتهاد، وأصبح مرجعًا في العلوم الشرعية، ويسمى آية الله العظمى، وعلى كل مسلم شيعي أن يأخذ فتاواه عن هذا المرجع المعتمد، ويدفع إليه الخمس من أمواله، وفي ظل هذه الغيبة الكبرى لا تقام صلاة جمعة، ولا صلاة جماعة، ولا تقام دولة على أساس ديني، ولا يمكن للشيعة الجهاد أو الثورة؛ لأن هذه الأمور بحاجة إلى إمام معصوم هو من يقررها، ولا وجود لإمام معصوم سوى المهدي المنتظر؛ وعليه يعيش الشيعة في حالة ازدواجية تحت سلطة حكم سياسي لا يؤمنون بها دينيًّا، لكنهم يتعاملون معها وفقًا لمبدأ الأمر الواقع، وولاؤهم لبلدانهم راسخ، ولا يجوز لهم الثورة على حكامهم لدوافع دينية. عاش الشيعة وفق هذه القواعد في هدوء وسلام داخل الأقطار المختلفة، وتحت سلطة عدة دول، وسلالات حاكمة، يتبعون نظامًا دينيًّا مركزيًّا وصارمًا داخليًّا، ويجمعهم نظام تكافل اجتماعي لا يجعلهم بحاجة إلى دعم من أي أحد في ظل توزيع المراجع الدينية لأموال أغنيائهم على فقرائهم.

بعد الغيبة الكبرى عام 941م بسنوات قليلة، ظهرت أفكار يمكن اعتبارها البداية لما سيُسمى فيما بعد ولاية الفقيه، وتطور هذا المفهوم مع الزمن حتى تمكن روح الله الخميني من مأسسة هذه الرؤية الفقهية، وعبّر عنها في كتابه الشهير “الحكومة الإسلامية“، وهو عبارة عن عدة محاضرات له ناقش فيها عام 1969، كيفية تأسيس دولة إسلامية شيعية في ظل غياب إمام معصوم من أهل البيت.

تقول هذه الرؤية الفقهية التجديدية داخل المجتمع الشيعي “إن الشيعة لا يمكنهم البقاء هكذا في حالة سلبية، ولا دور لهم في الحياة العامة، وانتظار عودة الإمام الغائب مسألة قد تطول، ولا يُعرف متى ستحدث- ربما بعد أعوام قليلة- أو قرون طويلة، ومن ثم يمكن تأسيس دولة إسلامية على منهج أئمة أهل البيت، على أن يتولى الولاية العامة فيها فقيه”؛ ومن هنا جاء مصطلح “ولاية الفقيه”، وهذا الفقيه لا بد أن يكون شيعيًّا إماميًّا اثني عشري، ووصل إلى مرتبة الاجتهاد “آية الله العظمى”، ويلقب بالمرشد الأعلى “إمام المسلمين”؛ لكون الخلافة محصورة في الإمام الغائب. دور هذا الولي الفقيه هو إقامة العدل، ومراقبة تطبيق الشريعة، وجمع الشيعة في العالم تحت مظلته، وتأسيس دولة قوية، وتقوية المجتمع الشيعي عالميًّا، والعمل على وحدته حتى يكون مؤهلًا عند ظهور الإمام المهدي للانضمام إليه، والجهاد معه، والعمل تحت رايته. ووفق الدستور، فالدولة الإيرانية أمانة بيد هذا الولي الفقيه حتى يسلمها للمهدي المنتظر العربي القرشي الهاشمي، كما أكد الدستور الإيراني أن تكون اللغة العربية مادة تعليم أساسي من المرحلة الإعدادية حتى الثانوية في كل المدارس؛ لأنها لغة القرآن.

على جانب آخر، يرفض غالبية الشيعة في العالم هذه الرؤية الفقهية، ويعتقدون أنها تحايل على عقيدة التشيع الأصيلة، وتضرب أصوله الفكرية والعَقَدية في جذروها، حيث إن فلسفة الإمامة قائمة على أن يتولى زعامة الأمة دينيًّا وسياسيًّا إمام معصوم، ومن آل محمد؛ لأنهم بيت الرسالة، وفتح المجال لتأسيس دولة دينية، مع ما يطرأ على العالم من متغيرات وتحديات كبرى، وفي ظل عدم عصمة قائد هذه الدولة، سيكون عرضة للوقوع في الخطأ بكثير من الأمور، وربما لا تقبل الشعوب سياسة هذه الدولة، وتنقلب عليها، وهذا يعرض العقيدة الدينية لأضرار كثيرة، حيث سيُنسب الفشل إلى التشيع، لا إلى قائد الدولة، كما أن الدولة الإسلامية لا بد أن توحد أمة المسلمين تحت رايتها، وليس هناك من هو قادر على القيام بهذه المهمة بعد تفكك الأمة وتشتتها، سوى الإمام المهدي؛ ومن ثم ستكون هذه الدولة للشيعة فقط، وستُسهم في تفرقة المسلمين، ولا يمكنها تطبيق نظرياتها إلا على مجتمع ذي أغلبية شيعية كاسحة، ولا وجود لدولة لديها هذه الأغلبية سوى إيران لتطبيق هذا التصور؛ لذا فإن المؤمنين بهذه العقيدة على أرض الواقع هم فقط مواطنو إيران، والمقلدون للمرجعية الدينية لمرشدها الأعلى، والمقلدون له خارج إيران، أما غالبية الشيعة، وتحديدًا العرب، فلا يؤمنون بولاية الفقيه، باستثناء قيادات حزب الله، ومن يقلد المرشد علي خامنئي من جمهوره، أما الشيعة الزيدية، مثل حركة أنصار الله “الحوثيين”، فهم لا يؤمنون بهذه العقيدة من الأساس.

إشكالية ولاية الفقيه والدولة القومية الحديثة

تكمن إشكالية هذه الرؤية الفقهية في أن المؤمن بها سيقلد في فتاواه المرشد الأعلى الإيراني، وسيدفع إليه الخُمس من أمواله أو أكثر إذا كانت لديه القدرة ويريد “الثواب” الأكبر، أما موقفه وقراره السياسي فحتمًا سيكون تبعًا لسياسات وتوجهات المرشد “إمام المسلمين” وقائد الدولة الإيرانية أيضًا، ولا يمكنه القتال، أو حمل السلاح، أو حتى المشاركة في العمل السياسي إلا بفتوى رسمية منه؛ ولذلك يمكن أن نفهم لماذا لجأ أمين حزب الله السابق، حسن نصر الله، إلى المرشد الإيراني ليحصل منه على فتوى دينية قبل مشاركته العسكرية في الحرب الدائرة على الشعب السوري، فأي قرار سياسي أو عسكري لا بد له من فتوى دينية قبل الإقدام عليه.

بعد العرض السابق، يتضح لنا أن ولاية الفقيه أمر يتخطى الجانب الديني والعَقَدي، وهذه العقيدة تنطوي على بُعد سياسي يجعل عملية الولاء الوطني، والانتماء القومي، مسألة بلا قيمة، ولا يعني هذا الأمر أن المؤمنين بهذه العقيدة “خونة”، ولكن إذا وقع الاختيار بين وطنهم ورؤية المرشد، فالأرجح ستكون الغلبة لرؤية الأخير، وإلا فقد أصبح الفرد المؤمن بهذه العقيدة خارجها!

وجب التنويه أننا هنا نقدم شرحًا للعقائد كما يؤمن بها أصحابها، ولسنا في محل جدل ديني بشأن صحتها من عدمها.

صعود حسن نصر الله وبداية عصر التحولات بالحزب

مسألة ولاية الفقيه، والتبعية المُطلقة لإيران بإستراتيجيتها ومشروعها في المنطقة، واعتبار الحزب جزءًا من منظومة تصدير الثورة، وممثلًا لإيران ومرشدها الأعلى في لبنان، لم تكن محل اتفاق بين جميع أفراد الحزب وقياداته في مراحل تكوينه الأولى، وكان هناك ما يمكن تسميته انقسامًا مكتومًا بين جناحين؛ الأول يرى في إيران حليفًا يقدم الدعم والمساندة لتحرير جنوب لبنان، وبالمقابل الضغط على إسرائيل بما يخدم مصالح الأمن القومي الإيراني مع تأمين موقع نفوذ لها في لبنان، مثله مثل باقي القوى الدولية والإقليمية. الثاني يرى ضرورة الانحياز الكامل والمطلق إلى مشروع الجمهورية الإسلامية، واعتبار الحزب جزءًا لا يتجزأ منه، وكان على رأس هذا الفريق المتحمس لهذا الخيار الشاب الذي تلقى تعليمًا دينيًّا بالحوزة العلمية بالنجف، والذي يمتلك موهبة خطابية وكاريزما؛ حسن نصر الله.

قام هذا الشاب بعدة جولات نشطة ولقاءات وخطب ليؤكد فيها ضرورة أن يكون الحزب واضحًا في خياراته تجاه إيران، وهناك مقطع شهير متداول على مواقع التواصل الاجتماعي يتحدث فيه عن هذا الأمر بوضوح، كذلك نشط في شرح عقيدة ولاية الفقيه، والرد على كل “شبهات” رافضيها من علماء الشيعة لترسيخها في نفوس المجتمع الشيعي الجنوبي.

في أثناء فترة قيادة صبحي الطفيلي، الأمين العام الأول للحزب، لم يتمكن من معالجة هذا الانقسام، وعندما تولى عباس الموسوي المسؤولية خلق توافقًا داخليًّا بين كلا الفريقين دون حسم الخلاف من خلال تأكيده ضرورة الوحدة والاتحاد لأجل معركة التحرير. وبعد اغتياله على يد إسرائيل عام 1992، تولى حسن نصر الله منصب الأمين العام وقائد الحزب، ولم يكن عمره قد تجاوز آنذاك 32 عامًا، ويُعتقد على نطاق عريض أن توليه هذا المنصب، وفي هذه السن الصغيرة في ظل وجود كثير من القيادات الأكبر سنًا والأكثر علمًا، كان بناء على اختيار إيراني في الأساس.

بعد تولي حسن نصر الله قيادة الحزب، انتهى زمن الحلول الوسط، ومحاولات خلق التوافق، وتمكن بشخصيته القوية، وقدراته الخطابية، ومعارفه الدينية، من حسم خيارات الحزب في مسألة ولاية الفقيه، والولاء المطلق لمشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ودفع الجمهور الشيعي الموالي للحزب في غالبيته إلى تقليد مرجعية المرشد علي خامنئي.

كان المرشد السابق الخميني يدرك جيدًا أن هناك خصوصية للبنان وشيعته، ومكانة مميزة لمرجعية محمد حسين فضل الله؛ الزعيم الروحي للحزب، وصاحب الفضل الأول في خلق نخبة من الشباب الشيعي المتلقي للتعليم الديني، وهذه النخبة هي التي مكنت إيران من استغلالها وتحويلها إلى قاعدة لبناء الحزب. وبسبب هذه المكانة، ومن باب العرفان له بالجميل، ترك مسألة التقليد له، ولم يُلزم الحزب وجمهوره بضرورة تقليده، في حين لم يراعِ مرشد الدولة الجديد آنذاك علي خامنئي هذه الخصوصية، وأيده فيها حسن نصر الله، خاصةً أن موقف محمد حسين فضل الله لم يكن متحمسًا على أقل تقدير، إن لم يكن رافضًا لولاية الفقيه، ويراها مسألة اجتهادية، الخلاف فيها جائز، ولا تصلح لسوى المجتمع الإيراني.

يمكن القول بعد هذا العرض السابق إن إيران وجدت رجلها الصادق الصدوق، المؤمن حقًا بكل مبادئ الجمهورية الإسلامية وأفكارها، وهذه ميزة كبرى مكنت إيران من تحقيق انتصارات عدة بالمنطقة، وتحديدًا في لبنان؛ لأن حسن نصر الله رجل عَقَدي مؤمن، دخل السياسة من خلال بوابة الدين، ومقتنع تمامًا بكل ما يقوم به؛ ولذلك يعد مشروع حزب الله في لبنان هو أنجح مشروع واستثمار إيراني في الخارج على الإطلاق. ومع أن جميع السياسيين اللبنانيين تابعين للخارج، فإن تبعية حزب الله عبر أمينه العام السابق تختلف عن باقي الزعامات السياسية والطائفية الأخرى؛ فهذه الزعامات يمكنها -بكل سهولة- أن تنقلب على مشغليها إذا وجدت مشغلًا أفضل لمصالحها، في حين أن حزب الله، بفضل عملية التحول الكبير التي قادها ورسخها أمينه العام السابق، أصبحت مسألة الولاء لإيران مسألة عقَدية، لا مجرد مصلحة يمكن الانقلاب عليها حال وجود طرف أخر أكثر فائدة، وهذا الأمر من أهم أسباب خوف خصومه منه في الداخل والخارج.

وجب التنويه أن هناك كثيرًا من الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم من جمهور حزب الله ومؤيديه، والداعمين له سياسيًّا وماليًّا، والمصوتين لمرشحيه في أي استحقاقات انتخابية، لكنهم لا يقلدون المرشد علي خامنئي، ومنهم من يقلد غيره من المراجع، أو ظلوا حتى الآن يقلدون مرجعية محمد حسين فضل الله، عبر تلاميذه النجباء بعد وفاته، وهناك أيضًا علماء دين شيعة ومؤيدون للحزب لا يقلدون خامنئي؛ ومن ثم فإن مسألة اعتبار جمهور حزب الله بالمطلق مقلدًا للمرجعية الدينية الإيرانية، ومؤيدًا لسياساتها، تعميم غير دقيق.

مسألة السيادة في لبنان

مسألة سيادة الدول بمفهومها الكلاسيكي والمتعارف عليه منذ صلح “وستفاليا” عام 1648، الذي ترسخ بعد تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، أمر لا علاقة للبنان به، وربما لا يشاركه في هذا الوضع الفريد من نوعه أي بلد آخر في العالم، ولعل أفضل وصف لحالة السيادة في لبنان كان لأحد السياسيين اللبنانيين الذي قال: “لبنان عبارة عن شركة متعددة الجنسيات“؛ لذلك، فإن أي مقارنة يعقدها أي عربي بين ظروف دولته أو دول العالم ولبنان غالبًا في غير محلها، فمن المهم لمن يريد فهم لبنان أن ينظر إليه بعيون لبنانية، لا بعيون مصرية، أو سورية، أو سعودية.

عندما تحدث الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله -في إحدى المرات- عن جهات تتلقى تمويلًا أجنبيًّا من سفارات، وتشارك في الحراك، وقد تعجب كثير من المواطنين العرب من صدور تصريح كهذا من شخصية سياسية هي نفسها تتباهى وتفخر علنًا بتبعيتها المطلقة للمرشد الأعلى الإيراني، وتلقي الدعم العسكري والمادي منه، قول كهذا من البعض يبرز اللبس الحاصل في عدم فهم مفهوم السيادة في لبنان، وحديث الأمين العام لحزب الله لا تناقض فيه وفقا لهذا المفهوم اللبناني جدا!

لا يوجد في لبنان منذ تأسيسه عام 1920، وإعلان الجمهورية عام 1943، أي زعيم سياسي أو طائفي يدعي أنه مستقل، أو غير تابع لقوى إقليمية، أو قوى دولية. هذا شرف لم يتجرأ زعيم واحد على ادعائه طيلة تاريخ لبنان، ربما هناك شخصيات سياسية لا تمتلك أحزابًا، وليس لديها زعامة طائفية يمكنها ادعاء الاستقلالية، ويمكن عد الصادقين منهم على أصابع اليد الواحدة، فالمعادلة في لبنان قائمة على تابع جيد مقابل تابع غير جيد، بمعنى أنه عندما يتهم حسن نصر الله بعض خصومه بالتبعية لسفارات أجنبية فلا يشعر بأي خجل من هذا الاتهام، ولا يلومه باقي الزعماء عليه، ولا يلومونه بالمقابل على تبعيته لإيران؛ فذلك لأن الخلاف ليس بشأن التبعية؛ بل جدوى هذه التبعية. على سبيل المثال، يقول حزب الله نحن تابعون لإيران وما يسمى “محور المقاومة”، وبهذه التبعية نضمن حرية لبنان، واستقلاله، وتحرير المتبقي من أراضيه وسيادته من خلال محور يقاتل لأجل أن يصبح قراره نابعًا من داخله، لا مفروضًا عليه من قوى خارج المنطقة، في حين يقول خصومه: نعم، نحن تابعون لأمريكا والغرب، وقوى إقليمية عربية خليجية، أو ما يسمى “محور الاعتدال”، بل ربما إسرائيل؛ لأن هذه القوى هي الأقوى عالميًّا، والقادرة على ضخ أموال واستثمارات؛ ومن ثم فإننا بتبعيتنا لهم نضمن رفاهية لبنان، ونحافظ على أمنه، تمامًا مثل تصنيف الغرب للإرهاب بين إرهاب طيب وآخر شرير؛ لذلك فمن المهم فهم خصوصية مسألة “السيادة” في لبنان بمعزل عن أي مفاهيم أخرى.

حزب الله ومرحلة الموجات العارمة”  Tidal Waves

لم تكن إسرائيل، ولا كثير من القوى الإقليمية والدولية، ولا القوى الداخلية اللبنانية، راضية عن سلاح حزب الله منذ اليوم الأول لاتفاق الطائف، ولكن موازين القوى، والمواجهة مع إسرائيل، لم تمكن أي طرف، لا سيما في الداخل اللبناني، من المجاهرة بهذه الحالة من عدم الرضا، وربما كان يُعبر عن ذلك بعض الشخصيات السياسية والصحفيين، وكان الأمن السوري واللبناني يتولى عمليات اعتقالهم، وتهديد بعضهم، أو تعذيبهم.

وجدت كل القوى الرافضة لسلاح حزب الله في الانسحاب الإسرائيلي، ووفاة الأسد الأب، وتولي الابن الشاب السلطة في سوريا، ووصول الولايات المتحدة إلى مرحلة القوة المطلقة بإدارتها شؤون العالم منفردة، فرصة في المجاهرة بضرورة خروج الجيش السوري من لبنان؛ لأنه أصبح يشكل عبئًا على الدولة والمواطنين، ونزع سلاح حزب الله لأنه حقق الهدف منه، وهو تحرير الجنوب، لكن هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح، وزاد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 تمسك النظام السوري والإيراني، ومن خلفهما الحزب، بسلاحه.  يضاف إلى ذلك، الضغوط التي مورست على النظام السوري والإيراني، فكان وجود هذا السلاح ورقة ضغط مهمة لتهديد إسرائيل إذا تم التعرض لهما. كذلك كان تعثر عملية السلام، وانطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر (أيلول) 2000، وبقاء إسرائيل محتلة لمزارع شبعا، وبعض تلال كفر شُوبَا، وقرية الغجر، ذريعة للحزب بأن مشروع التحرير لم يكتمل بعد للحديث عن نزع السلاح.

بعد فشل المخطط الإسرائيلي في توريط الحزب في صراع داخلي بعد انسحابه من الجنوب، وفشل قرار مجلس الأمن رقم (1559) الذي قدمته كل من الولايات المتحدة وفرنسا، يوم 2 سبتمبر (أيلول) عام 2004، القاضي بضرورة الانسحاب السوري من لبنان، ونزع سلاح حزب الله، والذي كان لرئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، دور كبير في الدفع نحو صدوره، تعرض رفيق الحريري للاغتيال يوم 14 فبراير (شباط) 2005، وعملًا بقاعدة “ابحث عن المستفيد”، وما توصلت إليه المحكمة الدولية، أُدينت عناصر من حزب الله بتدبير عملية الاغتيال. أعقب ذلك اغتيال عدة شخصيات كانت مناوئة للحزب أو الوجود السوري، مثل القيادي الشيوعي جورج حاوي، والصحفيين جبران تويني، وسمير قصير، ومحاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق، في حين رد الحزب وحلفاؤه على هذه الاتهامات بالنفي المطلق، وتأكيد أن هذه السلسلة من الاغتيالات كانت تهدف في الأساس إلى القضاء عليه، أو إضعافه، ودلّلوا على ذلك بنتائج هذه الاغتيالات في إجبارها النظام السوري على الانسحاب من لبنان، وتشكيل أكبر جبهة سياسية معارضة للحزب وحلفائه، وهي تحالف 14 آذار، وتعالي الأصوات بكل جرأة ووضوح، ولأول مرة منذ عام 1982، بضرورة نزع سلاح حزب الله؛ ولذلك يؤكد الحزب أن هذه الاغتيالات لم تصب في صالحه؛ ومن ثم ينبغي “البحث عن المستفيد”، وهم -وفقًا للحزب- الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين تدعي رؤية ثالثة أن منفذي هذه العمليات ربما من الجهات الأمنية السورية المخترقة أمريكيًّا وإسرائيليًّا في ظل مرحلة إعادة ترتيب بشار الأسد لنظامه في الداخل، وقد قامت بها بناء على أوامر غربية لتوريط سوريا وحلفائها في لبنان، والتخلص من بشار الأسد في إحدى حلقات الصراع على السلطة داخل سوريا، ويدللون على ذلك بعملية “انتحار” أو “نحر” المسؤول الأمني السوري غازي كنعان.

دوافع حزب الله إلى المشاركة في الحكومة

كما أسلفنا، كان موقف حزب الله منذ نشأته ناقدًا للعملية السياسية اللبنانية، ورافضًا المشاركة فيها، مؤكدًا فسادها، ومتمسكًا بنهجه بوصفه حركة مقاومة، ومكتفيًا بدوره الاجتماعي لمساعدة الفقراء والمحتاجين داخل حاضنته الشعبية، وعندما دخل البرلمان عام 1992، كان ذلك نتيجة ضغوط من حليفه السوري، وبفتوى وأمر من المرشد الأعلى الإيراني، وكان يهدف -في المقام الأول- إلى خلق أكبر كتلة في البرلمان اللبناني مؤيدة لسوريا، ولخدمة جمهوره في قضايا حياتهم الخدمية اليومية، وكان نوابه في الأصل نواب خدمات أكثر منهم نوابًا سياسيين منخرطين بتفاصيلها.

كانت دوافع حزب الله بالتحول من حركة مقاومة إلى حزب سياسي له نواب في البرلمان، ثم إلى حزب سياسي له ممثلون في الحكومة، حيث دخل لأول مرة في تشكيلة الحكومة اللبنانية من خلال وزيرين في يوليو (تموز) 2005، نابعة من خشيته على وجوده، بعدما فقد الداعم الأمني السوري، وعدم ثقته بحركة أمل، كما أن وجود جو معادٍ له عالميًّا، وإقليميًّا، وداخل لبنان، قد يؤدي إلى تبني الحكومة اللبنانية قرار مجلس الأمن (1559)؛ مما يعني أنه قد أصبح في مواجهة مع المجتمع الدولي لا يمكن له أن يتحمل نتائجها؛ ولذلك أراد الدخول في الحكومة ليضمن من خلال تشكيله تحالفًا من عدة قوى مواجهة تحالف خصومه المسمى 14 آذار، وعلى هذه القاعدة شكل ما سمَّاه تحالف 8 آذار، وكان لهذا التحالف ثلث أعضاء مجلس الوزراء؛ ومن ثم ضمن وجود الثلث المُعطل لصدور أي قرار ضده.

لم يكن لدى حزب الله مشروع سياسي حقيقي، ولا رؤية اقتصادية، ولا كوادر مؤهلة لتولي حقائب وزارية، ولا قدرة على حكم لبنان منفردًا ليتخذ خيارات سياسة تؤدي إلى تغيير المعادلة، وكانت مشاركته مجرد إثبات وجود، ومجرد صوت يعلو ضد خصومه إذا وجد أن هناك تهديدًا لسلاحه.

على جانب آخر، شكّل الحزب تحالفًا واسعًا ضم جميع الطوائف والأطياف السياسية تقريبًا (التيار الوطني الحر/ ماروني- تيار المردة/ ماروني- الحزب الديمقراطي المسيحي/ ماروني- تيار الكرامة/ سني- جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية/ صوفي- حزب الطاشناق/ أرمن- الحزب الديمقراطي اللبناني/ درزي- حزب التوحيد العربي/ درزي- حركة أمل/ شيعية- الحزب العربي الديمقراطي/ علوي- حزب البعث العربي الاشتراكي/ قومي- الحزب السوري القومي الاجتماعي/ قومي سوري- التنظيم الشعبي الناصري في لبنان/ قومي عربي- حركة الشعب/ يسار قومي)، إلى جانب شخصيات سياسية مستقلة سنية، ومن الروم الأرثوذكس.

بسبب التناقضات الكبيرة داخل هذا التحالف، واختلاف أوزانهم السياسية على الساحة اللبنانية واختلالها، وطموحات ودوافع كل طرف من المتحالفين مع حزب الله، إلى جانب غياب الخبرة والرؤية للحزب لكيفية إدارة دولة، ووجود قيود والتزامات دولية سياسية واقتصادية على لبنان، ورغبة كل طرف في الحصول على حصته السياسية والاقتصادية، تأسس هذا التحالف على قاعدة أن يناصروا حزب الله في قضية عدم نزع سلاحه وبقائه مقاومة مشروعة، ومقاومة أي قرار دولي يهدف إلى التخلص منه، مقابل ألا ينافسهم الحزب على حصصهم الاقتصادية والسياسية، وأن يُغمض عينيه عن قضايا الفساد والإصلاح، وتغيير بنية النظام السياسي اللبناني، وقد وافق الحزب على هذا الاتفاق الذي خدمه في قضية سلاحه، ولكنه أسهم في تشويه سمعته، والقضاء مع الوقت -وبالتزامن مع عدة عوامل أخرى- على هالته الإعلامية.

الحرب والسياسة

وصل حزب الله إلى قوة مفرطة لم تعد إسرائيل تُطيقها، ومع تصاعد الاستقطاب في المنطقة بعد الغزو الأمريكي للعراق، والفراغ الذي خلفه سقوط نظام صدام حسين، وتقدم إيران لملئه في ظل غياب عربي كامل أدى إلى امتلاك طهران النفوذ الأقوى في بغداد، شاطرت بعض الدول العربية إسرائيل قلقها من إيران وكل حلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله، ونشأ بين الطرفين تقاطع مصالح، وتشكل محوران في المنطقة؛ محور الاعتدال (مصر، والأردن، والسعودية، والإمارات، والبحرين، والمغرب)، ومحور المقاومة (إيران، وسوريا، وحزب الله، والأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق). هذا المحور قريب من روسيا والصين، وتربطه تقاطعات بالمصالح مع قطر، والفصائل المسلحة الفلسطينية، وجماعة الإخوان المسلمين، وذو علاقة جيدة مع تركيا.

أدركت إسرائيل أن مشروعها بالانسحاب عام 2000، وسقوط حزب الله في فخ الصراع مع الدولة والموارنة قد فشل، وكذلك فشل قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1559) في نزع سلاح الحزب رغم تحقيقه نصرًا كبيرًا بالانسحاب السوري، وفشل خصوم الحزب في الداخل اللبناني في التخلص منه بعد اغتيال الحريري، وتخطيه الموجة العارمة، وتصاعد قوته السياسية إلى جانب العسكرية التي لم تعد تُحتمل، ورأت أن الأجواء الإقليمية والدولية تعمل في صالح توجيهها ضربة عسكرية خاطفة وسريعة تقضي على الحزب وتنهي وجوده، لكن لا بد لهذه الحرب من مبرر، فكان اختطاف حزب الله ثلاثة جنود إسرائيليين وأسرهم مبررًا كافيًا لشن حرب يوليو (تموز) 2006.

تباينت الآراء بشأن مَن كان أكثر رغبة من الآخر في قيام هذه الحرب، ورأت مصر والسعودية والأردن أن هذه الحرب “مغامرة غير مسؤولة من حزب الله“، وحمّلته تبعاتها، وحسب شهادة وزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبو الغيط، فقد أكد أن الموقف المصري والسعودي كان يرى أن هذه الحرب كانت خدمة لإيران، وأنها أمرت حزب الله بإشعالها لتحسين موقفها بالتفاوض بشأن الملف النووي، في حين يرى حزب الله أنه أُجبر على هذه الحرب، ولم يكن يسعى إليها، وما كان يتوقع أن يؤدي أسر الجنود الثلاثة إلى حرب، ولو كان يعلم ذلك ما فعل هذه العملية حسبما صرح بذلك حسن نصر الله نفسه، في حين هناك رؤية ثالثة ترى أن إسرائيل تمكنت من فهم عقلية حزب الله جيدًا، وتوقع رد فعله، وأنها هي من وضعت له هذا الطعم ليقع في المصيدة؛ لأن عملية اختطاف الجنود كانت شديدة السهولة، وتأمينهم كان بدائيًّا جدًّا، والمعروف عن الجيش الإسرائيلي دقته في تأمين جنوده المنتشرين على طول الحدود مع لبنان، وأن الحزب ابتلع هذا الطعم ليبرر لإسرائيل شن حرب مدمرة استمرت 34 يومًا، راح ضحيتها أكثر من 1200 قتيل، ونحو 4500 جريح، ونزح أكثر من مليون مواطن لبناني، ودُمرت مدن وقرى كاملة. وقد وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، كونداليزا رايس، هذه الحرب بأنها “مخاض لولادة شرق أوسط جديد”.

أيًّا ما كانت الدوافع، ومن بادر إلى هذه الحرب، فقد أدت إلى انتصار معنوي لحزب الله بعدم قدرة إسرائيل على القضاء عليه، وتمكنه من الصمود أمامها، والمحافظة على سلاحه، في حين أدت إلى نصر إستراتيجي سياسي لإسرائيل بسحب وحدات الحزب المسلحة إلى ما وراء نهر الليطاني، وهو ما يشبه وضع القوات المصرية غرب القناة بعد حرب 1967، لكن دون هزيمة عسكرية، أو وضع الأراضي تحت الاحتلال الإسرائيلي كما حدث في سيناء، وكذلك وضع قوات دولية (اليونيفيل) لتفصل بين الحزب وإسرائيل، وتراقب التزام كلا الطرفين بوقف إطلاق النار، وهو ما يشبه وضع القوات المصرية بعد حرب السويس 1956، واكتفت إسرائيل من هذه الحرب بهذا النصر الإستراتيجي بفقدان حزب الله قدرته على مباغتها بأي هجوم، وضرورة طلبه انسحاب القوات الدولية قبل قيامه بأي هجوم عليها؛ مما يفقده عنصر المفاجأة، ويجعله في مواجهة أمام المجتمع الدولي، وبالمقابل، لا تستطيع إسرائيل اجتياح لبنان دون أن تطلب مغادرة القوات الدولية؛ ومن ثم انتهت الحرب تقنيًّا بين الطرفين.

تحطيم الهالة الإعلامية

بعد انتهاء حرب 2006، سارعت الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة إلى الإجهاز على قدرات الحزب اللوجستية، من خلال قرارين حكوميين صدرا في 7 مايو (أيار) 2008، بمصادرة شبكة الاتصالات الخاصة التي يستخدمها حزب الله بمعزل عن الشبكة الحكومية؛ منعًا لاختراقها من إسرائيل، وإقالة العميد وفيق شقير قائد جهاز أمن المطار، والحليف القريب من الحزب، الذي يسهل له نقل الأموال السائلة، وحرية تحرك قياداته وأفراده في أثناء سفرهم من المطار إلى الخارج.

شكل كلا القرارين تحديًا صريحًا لحزب الله، ووقع في المحظور؛ من خلال استخدام سلاحه لأول مرة في الدخل اللبناني، حيث نزلت قواته بالتعاون مع حلفائه إلى شوارع العاصمة بيروت، وتمكنوا من الاستيلاء عليها بالقوة العسكرية في ساعات معدودة، فيما سُميت أحداث 7 أيار، التي راح ضحيتها أكثر من 70 لبنانيًّا، ودُمرت عدة ممتلكات، وسادت حالة من الفوضى والذعر أعادت إلى اللبنانيين ذكريات الحرب الأهلية. بمبادرة من قطر تم التوصل إلى تسوية بعد مفاوضات طويلة أدت إلى وصول قائد الجيش اللبناني ميشيل سليمان (الذي رفض التصدي لحزب الله والتزم موقف الحياد) إلى رئاسة الجمهورية، مقابل إلغاء القرارين الوزاريين، فيما يسمى “اتفاق الدوحة”، يوم 21 مايو (أيار) من العام نفسه، الذي مكّن حزب الله وحلفاءه من امتلاك الثلث المُعطل في الحكومة.

عملية اغتيال الحريري، واغتيال كثير من القادة اللبنانيين، وحرب 2006، وقبل ذلك قرار مجلس الأمن نزع سلاح الحزب عام 2004، وأحداث أيار 2008، وصولًا إلى أحداث الثورة السورية، والتدخل العسكري لحزب الله فيها، وتحول الحزب إلى منبر دعائي لإيران وسياساتها في المنطقة، وخطابات أمينه العام حسن نصر الله الناقدة والمتدخلة في شؤون عدة دول عربية، مثل البحرين، والسعودية، والدور العسكري الناشط للحزب في العراق واليمن، والخلافات التي حدثت مع قطر وجماعة الإخوان المسلمين، وصولًا إلى صراع وتراشق طائفي ومذهبي، وتحول خطابات حسن نصر الله إلى الهجوم على خصوم إيران في المنطقة بعدما كانت تهاجم وتتوعد إسرائيل، وتصدر بيانات بانتصاراتها، واتخاذ هذه الخطابات أيضًا منحى طائفيًّا وعصبيًّا في كثير من الأحيان، بعيدًا عن لغته وأحاديثه الهادئة سابقًا عن التوافق والوحدة، مع مشاركة الحزب في حكومات فاسدة، ومنحه الغطاء للفاسدين من شركائه وحلفائه في الحكومة، والسماح لخصومه بممارسة الفساد بلا رادع مقابل الصمت عن سلاحه، أو عملًا بالمقولة الشعبية “شيلني وأشيلك”، كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى فقدان الحزب التعاطف الشعبي العربي معه، وتحولت قضية سلاحه في الداخل اللبناني من قضية متوافق عليها -ولو بالحد الأدنى- إلى قضية نزاع كبرى قسمت البلد، وأدت إلى إحداث شروخ كثيرة في الجدار اللبناني الهش أصلًا، بالإضافة إلى تورطه في صراعات حزبية، وطموحات شخصية لحلفائه المتصارعين على المناصب، أو الطامحين إلى الوصول إلى رئاسة الجمهورية.

انتهت أسطورة حزب الله، وتحول من مقاومة مذهبية قوامها الشيعة في الجنوب، إلى حزب سياسي شريك في عملية فساد لبنان وإفساده، وذراع عسكرية ومنبر دعائي طائفي لصالح إيران، ومدون على أغلب قوائم الإرهاب العربية والدولية. كما أدت تدخلاته المتعددة في شؤون الداخل والخارج، بحجة “حماية” المقاومة، إلى ابتذال كلمة المقاومة، وخسارتها معانيها النبيلة التي رافقت بداية ظهوره وصولًا إلى تحقيق انتصاره المشرف على إسرائيل وحلفائها عام 2000، وأصبح اليوم في نظر الكثيرين رمزًا للدفاع عن الاستبداد، ممثلًا في بشار الأسد ونظامه في سوريا، والفساد في دفاعه المستميت عن حكومات تضم حلفاءه، وأداة إيرانية بتدخله في شؤون اليمن، والبحرين، والسعودية، أو داعمًا طائفيًّا للحشد الشعبي العراقي الشيعي في غالبيته.

الخاتمة

يحصد حزب الله اليوم ما زرعه منذ عام 2005، ويدفع ثمن مشاركته الواسعة في صراعات خارجية لخدمة الإستراتيجية الإيرانية، أدت إلى كشفه على نحو شبه كامل لإسرائيل وأجهزة المخابرات الغربية، وصولًا إلى اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، وكادر القيادة العليا، وتراجع التعاطف الشعبي معه، ودعم كثير من العرب للضربات الإسرائيلية ضده، في مشهد تراجيدي كارثي على الوعي العربي، يتحمل مسؤوليته بسبب سياساته التي انتهجها.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع