في خضم الحديث عن حرية التعبير في الغرب، يتعين علينا أن نطرح سؤالًا محوريًّا: هل هذه الحرية تتجلى حقًا كما يتم الترويج لها؟ القضية التي نناقشها هنا، وهي قضية بافل دوروف، مؤسس منصة تيليغرام، تبرز مثالًا حيًّا يوضح مدى التناقض بين ما يُعلن وما يُمارس فعليًّا.
تشير الأدبيات السياسية والقانونية إلى أن حرية التعبير تعد من الركائز الأساسية التي يبني عليها الغرب هويته الديمقراطية، لكنها، في الواقع، تخضع لسلسلة من القيود التي تفرضها الدول والمؤسسات الغربية على نحو مباشر، أو غير مباشر، فالحرية التي لطالما تم التباهي بها، أصبحت مشروطة بمدى توافقها مع السياسات الحكومية والمصالح الاقتصادية والسياسية السائدة.
بافل دوروف، الذي أسس منصة تيليغرام كأداة لتوفير مساحة حرة للتعبير، وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع تلك القيود. دول الغرب التي تروج نفسها على أنها حامية لحرية التعبير، لم تتردد في ممارسة ضغوط شديدة عليه لإجباره على تقديم بيانات مستخدميه، أو إغلاق القنوات التي تراها مهددة لأمنها. هذه الضغوط تضع علامة استفهام كبيرة بشأن مصداقية الالتزام المعلن بحرية التعبير.
الأطر القانونية الحديثة، مثل قوانين مكافحة “الأخبار الكاذبة”، وتنظيم المحتوى على الإنترنت، تقدم نفسها كأدوات لحماية المجتمعات من التضليل، لكنها في الحقيقة أدوات لقمع الأصوات المعارضة وإسكاتها. هذه القوانين تتيح للدول مساحة عريضة لتفسير القانون وتطبيقه على نحو يمكنها من تصفية المعلومات والمحتويات التي لا تتماشى مع سياساتها؛ مما يخلق بيئة من الرقابة المتزايدة على ما يمكن وما لا يمكن التعبير عنه.
في هذا السياق، يمكن القول إن الحرية التي يُروَّج لها في الغرب ليست سوى حرية مشروطة، تخضع لمعايير متغيرة ومتعددة، وهو ما يبرز بوضوح في قضية بافل دوروف. هذه القضية تكشف عن الوجه الحقيقي لحرية التعبير في الغرب، التي تتراجع عندما تتعارض مع مصالح الدولة أو النخبة الحاكمة؛ مما يجعل من الصعب الدفاع عن فكرة أن الغرب هو الحصن الأخير لحرية التعبير.
وُلد بافل دوروف في سانت بطرسبورغ عام 1984، وكان منذ صغره متميزًا بالذكاء والطموح. أظهر شغفًا بالتكنولوجيا والبرمجة منذ سنواته الأولى، وهو ما مهد له الطريق ليصبح واحدًا من أبرز رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا في روسيا. درس في جامعة سانت بطرسبورغ الحكومية، حيث حصل على درجة البكالوريوس في اللغويات، لكن اهتمامه الحقيقي كان دائمًا موجهًا نحو عالم البرمجيات والتكنولوجيا.
في عام 2006، أطلق بافل دوروف مشروعه الأول في كونتاكتي ((VK)ontakte) المعروف اختصارًا بـ((VK)) أصبح لاحقًا أحد أكبر مواقع التواصل الاجتماعي وأشهرها في روسيا وأوروبا الشرقية. كانت الفكرة مستوحاة من النجاح الكبير لفيسبوك في الولايات المتحدة، ولكن دوروف أراد إنشاء منصة تناسب الاحتياجات الخاصة لمستخدمي الإنترنت في روسيا.
بدأ ((VK)) كمنصة صغيرة تستهدف في الأساس طلاب الجامعات في روسيا، ولكن بفضل تصميمه السهل وميزاته المبتكرة، سرعان ما انتشر بين المستخدمين. تميز ((VK)) عن باقي منصات التواصل الاجتماعي بتوفير خاصية التخصيص العالي للمستخدمين، إضافة إلى إمكانية مشاركة الملفات والموسيقى والفيديوهات بسهولة، وهو ما جعله يحظى بشعبية كبيرة بين الشباب.
شهد (VK) نموًا سريعًا في عدد المستخدمين، حيث اجتذب الملايين من المستخدمين في غضون سنوات قليلة. لم يكن هذا النجاح مجرد مصادفة؛ فقد كان نتيجة جهود مستمرة من فريق العمل بقيادة دوروف لتقديم خدمات مبتكرة وجعل المنصة أكثر جاذبية. توسعت (VK) خارج روسيا لتصل إلى بلدان أخرى في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، مما عزز مكانتها كواحدة من أكبر شبكات التواصل الاجتماعي في المنطقة.
مع زيادة شعبية (VK) بدأت الحكومة الروسية في إبداء اهتمام أكبر بالمنصة. بدأت المشكلات تتصاعد عندما رفض دوروف الامتثال لطلبات الحكومة الروسية بتسليم بيانات المستخدمين، أو حجب بعض المحتويات السياسية. تمسكت (VK) بموقفها الداعم لحرية التعبير، وهو ما وضع دوروف في مواجهة مباشرة مع السلطات الروسية.
في تلك الفترة، كانت (VK) تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالرقابة والضغوط السياسية. كانت الحكومة تسعى إلى السيطرة على المعلومات المتدفقة عبر الإنترنت، وهو ما كان يتعارض على نحو مباشر مع رؤية دوروف لشبكة إنترنت حرة وغير مقيّدة. هذه التحديات أثرت تأثيرًا كبيرًا في طريقة إدارة (VK) وقرارات دوروف المستقبلية.
رغم الضغوط، استمر دوروف في قيادة (VK) نحو الابتكار. كانت المنصة سباقة في تقديم ميزات جديدة للمستخدمين، مثل إمكانية تخصيص الملفات الشخصية وتطوير نظام رسائل داخلي متقدم. كما قدمت (VK) خدمات إضافية مثل الألعاب والتطبيقات التي عززت من تفاعل المستخدمين مع المنصة، وزادت من ولائهم لها.
مع مرور الوقت، بدأت الضغوط الحكومية تؤثر في قرار دوروف البقاء على رأس (VK) شعر أن المبادئ التي أسس عليها المنصة أصبحت مهددة، وأنه لم يعد بإمكانه الحفاظ على حريته في اتخاذ القرارات التي تتماشى مع رؤيته. في نهاية المطاف، اتخذ دوروف قرارًا صعبًا بالتخلي عن حصته في الشركة وترك (VK) ليبدأ مرحلة جديدة في حياته المهنية.
بعد مغادرته (VK) لم يتوقف دوروف عن الابتكار. في 2013، أطلق دوروف منصة تيليغرام، التي ركزت على تقديم خدمة مراسلة مشفرة تضمن الخصوصية والأمان للمستخدمين. جاءت فكرة تيليغرام كاستجابة مباشرة للقيود التي واجهها دوروف خلال فترة قيادته لـ (VK) كان يريد إنشاء منصة لا يمكن لأي جهة حكومية أن تتحكم فيها، أو تفرض عليها رقابة.
أصبحت تيليغرام سريعًا من أبرز تطبيقات المراسلة في العالم؛ بفضل ميزاتها الفريدة، مثل القنوات، والمجموعات الكبيرة، والرسائل الذاتية التدمير. جذبت المنصة ملايين المستخدمين الذين كانوا يبحثون عن بديل آمن للمنصات الأخرى التي كانت تتعرض للرقابة، أو تسرب البيانات.
كانت حرية التعبير لبافل دوروف دائمًا جزءًا من رؤيته. في تيليغرام، أصر على أن تكون المنصة مساحة مفتوحة للجميع، حيث يمكن للمستخدمين التعبير عن آرائهم بحرية، ودون خوف من الرقابة. في أحد تصريحاته، قال دوروف: “لا يمكن أن تكون هناك حرية حقيقية بدون حرية التعبير. تيليغرام توفر لمستخدميها هذه الحرية في بيئة آمنة، وغير خاضعة للتدخلات”.
استمر دوروف في دفع تيليغرام نحو الابتكار بإضافة ميزات جديدة، مثل القنوات، التي سمحت للأفراد والمجموعات بالتواصل مع جمهور عريض، دون الحاجة إلى المرور عبر الوسائط التقليدية. هذا الابتكار أعطى للمستخدمين أداة قوية لنشر المعلومات والأفكار؛ مما عزّز دور تيليغرام كمنصة لحرية التعبير.
كما رفض بافل دوروف- رفضًا قاطعًا- الامتثال لطلبات الحكومات التي حاولت إجباره على تسليم بيانات المستخدمين، أو السماح بالرقابة على المحتوى. في تصريح شهير له، قال: “إذا كان علينا الاختيار بين إيقاف تيليغرام أو التنازل عن خصوصية مستخدمينا، فسنختار دائمًا الخيار الأول. لن نخون ثقة الملايين الذين يعتمدون علينا”.
على الرغم من الضغوط المستمرة، لم يتراجع بافل دوروف عن رؤيته. استمر في تطوير تيليغرام بإضافة ميزات جديدة تعزز من أمان المستخدمين وخصوصيتهم. إحدى هذه الميزات كانت “الرسائل الذاتية التدمير”، التي تسمح للمستخدمين بإرسال رسائل تختفي بعد فترة زمنية محددة، مما يزيد من حماية البيانات الشخصية، ويقلل من مخاطر استغلال المعلومات.
بالإضافة إلى ذلك، أضاف تيليغرام خدمة “التخزين السحابي الآمن”، حيث يمكن للمستخدمين تخزين ملفاتهم بأمان، دون القلق من تعرضها للاختراق أو الاستغلال. كل هذه الابتكارات كانت جزءًا من رؤية بافل دوروف لإنشاء منصة تواصل تلبي احتياجات المستخدمين على نحو يتوافق مع قيم الحرية والخصوصية.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن بافل دوروف لم يكن يسعى فقط إلى بناء منصة مراسلة ناجحة؛ بل كان يسعى إلى خلق بيئة رقمية تحترم حقوق الإنسان الأساسية. من خلال تيليغرام، قدّم دوروف للعالم منصة تجسد قيمه ومبادئه، وأثبت أنه من الممكن الابتكار دون التنازل عن المبادئ.
يواجه بافل دوروف، مؤسس منصة تيليغرام، سلسلة من الاتهامات الخطيرة التي وجهتها إليه السلطات الفرنسية. هذه الاتهامات تأتي في ظل تحقيقات واسعة النطاق تقوم بها فرنسا بشأن استخدام تيليغرام من جانب مجموعات إجرامية ومنظمات غير مشروعة. في هذا السياق، تُتهم تيليغرام بأنها أصبحت بيئة ملائمة لأنشطة إجرامية متعددة بسبب سياساتها الصارمة في حماية خصوصية المستخدمين، ورفضها الامتثال للطلبات الحكومية لتسليم البيانات.
التهمة الأولى: إدارة منصة لتمكين المعاملات غير القانونية
إحدى التهم الرئيسة التي تلاحق بافل دوروف هي “إدارة منصة إلكترونية لتمكين معاملات غير قانونية ضمن جماعات منظمة”. تشير السلطات الفرنسية إلى أن تيليغرام استُخدمت كوسيلة لتنسيق الأنشطة الإجرامية، ومنها التجارة غير المشروعة في الأسلحة والمخدرات، وتبادل المعلومات الحساسة بين أعضاء الجماعات الإجرامية. يرى المحققون أن مستوى التشفير العالي في تيليغرام، وسرية الهوية التي يوفرها، جعلت المنصة بيئة مثالية لهذه الأنشطة، حيث يصعب على السلطات تتبع الاتصالات، أو الكشف عن الأطراف المتورطة.
التهمة الثانية: رفض التعاون مع السلطات
من التهم الأخرى التي وُجهت إلى دوروف هي “رفض تقديم المعلومات أو الوثائق التي طلبتها السلطات المختصة لتنفيذ واعتراض الاتصالات”. هذه التهمة تعكس موقف دوروف الثابت من حماية خصوصية المستخدمين، وهو الموقف الذي جعل تيليغرام منصة لا مثيل لها من حيث الأمان، ولكنه في الوقت نفسه وضعها في مواجهة مباشرة مع الحكومات التي تطالب بالحصول على بيانات المستخدمين لأغراض الأمن القومي. السلطات الفرنسية ترى هذا الرفض تحديًا لسيادة القانون، وقدرة الدولة على حماية مواطنيها من التهديدات الإجرامية.
التهمة الثالثة: التواطؤ في نشر مواد غير قانونية
كما يواجه دوروف اتهامات بالتواطؤ في نشر وحيازة مواد إباحية متعلقة بالأطفال. تزعم السلطات أن تيليغرام استُخدمت لنشر وتبادل محتويات غير قانونية، ومنها مواد إباحية للأطفال. ومع أن تيليغرام كانت دائمًا تتخذ خطوات لمكافحة هذه الأنشطة من خلال حذف المحتوى غير القانوني، وإغلاق الحسابات المشبوهة، فإن السلطات ترى أن سياسات المنصة في حماية الخصوصية ربما تكون قد أسهمت في تفشي هذه الأنشطة.
التهمة الرابعة: التواطؤ في تهريب المخدرات
تهمة أخرى تلاحق دوروف تتعلق بـ”التواطؤ في تهريب المخدرات”. تشير التحقيقات إلى أن تيليغرام استُخدمت لتسهيل تجارة المخدرات، حيث يمكن للبائعين والمشترين التواصل بسرية تامة دون الخوف من المراقبة. هذا المستوى من الخصوصية جعل من الصعب على السلطات تعقب هذه الأنشطة غير القانونية أو محاربتها بفعالية.
التهمة الخامسة: التواطؤ في عمليات احتيال وغسل أموال
بجانب هذه التهم، يُتهم دوروف أيضًا بالتواطؤ في عمليات احتيال منظمة وعمليات غسل أموال ناتجة عن هذه الجرائم. السلطات الفرنسية ترى أن تيليغرام قد سهلت، بفضل سياساتها الصارمة في حماية الهوية، نقل الأموال الناتجة عن أنشطة غير قانونية، سواء داخل فرنسا، أو عبر الحدود. وترى السلطات أن عدم القدرة على تعقب هذه الأموال شجع على تفشي الجريمة المنظمة.
التهمة السادسة: توفير خدمات تشفير غير قانونية
من بين التهم الأخرى الموجهة إلى دوروف توفير خدمات تشفير دون الامتثال للمتطلبات القانونية الفرنسية؛ إذ تعتقد السلطات أن خدمات التشفير القوية التي تقدمها تيليغرام يجب أن تكون خاضعة لإشراف الدولة لضمان عدم استخدامها لأغراض غير قانونية. ومع أن دوروف يصر على أن هذه الخدمات ضرورية لحماية حرية التعبير وخصوصية المستخدمين، فإن السلطات الفرنسية ترى أن هذا التشفير يمثل عقبة أمام جهود مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
تأتي هذه الاتهامات في سياق تزايد التوتر بين شركات التكنولوجيا الكبرى والحكومات في العالم بشأن قضايا الخصوصية والأمن. بافل دوروف، المعروف بمواقفه الحازمة ضد الرقابة الحكومية، يجد نفسه الآن في مواجهة مع السلطات الفرنسية التي ترى في سياسات تيليغرام تهديدًا للأمن العام. من جانب آخر، يعتقد مؤيدو دوروف أن هذه الاتهامات ليست سوى محاولة من الحكومة الفرنسية للضغط على تيليغرام للتخلي عن مواقفها الصارمة بشأن الخصوصية، وهو ما يرونه تهديدًا لحرية التعبير في العصر الرقمي.
يبدو أن بافل دوروف، الذي لطالما دافع عن مبادئ الحرية الفردية والخصوصية، يواجه اليوم أكبر تحدٍ في مسيرته المهنية، حيث يجد نفسه في مواجهة مباشرة مع واحدة من أقوى الحكومات الأوروبية. ستظل هذه القضايا مثار جدل كبير بين المدافعين عن حقوق الإنسان وحرية التعبير من جهة، والحكومات التي تسعى إلى تعزيز الأمن، ومكافحة الجريمة من جهة أخرى.
ردت روسيا بغضب وقلق واضحين على اعتقال بافل دوروف، مؤسس تيليغرام، في فرنسا، وقد أعربت الحكومة الروسية، من خلال عدد من المسؤولين البارزين والدبلوماسيين، عن استيائها من هذا الإجراء، واعتبرته خطوة ذات دوافع سياسية تهدف إلى الضغط على دوروف من أجل الوصول إلى بيانات مستخدمي تيليغرام.
دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، دعا إلى توخي الحذر والانتظار حتى تتضح الصورة قبل إصدار أي تصريحات رسمية بشأن القضية، في حين عبّر ديميتري مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس السابق، عن استيائه من هذا الاعتقال، ملمحًا إلى أن دوروف أخطأ بتجاهله مطالب التعاون مع السلطات الروسية في السابق؛ مما أدى إلى تفاقم مشكلاته الحالية مع الغرب. مدفيديف وصف دوروف بأنه “ليس مثل ماسك أو زوكربيرغ”، مما يشير إلى أنه يراه أكثر استقلالية، وربما أكثر خطورة على المصالح الغربية.
لم تتردد مارغاريتا سيمونيان، رئيسة تحرير قناة روسيا اليوم (RT) في استغلال الفرصة لتوجيه النقد إلى دوروف، مشيرة إلى أن مشكلاته الحالية هي نتيجة لمواقفه السابقة، ومنها حجب قنوات (RT) في أوروبا بناءً على أوامر السلطات الغربية. سيمونيان ألمحت إلى أن دوروف قد يتعرض لضغوط شديدة لتسليم مفاتيح التشفير الخاصة بتيليغرام إلى السلطات الفرنسية؛ مما أثار قلقًا عميقًا في الأوساط الروسية من احتمال تسرب معلومات حساسة.
بالإضافة إلى ذلك، عبّر عدد من النواب الروس عن قلقهم من أن اعتقال دوروف قد يكون محاولة للوصول إلى البيانات الشخصية لمستخدمي تيليغرام. نائب رئيس مجلس الدوما الروسي، فلاديسلاف دافانكوف، اقترح ضرورة اتخاذ خطوات لنقل دوروف إلى روسيا أو الإمارات إذا استمرت فرنسا في احتجازه؛ خوفًا من إمكانية تسريب معلومات حساسة.
يبدو أن اعتقال دوروف قد أثار مخاوف حقيقية داخل روسيا، خاصة فيما يتعلق بإمكانية استخدام هذه الحادثة للوصول إلى البيانات المشفرة الخاصة بمستخدمي تيليغرام، وهو ما قد يشكل خطرًا على أمن المعلومات الروسي، ويعزز الحاجة إلى تطوير بدائل محلية لتطبيقات الاتصالات المشفر
التشفير في تيليغرام يعد من أبرز الميزات التي جعلت المنصة تحظى بشعبية كبيرة بين المستخدمين الذين يهتمون بخصوصيتهم وأمانهم. يعتمد تيليغرام على عدة تقنيات تشفير لحماية المحادثات والبيانات الخاصة بالمستخدمين. سأشرح لك كيف يعمل هذا التشفير بشكل مفصل وما يحدث في الخلفية.
تشفير من الطرف إلى الطرف (End-to-End Encryption)
في محادثات تيليغرام السرية (Secret Chats)، يتم استخدام تشفير من الطرف إلى الطرف، مما يعني أن الرسائل تكون مشفرة على جهاز المرسل، ولا يمكن فك تشفيرها إلا على جهاز المستلم، أي إن البيانات تنتقل مشفرة من جهاز إلى آخر، دون أن تكون قابلة للقراءة من جانب أي طرف ثالث، بما في ذلك خوادم تيليغرام نفسها.
آلية العمل
بروتوكول (MTProto)
تيليغرام يستخدم بروتوكولًا مخصصًا للتشفير يُسمى (MTProto)، وهو مصمم خصيصًا لضمان السرعة والأمان في الاتصالات. بروتوكول (MTProto) ينقسم إلى جزأين:
مفاتيح التشفير والتوزيع
تستخدم تيليغرام مفاتيح تشفير متماثلة (Symmetric Encryption) لكل جلسة، حيث يُولّد مفتاح جديد لكل محادثة. هذا المفتاح يكون مشتركًا بين المرسل والمستلم فقط. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدَم مفاتيح تشفير غير متماثلة (Asymmetric Encryption) في أثناء عملية تبادل المفاتيح الأولية لتأمين القناة.
التخزين المشفر (Cloud Storage Encryption)
عندما لا تكون المحادثات سرية (أي إنها محادثات عادية أو جماعية)، تُخزَن الرسائل على خوادم تيليغرام، ولكنها تظل مشفرة باستخدام بروتوكول MTProto. هذه الرسائل يمكن الوصول إليها عبر الأجهزة المختلفة للمستخدم، ولكن تظل مشفرة حتى وصولها إلى جهاز المستخدم المستهدف، حيث يُفك تشفيرها.
رسائل ذاتية التدمير
في المحادثات السرية، يمكن للمستخدمين ضبط الرسائل لتدمير ذاتها بعد فترة زمنية محددة. عند تفعيل هذه الخاصية، تُضبَط الرسائل على التدمير الذاتي من جميع الأجهزة المعنية بعد مرور الوقت المحدد، مما يضمن عدم بقاء أي أثر للرسالة.
التحديثات الأمنية المستمرة
تيليغرام يُحدّث- دوريًا- بروتوكولات التشفير ويحسّنها لضمان الأمان في مواجهة التهديدات المستجدة. كلما ظهرت تقنية جديدة أو ثغرة أمنية، يتم العمل على تحديث البروتوكول لضمان عدم قدرة الجهات غير المرغوب فيها على الوصول إلى البيانات.
ضمانات إضافية
في حالة المحادثات السرية، يمكن للمستخدمين التحقق من تطابق المفاتيح (Key Verification) للتأكد من عدم تعرض المحادثة للهجوم الوسيط (Man-in-the-Middle Attack) يُظهر تيليغرام صورة مشفرة لمفتاح الجلسة المشترك، ويجب على المستخدمين المقارنة بين الصور لضمان أمان الجلسة.
عدم الاحتفاظ بالبيانات
تيليغرام لا يحتفظ بالبيانات بعد أن يحذفها المستخدمون. على سبيل المثال، إذا حذف المستخدم محادثة سرية، فإن جميع الرسائل المرتبطة بها تُحذف من كل الأجهزة المشاركة، وكذلك من خوادم تيليغرام (إذا كانت تُخزن مؤقتًا).
قضية بافل دوروف تسلط الضوء على الواقع المعقد والمزعج لحرية التعبير في الغرب. مع أن الغرب يروج لنفسه على أنه حصن للديمقراطية وحرية التعبير، فإن الإجراءات المتخذة ضد دوروف وتيليغرام تكشف عن تناقضات عميقة. هذه القضية توضح أن حرية التعبير في الغرب غالبًا ما تكون مشروطة بتوافقها مع السياسات الحكومية والمصالح الاقتصادية.
من الواضح أن هناك صراعًا متزايدًا بين المبادئ المعلنة للحريات المدنية والضغوط الأمنية التي تواجهها الحكومات في العصر الرقمي. هذه الضغوط، التي غالبًا ما تأتي تحت ذريعة الأمن القومي، أو مكافحة الجريمة، تهدد بتحويل الفضاء الرقمي إلى ساحة للرقابة والتحكم؛ مما يقوض الأسس الديمقراطية التي يزعم الغرب الدفاع عنها.
في هذا السياق، يجب أن ندرك أن معركة دوروف ليست مجرد معركة شخصية؛ بل هي رمز للصراع الأوسع بشأن مستقبل الحرية الرقمية. الأسئلة التي تثيرها هذه القضية تتعلق بكيفية توازن المجتمع بين حماية الخصوصية والحفاظ على الأمن، والدفاع عن حرية التعبير ومنع إساءة استخدام هذه الحرية.
المستقبل الرقمي يبدو مملوءًا بالتحديات، حيث سيكون على المجتمعات أن تقرر ما إذا كانت ستقبل بالتنازلات التي تفرضها الحكومات من أجل الأمن، أو ستدافع عن حقوق الأفراد في حرية التعبير والخصوصية. من المؤكد أن قضية بافل دوروف ستظل مثار جدل، وستشكل نقطة تحول في كيفية تعامل الحكومات مع قضايا الحرية الرقمية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.