تقدير موقف

جنوب شرق آسيا وعودة ترمب


  • 24 نوفمبر 2024

شارك الموضوع

في منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، الذي عُقد مؤخرًا في بيرو، دعا زعماء الدول الأعضاء إلى تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتزايد هشاشة سلاسل التوريد، حيث تتجه الدول الآسيوية للاستعداد للتعامل مع نهج الحماية الذي يتبناه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب من خلال التركيز على اتفاقيات التجارة الإقليمية والثنائية التي تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي العابر للحدود الوطنية دون تدخل الولايات المتحدة. وقد أكد رئيس وزراء سنغافورة، لورانس وونغ، أهمية إحياء منطقة التجارة الحرة في آسيا والمحيط الهادئ، وهي الاتفاقية التي لا تزال قيد التفاوض بين اقتصادات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ.

ومن المتوقع أن تصبح الاتفاقيات التجارية التي تستبعد الولايات المتحدة الخيار الأفضل، لا سيما أن ترمب (خلال فترة رئاسته الأولى) انسحب عام 2017 من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهذا أكسب الترتيبات الاقتصادية بعيدًا عن واشنطن أهمية مُتزايدة، مثل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، والاتفاقية الشاملة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، في حين وُقِّعَت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، وهي اتفاقية تجارية تضم (15) دولة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، منها الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وأعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، بعد ثماني سنوات من المفاوضات، وتمثل هذه الدول مجتمعة نحو (30%) من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وارتفعت التجارة بين الأعضاء بنسبة (5.5٪) بين عامي 2018 و2021. ومؤخرًا وقعت الصين اتفاقية تجارية أقوى مع بيرو، وأبرمت إندونيسيا اتفاقية تجارية مع كندا.

إن الرسوم الجمركية الأمريكية الأعلى قد تضرب الاقتصادات الآسيوية بشدة، وخاصة تلك التي تتجاوز نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي فيها (100%)، مثل سنغافورة وهونج كونج وفيتنام. وفي الوقت الحالي، لا توجد سوى سنغافورة وكوريا الجنوبية اللتين وقعتا اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة. إن الرسوم الجمركية التي يدفعها المستوردون في الولايات المتحدة، وتحصلها هيئة الجمارك وحماية الحدود الأميركية، ترفع التكاليف التي غالبًا ما تنتقل إلى المستهلكين، ولكنها تضر أيضا المصدرين الأجانب من خلال جعل سلعهم أقل قدرة على المنافسة.

وقد تعهد ترمب بعد أن يؤدي اليمين الدستورية لفترة ولاية ثانية في 20 يناير (كانون الثاني) 2025 بفرض رسوم جمركية تصل إلى (20%) على الواردات الأمريكية على نطاق عريض، فضلًا عن فرض رسوم جمركية بنسبة (60%) على السلع الصينية، ما يعني أن تعود الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي كلفت بكين 35 مليار دولار، منها 15 مليار دولار أمريكي في عام 2018 وحده؛ لذا أعلنت الصين في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ أن لديها كثيرًا من الشركاء التجاريين، كما أنها ستعمل على تعزيز الاستهلاك المحلي، وزيادة الواردات لتعزيز التجارة الإقليمية.

إن أي ضربة للاقتصاد الصيني سوف يكون لها تداعياتها على دول رابطة دول جنوب شرق آسيا التي تعتمد على الاستهلاك الصيني والطلب على الصادرات والسياحة. كما أن انخفاض الطلب على السلع الصينية سوف يؤثر أيضًا في موردي المدخلات للمنتجين الصينيين في جنوب شرق آسيا، وسوف تعاني إندونيسيا -وهي أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا- أكثر من غيرها؛ لأنها تصدر (24.2%) من سلعها إلى بكين، وخاصة السلع الأساسية. وفي ظل عدم تمكن المصدرين الصينيين من إرسال بضائعهم إلى الولايات المتحدة، فإنهم قد يتجهون إلى جنوب شرق آسيا، حيث واجهت الحكومات هناك شكاوى من المنتجين المحليين الذين تضرروا من إغراق وارداتهم من المعادن والمنسوجات والسلع الاستهلاكية.

وسيؤدي عدم اليقين بشأن الرسوم الجمركية التي سيفرضها ترمب إلى توقف الشركات عن خطط الاستثمار في جنوب شرق آسيا. ووفقًا لمجلس التنمية الاقتصادية في سنغافورة، شكلت الشركات الأمريكية نحو نصف استثمارات سنغافورة في الأصول الثابتة، التي بلغت 9.5 مليار دولار العام الماضي. وفي رسالة التهنئة التي بعث بها إلى ترمب، سارع رئيس الوزراء لورانس وونغ إلى تذكيره بأن الولايات المتحدة تتمتع “بفائض تجاري ثابت” مع سنغافورة، في حين أن نحو (40%) من صادرات كمبوديا تذهب إلى الولايات المتحدة؛ مما يجعلها أكبر مصدر في رابطة دول جنوب شرق آسيا كنسبة مئوية من إجمالي الصادرات، تليها فيتنام بنسبة (27.4)%، وتايلاند بنسبة (17%)؛ ما يعني أن الاقتصاد التايلاندي -أقل الشركاء الاقتصاديين مع واشنطن- قد يخسر (4.6 مليار دولار) إذا أوفى ترمب بوعوده.

أما إيجاد طريقة تعامل للدول الآسيوية مع فقدان القدرة على الوصول إلى السوق الأمريكية فسيستغرق وقتًا ​​لإنشاء شراكات تجارية جديدة، فالجدول الزمني لدول مثل تايلاند قد يمتد إلى 24 عامًا، مع تحول التجارة إلى الصين والاتحاد الأوروبي وفيتنام واليابان، أما فيما يتعلق بكوريا الجنوبية، فقد يستغرق الأمر حتى عام 2038 لتحل محل الولايات المتحدة بالكامل كشريك تجاري. أما الرسوم الجمركية التي وعد بها ترمب فقد تشجع حكومات رابطة دول جنوب شرق آسيا على فرض رسوم مكافحة الإغراق على السلع الصينية، كما فعلت تايلاند على الصلب هذا العام. كما أن قواعد المنشأ الأمريكية الأكثر صرامة قد تمنح الحكومات الفرصة لضمان إنتاج وتجميع مزيد من الأجزاء ذات القيمة العالية محليًّا، بالإضافة إلى تخفيف الضغوط على البنوك المركزية في جنوب شرق آسيا لتخفيف السياسة النقدية على نحو أكبر. ولقد بدأت الحكومات بالفعل باتخاذ خطوات لتقليص اعتمادها المفرط على الولايات المتحدة أو الصين من خلال تعميق العلاقات مع البلدان والمناطق الأخرى، وتأكيد حيادها. ومن المتوقع أيضًا أن تركز اقتصادات جنوب شرق آسيا -على وجه الخصوص- على بناء المرونة من خلال تعزيز التجارة داخل رابطة دول جنوب شرق آسيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع