أبحاث ودراسات

تغيير العقيدة الدفاعية.. ورقة طهران الأخيرة في الحرب على إسرائيل


  • 12 أكتوبر 2024

شارك الموضوع

المقدمة

أضحى الحديث عن ضرورة صنع إيران قنبلة نووية لمواجهة التهديدات الإسرائيلية بضرب منشآتها النووية أمرًا معتادًا في الشارع الإيراني بعد أن كان مجرد التفكير فيه محرمًا منذ أن أعلن المرشد الأعلى على خامنئي أن هذه الأسلحة غير إسلامية. وخلال السنوات الماضية حاولت مؤسسات عسكرية وسياسية إيرانية التلويح بتغيير العقيدة الدفاعية، وإنتاج السلاح النووي، وعزز هذا التوجه التصعيد الراهن في المنطقة الذي يفرض معادلة جديدة على إيران، لا سيما بعد الضربة التي لحقت بحزب الله، أهم وكلاء إيران في المنطقة؛ ما رسخ الشعور بأن إيران باتت في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وعليها التحرك على نحو غير تقليدي لتلك المواجهة.

تمتلك طهران الآن -لأول مرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية- المقومات الثلاثة؛ القدرة، والسياق، والفرصة لتغيير إستراتيجيتها النووية، متجاوزة السرد السلمي للطاقة، خاصةً أن محور المقاومة كان يمثل لها قنبلتها الذرية البديلة، لكن بعد الهجوم الدامي على قوات محور المقاومة، يكون الرادع الأخير لدى إيران حاليًا هو السلاح النووي.

ركائز العقيدة الدفاعية الإيرانية

تعكس العقيدة الدفاعية الإيرانية عددًا من الأسس التي تتبعها طهران في إطار إستراتيجية الأمن القومي، إذ تستند تلك العقيدة إلى مجموعة من العوامل التاريخية، والجغرافية، والدينية، التي تؤثر في إدراك الجمهورية الإسلامية لهيكل الفرص والتهديدات. وبدراسة هذه العقيدة، يمكن فهم خطة استعداد إيران للدفاع عن سيادتها وأمنها القومي، التي تركز على: تطوير قدرات الردع العسكري، وتبني إستراتيجيات دفاعية متعددة الجوانب، تشمل الحرب غير التقليدية، والاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية مثل الصواريخ والمسيرات، فضلًا عن تعزيز نفوذها الإقليمي، ورسم خريطة للتحالفات التاريخية؛ ومن ثم، يعد فهم هذه العقيدة أمرًا ضروريًّا لتحليل السياسات الإيرانية، واستشراف مستقبل المنطقة، وتأثير إستراتيجيات إيران الدفاعية على الأمن الإقليمي والدولي، وفي هذا السياق، تتضمن العقيدة الدفاعية العسكرية الإيرانية: تجنب التدخل المباشر في الصراعات وإشعال الحروب، وأولوية الدفاع بدلًا من الهجوم، والأهم من وجهة نظر النظام الإيراني هو تعزيز الردع الدفاعي؛ لذا حاولت طهران -في العقود الأربعة الماضية- جعل تلك المبادئ أساسًا لعملية صنع القرار الإيراني، ونموذجًا لسلوكها؛ ما ساعد إيران أن تكون جهة مرنة تكتيكيًّا، تتمتع بمهارة خاصة في القدرة على التكيف مع أي موقف وأي صراع، وظهرت خصوصية تلك المرونة في إعطاء بعض الصراعات الأولوية للدفاع، وفي أخرى للهجوم، سواء أكان هجومًا مباشرًا، أم عن طريق وكلائها في المنطقة.

إشكالية استخدام السلاح النووي في الفقه الإيراني

في عام 2010، أصدر المرشد الأعلى علي خامنئي فتوى باعتبار استخدام الأسلحة النووية محرمة دينيًّا، وأن البلاد لن تسعى إلى امتلاكها، وقد استشهد المسؤولون الإيرانيون بهذه الفتوى أعوامًا، كدليل على أن الجمهورية الإسلامية لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية.

لكن عقب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ظهر نهج جديد، وتزايدت الدعوات الإيرانية لمراجعة العقيدة الدفاعية لطهران، خاصةً بعد قصف السفارة الإيرانية في دمشق، وتصاعد التوتر بين طهران وتل أبيب، ففي أبريل (نيسان) الماضي، صرح العميد أحمد حق طلب، قائد هيئة حماية وأمن المراكز النووية الإيراني، أن طهران مستعدة للتعامل مع أي تهديد من إسرائيل، محذرًا من أن الهجوم الإسرائيلي المحتمل على المنشآت النووية يمكن أن يغير سياسة إيران وعقيدتها النووية، فيما أكد  رئيس المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية، كمال خرازي،  أن العقيدة النووية للجمهورية الإسلامية قابلة للتغيير.

ورغم التصريحات العلنية التي أدلى بها المسؤولون الإيرانيون، أصرت وزارة الخارجية الإيرانية على عدم حدوث أي تغيير في العقيدة النووية للبلاد، بيد أن هذه الرسائل المزدوجة قد تعكس نقاشًا دائرًا بالفعل داخل النظام في إيران، حيث لم يكن ميزان القوى أو الإجماع حتى وقت قريب لصالح بناء الأسلحة النووية ونشرها، ولكن هذا التوازن ربما يتحول في ظل تطورات الصراع الحالي بين إيران وإسرائيل.

ولعل الجدل بشأن مراجعة العقيدة النووية وصل إلى مستوى مقلق في الأيام القليلة الماضية، بعدما دعا 39 عضوًا من أعضاء البرلمان الإيراني، المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي يعد أعلى هيئة أمنية في البلاد، ويترأسها الرئيس مسعود بزشكيان، إلى إعادة النظر في العقيدة الدفاعية للبلاد، على خلفية التصعيد الأخير مع تل أبيب.

وبدأت التحليلات الإيرانية تحاول الخروج من مأزق فتوى المرشد الأعلى بأن هناك فرقًا بين إنتاج القنبلة النووية واستخدامها، وأن حرمة السلاح النووي في الفقه الشيعي تتعلق بآثاره المدمرة والمهلكة؛ ومن ثم فإن إنتاجها في ظل التهديدات المتواصلة باستهداف المنشآت الحيوية، يشكل عاملًا رادعًا يُفضي إلى تهدئة التصعيد، وخفض التوتر في المنطقة من وجهة نظر المسؤولين الإيرانيين؛ لذا تزايد الجدل بشأن الرجوع في فتوى خامنئي، وإمكانية تعديلها وفقًا لمقتضيات الوضع الراهن.

اختبار للدولة النووية

تدرك الجمهورية الإسلامية أن برنامجها النووي يوفر لإيران ورقة ضغط إستراتيجية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، ومع أن طهران تبدي عدم نيتها تصنيع أسلحة نووية، فإن القدرات التقنية والعلمية التي تطورها في هذا المجال تمنحها نفوذًا يمكن استخدامه ضمن الردع الشامل، في وجه التهديدات المحتملة من جانب الخصوم الإقليميين والدوليين.

وفي هذا السياق، أثارت الهزة التي شعر بها سكان مدينة أرادان في محافظة سمنان الإيرانية في الخامس من أكتوبر الجاري، تكهنات بشأن إجراء طهران أول تجربة نووية في إطار مواجهة التصعيد مع إسرائيل، خاصةً بعد تقرير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) الأمريكية عن بدء طهران برنامجًا لبناء مواقع للتجارب النووية تحت الأرض، يُعرف باسم “مشروع الميدان”.

وما يعطي هذه التهديدات درجة من المصداقية هو أن البرنامج النووي الإيراني أصبح اليوم أكثر تقدمًا؛ فوفقًا للوكالة الذرية للطاقة النووية تستطيع إيران في أقل من أسبوعين إنتاج ما يكفي من اليورانيوم الصالح للاستخدام في صنع الأسلحة لصنع قنبلة نووية، كما ذكرت بعض التقارير الإعلامية الإيرانية أن البلاد تمتلك ما يكفي من اليورانيوم المخصب لإنتاج عشر قنابل نووية، وليس قنبلة واحدة.

فضلًا عن أن حديث المرشد الأعلى علي خامنئي في أغسطس (آب) الماضي، الذي تضمن أسس العقيدة الدفاعية الإيرانية وركائزها، والدوافع الميدانية لتحقيق الردع العسكري، مع التمسك بأحقية الدولة في الحفاظ على أمنها القومي، ومستقبل شعوبها، يشير إلى أكثر من مجرد تلويح بإمكانية تغيير عقيدتها النووية لتحقيق الردع وفق إطار مصطلح الحرب التكتيكية الذي يتماشى مع الرؤية السياسية الحالية للنظام الإيراني؛ ومن ثم يمكن فهم توجه إيران لصنع سلاح نووي في إطار إرسال رسالة ردع مباشرة للإدارة الأمريكية الحالية أو المستقبلية لمنع القيام بحملة اقتصادية وعسكرية أخرى على غرار حملة الضغوط القصوى” في ظل الصراع المحتدم بين طهران وتل أبيب، وينعكس هذا -على نحو مباشر- على البعد الوطني الذي يعد جزءًا محوريًّا من خطاب النظام الإيراني، الذي يستخدم البرنامج النووي لتعزيز شعبيته الداخلية، والترويج لفكرة أن إيران قوية وغير قابلة للخضوع للضغوط الخارجية؛ ما يحقق أهداف طهران الإستراتيجية والداخلية على السواء.

الخاتمة

ترى الجمهورية الإسلامية أن برنامجها النووي جزء من العقيدة الدفاعية؛ إذ تسعى من خلاله إلى تحقيق أهداف حيوية تتعلق بالأمن القومي، والسيادة، والردع، وذلك ضمن معادلة القوة والتوازن الإقليمي، إذ إن فكرة التلويح بتغيير إيران عقيدتها الدفاعية في المستقبل القريب، بسبب الأوضاع الداخلية، والإقليمية، والدولية، تشير إلى أن طهران تمتلك أدوات ضغط فعالة على الصعيد الدبلوماسي يمكنها أن تتجاوب مع أي ظرف، ومن هذا يُمكن القول إنه عندما تصبح دولة ما نووية فإن التوترات لا تختفي، بل يتغير مستواها، أي إن التوترات تنتقل من الأمن إلى القوة، وتنتقل التهديدات من الحرب المشتركة إلى التنافس، وهو ما تطمح إليه إيران منذ أكثر من أربعة عقود.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع