قبل شهر ونصف الشهر، عندما كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يزور موسكو، وكانت قمة الناتو تعقد في واشنطن، اقترحت في مقال لي على صفحات صحيفة “روسيسكايا غازيتا” نموذجين حاليين لتنظيم العلاقات الدولية؛ الأول، الذي يجذب معظم دول العالم، وهو شراكة عملية بدون التزامات ثابتة؛ لأنها مبنية على فهم موضوعي للمصالح المشتركة، وتسمح بالاتصالات بين كل طرف وأي لاعب آخر. والثاني: الالتزامات الصارمة في إطار التحالف الثابت، الذي يقوم على مبادئ أيديولوجية مشتركة، ويفترض انضباط تكتل الحلفاء داخله، أي سياسة موحدة تجاه اللاعبين الخارجيين، وهذه هي سمة التحالف السياسي والعسكري بين دول الغرب الجماعي.
مودي، يزور الآن كييف ووارسو، ليؤكد- من جديد- التزام الهند بالنوع الأول من التفاعل. إن الوصول إلى عواصم غير ودية لموسكو لا يلغي- بأي حال من الأحوال- نتائج زيارته المثمرة لروسيا، لكنه يؤكد أن نيودلهي تنأى بنفسها- على نحو صارم- عن الصراع، وتحافظ على اتصالات مفيدة لها مع الأطراف كافة. بعبارة أخرى، لا يوجد شيء أيديولوجي أو شخصي، فقط مصالح التنمية الخاصة للدولة هي من تحركها.
لا ينطبق موضوع النماذج المختلفة للتفاعل الدولي على الساحة الدولية الكبيرة فحسب؛ بل ينطبق أيضًا على مزيد من المسارح المحلية. قام الرئيس فلاديمير بوتين بزيارة دولة إلى أذربيجان، وهو ما أثار اهتمامًا كبيرًا، والسبب واضح. يشهد جنوب القوقاز تغييرات عميقة بعد عدة عقود من توازن القوى المستقر إلى حد ما. لقد عززت أذربيجان موقفها على نحو ملحوظ من خلال حل قضية كاراباخ لصالحها، وتحاول أرمينيا الاستفادة من فشلها المؤلم بعد أن تخلصت من ذلك العبء المُجهد لقدراتها فيما يخص مسألة مصير كاراباخ، وأعادت توجيه قدراتها نحو أولوياتها الحالية، وهي التعاون مع الغرب. ومن الناحية الرسمية، تظل يريفان حليفة لموسكو- سواء على المستوى الثنائي أو المتعدد الأطراف (منظمة معاهدة الأمن الجماعي مثالًا). في الواقع، التغيير في المعالم أمر لا شك فيه، وتتحدث عنه القيادة الأرمنية باستمرار.
إذا نظرت إلى الوضع من وجهة نظر النموذجين الموصوفين، فستحصل على صورة مثيرة للاهتمام. تتصرف أذربيجان باستمرار بمنطق النوع الأول. منذ التسعينيات لم تقم باكو بسوى محاولات متفرقة للدخول في منظمات يمكن نظريًّا أن تتطور إلى مستوى التكتل، ولم تُترجَم هذه الانتماءات إلى ممارسة، وتبين أن هذه الارتباطات كانت سريعة الزوال. وبخلاف ذلك، اعتمدت أذربيجان على علاقات ثنائية بدرجات متفاوتة من التقارب، ولكن مع دول مختلفة. ومن الواضح أن تركيا- على سبيل المثال- كانت علاقة باكو معها تتسم دائمًا بالتميز. وبخلاف ذلك، يمكن إقامة اتصالات تجارية على أساس المنفعة المتبادلة مع أي دولة، في حين تجنبت باكو التحالفات المُلزمة التي من شأنها أن تحد قدرتها على التفاعل مع الآخرين.
أرمينيا- على الجانب الآخر- كانت تنتمي إلى نموذج مختلف. اعتمدت يريفان على علاقات من نوع التكتل الأوحد. صحيح أن المحاولات الرامية إلى إنشاء تكتلات في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق لم تكن قط متسقة وواضحة كما كانت في العالم الأوروبي الأطلسي، لكنها لا تزال قائمة. تعود رغبة أرمينيا في الأشكال الجماعية إلى وضعها الأمني الصعب تاريخيًّا. وبطبيعة الحال، لم تكن الضمانات الحاسمة هي التحالف العسكري (منظمة معاهدة الأمن الجماعي)؛ بل روسيا نفسها. ومن أجل ذلك شاركت أرمينيا في المنظمات العسكرية والسياسية والاقتصادية جزئيًّا، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، حيث تعد موسكو الشريك الرئيس.
الآن تغير الوضع. ولنترك الحديث عن الأسباب لمناسبة أخرى؛ فالحقائق هي أن يريفان تريد الخروج من المخطط الذي عملت ضمنه حتى الآن. ومن الطبيعي أن تكون روسيا غير متحمسة لهذا الأمر. ومع ذلك، فهي لا تتخذ أي خطوات جذرية للحفاظ على أرمينيا. إن الرغبة في تنويع الشراكات، والخروج من نظام التكتل الأوحد، وهو ما تعلنه يريفان، لا يمكن اعتباره سوى حق سيادي لها. ومع ذلك، للانتقال إلى نموذج آخر، يلزم وجود مسافة متساوية من الجميع، بدلًا من استبدال بعض العلاقات في منطق تكتل بآخر.
ونظرًا إلى الأزمة الحادة بين روسيا والغرب، فمن الصعب أن نتصور أن هذا النوع من التغيير قد يمر بسلاسة ودون ألم. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم القيادة الأرمينية الحجج بشأن مسؤولية روسيا عن الاضطرابات التي شهدتها في السنوات الأخيرة كأداة لإضفاء الشرعية على هذا التحول.
إن الوضع في جنوب القوقاز ليس ثابتًا؛ إذ تقع أذربيجان وأرمينيا وجورجيا في قلب عمليات مضطربة متعددة. وبالمناسبة، تشكل جورجيا مثالًا آخر على المعضلة نفسها. وإذا كانت أرمينيا تبذل جهودًا للنأي بنفسها عن روسيا، فإن جورجيا تبذل جهودًا للنأي بنفسها عن الغرب. ولا يوجد بالطبع أي حديث عن قطع العلاقات، لكن تبليسي تسعى إلى تأكيد حقها في تنظيم علاقاتها مع العالم الخارجي على نحو مستقل. ويتفاعل الغرب بعصبية مع هذا التحرك. وستظهر الانتخابات المقبلة مدى واقعية قيام دولة صغيرة لا تملك الموارد بالدفاع عن إطارها السيادي.
تؤكد ديناميكيات التغييرات في جنوب القوقاز أن العالم كله غارق في عمليات مماثلة. سيستمر كلا نموذجي التفاعل في التعايش. ومع ذلك، يجب على جميع المشاركين في الأحداث أن يكونوا على دراية بتوازن الأخطار والفرص في كل حالة.
المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.