المقدمة
يعود مصطلح اللعبة الكبرى إلى التنافس في القرن التاسع عشر بين روسيا والمملكة المتحدة للسيطرة على الهند، وفي عودة للمنافسات الإستراتيجية للعبة الكبرى، يطرح الآن هذا المفهوم في إطار سعي المملكة إلى تعزيز وجودها في آسيا الوسطى، بعد جولة تاريخية قام بها وزير الخارجية البريطانية، ديفيد كاميرون، منذ أيام في دول الإقليم، بدأت في طاجيكستان، ثم قرغيزستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، ليكون بهذا أول وزير خارجية بريطاني يزور جميع دول آسيا الوسطى؛ تمهيدًا لحقبة جديدة من العلاقات بين المملكة المتحدة والجمهوريات الخمس.
جاءت زيارة كاميرون في إطار تنفيذ إستراتيجية التعاون لمجموعة 5+1، حيث ركزت الرحلة على ثلاثة أهداف محورية؛ تعزيز الروابط الاقتصادية، ومواجهة التأثير الروسي، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وأعلن كاميرون خلالها أن لندن تعتزم تخصيص 50 مليون جنيه إسترليني لدعم استقلال هذه الدول وسيادتها على مدى السنوات الثلاث المقبلة، لتكشف هذه الزيارة عن دخول المملكة على خط النار، ومحاولة سحب آسيا الوسطى نحو الغرب، في ظل التنافس الإقليمي والدولي بين روسيا والصين وإيران وتركيا وأفغانستان على الإقليم.
تطمح لندن إلى بدء عهد جديد في العلاقات مع دول آسيا الوسطى، إذ تمثل رحلة ديفيد كاميرون رحلة استثنائية؛ بوصفه أول وزير خارجية بريطاني يزور قرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأول وزير خارجية بريطاني يزور أوزبكستان منذ عام 1997؛ لذا حملت هذه الزيارة دلالات وتداعيات عدة على مستوى مستقبل الوجود البريطاني في المنطقة؛ ومن ثم تظهر دوافع لندن من تلك الزيارة التاريخية فيما يلي:
واستنادًا إلى هذا، برهنت مخرجات تلك الجولة على دوافع المملكة من توثيق علاقاتها بالجمهوريات الخمس، إذ كانت المحطة الأولى لكاميرون هي طاجيكستان، التي يعتمد اقتصادها- اعتمادًا كبيرًا- على تحويلات المهاجرين من روسيا، وزار مشروع نوريك الكهرومائي- ثاني أطول سد في العالم- والتقى بوزير الخارجية الطاجيكي سراج الدين مهر الدين، وكذلك الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمون، الذي أشار إلى المملكة باعتبارها شريكًا مهمًّا في أوروبا الغربية، وعزز ذلك التوقيع على اتفاقية تعاون بين طاجيكستان والمملكة المتحدة، وكجزء من تلك الاتفاقية، اقتُرِحَ فتح رحلات جوية مباشرة بين لندن ودوشنبه.
وكانت قرغيزستان المحطة الثانية لكاميرون، وفور وصوله زار النصب التذكاري لضحايا القمع السوفيتي؛ في رسالة واضحة ومباشرة إلى روسيا، وتذكرة للشعب القرغيزي بالاستعمار السوفيتي، وتم التوقيع على اتفاقية حكومية دولية مع وزير الخارجية القرغيزي جينبيك كولوبايف بشأن توسيع التنمية الاقتصادية والتعليمية المستدامة.
كما وقع كاميرون في أوزبكستان مذكرة تفاهم مع وزير الخارجية الأوزبكي بختيور سعيدوف، وكجزء من مذكرة التفاهم، التزم الجانبان بالعمل معًا في مجالات الأمن الإقليمي، والتعليم، وتغير المناخ، والتجارة الثنائية، وتطوير العلاقات التجارية، كما نشر كاميرون مقالة افتتاحية في موقع “غازيتا”، وهي وكالة الإعلام المملوكة للدولة في أوزبكستان، يسلط فيها الضوء على التزامه بالعمل- على نحو أوثق- مع أوزبكستان، وآسيا الوسطى على نطاق أوسع، والارتقاء بالعلاقة بينهما.
عند الحديث عن مصالح بريطانيا في آسيا الوسطى، يتبادر إلى الذهن على الفور مصطلح اللعبة الكبرى، وأهداف الإمبراطورية البريطانية في هذه المنطقة. إن حقيقة أن بريطانيا لم تعد جزءًا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن تفرض على لندن سياسة خارجية أكثر استباقية، فلم تعد المملكة قادرة على المشاركة في فوائد المبادرات الأوروبية؛ لذا ربما تتطلع لندن إلى الطموحات المتزايدة للتوجهات التي تتبعها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المنطقة.
لطالما نظرت لندن إلى آسيا الوسطى على أنها وسيلة تستخدمها روسيا للوصول إلى الهند، كمنطقة ذات أهمية إستراتيجية نحو مناطق أخرى مهمة جغرافيًّا، أي الوصول إلى الهند، والشرق الأوسط، ومنطقة البحر الأسود، وفي الوقت نفسه السيطرة على أوروبا. ولكون المهمة الأولى للدول الغربية، وعلى رأسهم بريطانيا، هي الحد من قدرات روسيا، والحيلولة دون تمكن روسيا من تعزيزها بما يتيح لها حل مشكلاتها الإستراتيجية واللوجستية من خلال آسيا الوسطى، وعدم السماح لموسكو بأن تكون لاعبًا مهمًّا في آسيا الوسطى؛ لذا تتنافس دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا على مناطق نفوذ روسيا التقليدية.
وفي سبيل ذلك، تزعم لندن بأن منطقة آسيا الوسطى مهمة للمملكة المتحدة في جهودها الرامية إلى تعزيز نظام دولي مفتوح ومستقر، ودعم مصالح المملكة المتحدة في مجال الأمن، والتجارة، والمناخ والتنمية؛ لذا تسعى المملكة المتحدة إلى تعزيز سيادة المنطقة، وتكاملها، وازدهارها، وقدرتها على الصمود؛ ما يصب في صالح بريطانيا، ومصالحها الأمنية في المنطقة.
“من يحكم آسيا الوسطى سيحكم أوراسيا، ومن يحكم أوراسيا سيحكم العالم بأسره”، إن هذه المقولة للجيوسياسي البريطاني هيلفورد ماكيندر، تعد أبرز دليل على النهج الاستعماري الذي تطمح المملكة إلى إرساء قواعده من خلال عدد من الآليات التي تضمن السيطرة على هذا الإقليم الاستراتيجي، يتمثل أبرزها في:
لا يمكن العثور على إقليم أفضل من آسيا الوسطى لمراقبة اللعبة السياسية الحالية، حيث يمثل نقطة تقاطع محورية للقوى الإقليمية والدولية، ما يجعلنا نستعيد أهمية بلدان آسيا الوسطى التاريخية بوصفها محفزًا رئيسًا لعالم متعدد الأقطاب؛ ومن ثم فإن الوضع الجيوسياسي المتغير يوفر للدول الغربية فرصة لأداء دور سياسي أكبر في آسيا الوسطى بوصفها أكبر مانح للمساعدات في المنطقة، ففي زيارة وزير الخارجية البريطاني الأخيرة استخدم مصطلح “محاصر” للإشارة إلى وضع آسيا الوسطى بين روسيا والصين، كما لفت إلى أن إيران على بُعد 40 كيلومترًا فقط فوق تلك الجبال، ليزعم أن لندن لا تطالب دول آسيا الوسطى بالتخلي عن الشراكة مع الصين، أو روسيا، ولكنها تتخوف من تأثير تلك القوى في توجهات حكومات الجمهوريات الخمس.
وفي هذا الصدد، تتنافس المملكة منافسة شرسة مع القوى التقليدية بشأن تعزيز الوجود البريطاني في تلك البقعة الجديدة نسبيًّا للندن، حيث تضطلع روسيا والصين وإيران وتركيا بدور كبير في آسيا الوسطى، ويرجع ذلك بالأساس إلى القواسم الجغرافية المشتركة، إذ تقاسم الجوار نفسه مع الجمهوريات الخمس، ويجمعها واقع جيوسياسي مشترك، واقتصادات متشابكة، ولعل أهم المصالح الرئيسة للدول الغربية- وعلى رأسها بريطانيا- في منطقة آسيا الوسطى خلال الأعوام المقبلة، يتمثل في الدور المزدوج للمنطقة بوصفها مصدرًا للطاقة، وطريق عبور للتجارة بين الشرق والغرب، وهما أولويتان تتمحور أهميتهما في ضوء الحرب الروسية الأوكرانية.
ورغم الصورة التاريخية عن مطامع الدول الغربية في الإقليم، تحظى المملكة المتحدة- في الوقت الراهن- بفرصة سانحة في تعزيز علاقتها بالجمهوريات الخمس، فمع تزايد أعداد الشباب في آسيا الوسطى، هناك رغبة متزايدة بين الأجيال الشابة في إقامة علاقات مع الغرب، فهذه الدول حريصة على الانخراط- على نحو أكبر- في الخطاب الغربي، وفي بعض الحالات، تسعى جاهدة إلى التحرك في هذا الاتجاه.
وبالنظر إلى أن أهدافًا مثل التعاون الاقتصادي والثقافي الذي تزعم بريطانيا تعزيزه في البلدان الخمس، قد تكون حقيقةً، لكن ينبغي قراءة تلك الأهداف في سياق الدور الجيوسياسي المتزايد الأهمية الذي تضطلع به آسيا الوسطى في ديناميكيات المنطقة، خاصة بعد إعلان كاميرون- على نحو مباشر- أنه لتعزيز المصالح البريطانية في عالم أكثر تنافسية وتنازعًا؛ يتعين على لندن أن تقاتل في مناطق جديدة؛ لتعزيز وجودها، ومكانتها الإقليمية والدولية.
لكن الخطر الحقيقي من التنافس الإقليمي والدولي على بسط النفوذ في منطقة آسيا الوسطى يكمن في الجانب الروسي، الذي يخشى الصراع مع تلك القوى على ثروات إقليم آسيا الوسطى؛ ما يخلق سباقًا غير متكافئ بين روسيا من جهة، والقوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى، ويفتح ساحة جديدة للتنافس في المنطقة التقليدية لروسيا، التي تعدّها الضمانة الأبرز لأمنها القومي في القارة الآسيوية، وتجلت ملامح هذا الصدام في زيارة كاميرون الأخيرة، التي ناقش فيها زعماء دول آسيا الوسطى في قضية التحايل على العقوبات المفروضة على روسيا، ومشكلة البضائع ذات الاستخدام المزدوج التي تمر عبر آسيا الوسطى إلى روسيا، ما يسهل تهرب موسكو من العزلة الأوروبية المفروضة عليها بعد حرب الأخيرة في أوكرانيا.
وبعيدًا عن مسألة النفوذ الجيوسياسي مع روسيا، فإن آسيا الوسطى تتحول سريعًا إلى منطقة اهتمام لجميع القوى الإقليمية والدولية، فنجد أن بناء الممر الأوسط، وهو طريق بديل للبضائع التي تعبر إلى أوروبا من الصين، إلى جانب قطاعات المعادن والغاز الطبيعي الحيوية المتنامية، يشير جميعها إلى أهمية أكبر لآسيا الوسطى عند العواصم الأوروبية؛ ومن ثم تسعى بريطانيا أن تكون لها اليد العليا في المنطقة، خاصة أنها تحارب بمفردها في صراع النفوذ، دون دعم الاتحاد الأوروبي لخطواتها في آسيا الوسطى.
مع أن بريطانيا لم تشارك- بشكل كبير- في آسيا الوسطى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن زيارة أبريل (نيسان) الماضي تشير- على ما يبدو- إلى طموح واضح من جانب لندن لتغيير هذا الواقع، واتخاذ خطوات جادة ومدروسة؛ لتصبح بريطانيا لاعبًا رئيسًا واستباقيًّا في المنطقة، إذ تمثل زيارة كاميرون نقطة تحول حاسمة في تاريخ العلاقات بين المملكة المتحدة وبلدان آسيا الوسطى، خاصةً أن أوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وقرغيزستان وطاجيكستان وصلت إلى مرحلة ترغب فيها- بشدة- في تدشين شراكات إستراتيجية مع الدول الغربية، منتهجة إستراتيجية توازن القوى، في ظل كثير من التأثيرات العالمية المتنافسة في الآونة الأخيرة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.