لطالما واجهت الدراسات التي تعني بدراسة الشؤون الروسية، بما فيها دراسات الكرملين، إشكالية أساسية تتمثل في إغفال الخصوصية التي تتسم بالظواهر السياسية في الإطار الروسي، بما يجعلها تدرس هذه الظواهر وفقًا لاقترابات تدرس وتطوع الظواهر السياسية في الفضاء الروسي للمناهج الغربية التي لا تستطيع تقديم الكثير لفهم هذه الظواهر، وحصر النظام الروسي في النظم الفاشية والديكتاتورية، وهو ما يُظهر جانبًا آخر من إشكالية هذه الاقترابات، وهي إشكالية التقييم السياسي المبطن بداخلها، إذ ينظر أصحابها إلى روسيا على أنها عدو؛ مما يؤثر في أغراض الدراسة، وفي إمكانية فهم هذه النظم حقيقةً.
ومع ذلك، فإنه لا يمكننا تركها بالكلية؛ وإنما استيعابها وتجاوزها؛ وعليه، فهذا البحث يعني بمحاولة فهم طبيعة تمرد فاغنر، وتأثيره في النظام الداخلي للاتحاد الروسي من خلال التقاليد السياسية والتاريخية الروسية، فقد كشف هذا التمرد عن الصراعات الداخلية بين النخب الروسية، إذ خرج يفغيني بريغوجين، رئيس شركة فاغنر الروسية الخاصة للعمليات العسكرية، يوم 23 من يونيو (حزيران) 2023، ليعلن أن عددًا ضخمًا من قواته على جبهة القتال في أوكرانيا قُتِل من جراء قصف صاروخي من القوات الروسية، واعتبر وزير الدفاع الروسي هو المسؤول عن هذا الاعتداء وعما قبله من مقتل جنوده؛ نتيجة عدم تسليمهم أسلحة وذخيرة بسبب فساده، وفساد النخبة من حول بوتين.
وقد وقعت هذه الواقعة بعد أن استقر بريغوجين على اتباع نهج واضح للتعامل مع النخب الروسية في ظل مشاركة قواته في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التي بدأت منذ فبراير (شباط) 2022. وقد تمثل هذا النهج في الانتقاد اللاذع والهجوم على هذه النخب وفسادها؛ مما يؤثر في مسار العملية العسكرية، ويكبد الجانب الروسي خسائر كبيرة[1]؛ مما جعله يتوجه إلى مدينة روستوف ويسيطر عليها في “مسيرة من أجل العدالة”، وليس “للانقلاب العسكري”، وهو ما اعتبره- في المقابل- الرئيس الروسي، الذي انحاز إلى وزير دفاعه في خطابه، “تمردًا” “وخيانةً” و”طعنة في ظهر روسيا” يجب “الرد عليها بصرامة”، حتى تدخل الرئيس لوكاشينكو وعرض وساطته التي قبلها بريغوجين، وأوقف تمرده، ووجه قواته إلى أوكرانيا في مقابل ضمانات وتنازلات لا تزال غامضة، وقد تمثل المعلن من هذه الضمانات في توجهه إلى بيلاروس، مع إسقاط التهمة التي وجهت إليه، وإعفاء من كان معه من المتمردين، ليلحق ذلك اتخاذ بوتين إجراءات تضمن إنهاء الوجود الفعلي لشركة فاغنر، ونقل ملكيتها إلى وزارة الدفاع الروسية، في الوقت الذي يتفاوض فيه مع قادة فاغنر من أجل استكمال الاستفادة من مقاتليهم في معركة أوكرانيا[2].
هذه الأحداث لا يزال لها نصيب كبير من الغموض والتناقض، خاصة بعد اسقاط طائرة مروحية لقي على إثرها بريغوجين وأوتكين، مؤسسي شركة فاغنر مصرعهما، لكن الواضح هو أنها تنذر بتغييرات جوهرية في الداخل الروسي، هذه التغييرات لا يمكن فهمها إلا من خلال فهم طبيعة النظام السياسي الروسي، والنمط الذي تنبني عليه شبكات النخب الروسية وممن تتكون.
برغم تحديث الدولة الروسية في ستينيات القرن التاسع عشر[3]، وتعميق التحديث بعمق في الحقبة السوفيتية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، فإن الشق السياسي في الدولة استمر في كلتا الحقبتين على النمط الإمبراطوري المتوارث، الذي تولد عن التربة السياسية الروسية نتيجة فهم آليات عمل الساحة السياسية في هذه البيئة.[4]
وأعني بالإمبراطورية وجود نظام حكم يسيطر على مساحة جغرافية كبيرة، يقطنها سكان متعددو الأعراق، يُحكَمون من خلال جهاز بيروقراطي ذي طابع عسكري معقد، وتطلعات جيوسياسية تتجاوز حدود هذا النظام، بالإضافة إلى كونه منظمًا تنظيمًا هرميًّا تهيمن فيه نخبة المركز على الأطراف، ويضيف بعد المنظرين أنها تكون ضرورة سياسية في بعض السياقات التي تستخدمها كوسيلة سياسية لإدارة الواقع الاجتماعي[5].
الإمبراطورية بهذا المعنى لطالما كانت موجودة في روسيا، سواء القيصرية أو السوفيتية، فنظام الحكم الأحادي المركز، الذي يوجد بداخله جهاز تحكم مركزي يرؤسه رئيس ذو شخصية كاريزماتية تحيط به شبكات نخبوية، كان هو النمط الذي تريد النخب الروسية إعادة إنشائه في روسيا، وهو الموجود اليوم بكل صفاته في روسيا اليوم، من دون إضفاء رسمي لاسم إمبراطورية على الاتحاد الروسي.[6]
فبعد فشل تجربة الرئيس يلتسن في محاولة دمج البلاد في حركة العولمة، من خلال الخصخصة، أو ما قد يسمى- بالتغريب- وهو ما أدى إلى انهيار سياسي واقتصادي واجتماعي، وانتشار للفوضى والفساد حول النخب الأوليغارشية التي كونت ثروات كبيرة من وراء هذا الفساد، وهو ما لم تكن الأجهزة الأمنية راضية عنه تمامًا حتى جاء الرئيس فلاديمير بوتين للسلطة من خلفية أمنية، وصاحب قدرة على حل أزمات القوى المختلفة في الدولة الروسية، وجمع كلمتهم حوله من خلال التقاليد المتعارف عليها في الإمبراطورية الروسية.[7]
فهذه التقاليد- وإن كانت استبدادية- تمكن الحكام من تعزيز السلطة، وتوحيد الصف الداخلي، مما يمكن الإمبراطورية من تعبئة الموارد، وتنفيذ مشروعات تنموية، تكون في الغالب غير مستدامة؛ وإنما تحقق أهدافًا جزئية للدولة. ومع ذلك، فالإمبراطورية كما كانت توفر مركزية شديدة جدًّا في يد الحاكم فإنها كانت تعاني الهشاشة في أوقات الشدة، مما جعل هناك نمطًا معينًا تدور في فلكه مختلف الإمبراطوريات الروسية، وهو النمط نفسه الذي عايشته “إمبراطورية بوتين”.[8]
يلاحظ التاريخيون الروس أن النظم الإمبراطورية المتعاقبة في روسيا تعيش دورة حياة متكررة في مختلف الإمبراطوريات، إذ تمر الامبراطورية بثلاث مراحل أساسية تبدأ بـ:
١- التوحيد السياسي للسلطة في المركز لتركيز الموارد الاقتصادية والعسكرية.
٢- تدهور وتنامٍ للصراعات داخل النخب.
٣- الانهيار النهائي الذي يكون نتيجة صراع سياسي حاد تهرب فيه النخب من مركب مركز الدولة التي تكون في حالة من المعاناة في ممارسة الحكم الناتجة عن تخلي النخب عنها، وهو ما ينتج عنه تحلل عقد الدولة التي يمسك بها هؤلاء النخب من خلال شبكاتهم[9]. نجد هذه المراحل الثلاث تنطبق على حقبة بوتين، وإن لم نصل إلى المرحلة النهائية فإن بوتين مدرك لهذه المراحل، وحذر من أن يقع في الهاوية التي لطالما وقع فيها أسلافه.
فنجد المرحلة الأولى من حكم بوتين تبدأ بتوحيده مركز السلطة، ونثر شبكات النخب المركزية رجالها في أنحاء الاتحاد الروسي، لكن بعد أن قام بالعقد الاجتماعي الذي ينظم مختلف القوى الداخلية في روسيا، فبوصول بوتين إلى السلطة وتسلّمه إياها من سلفه الرئيس يلتسن، أدرك وجود فاعلين رسميين وغير رسميين يؤديان دورًا كبيرًا جدًّا في الدولة الروسية؛ ألا وهما الأوليغارشية التي تكونت في عهد يلتسن، والعصابات الروسية. وقد أرسى فلاديمير بوتين دعائم حكمه من خلال الاتفاق على عقد اجتماعي جديد مع هذه القوى، يُسَخَّرون بموجبه في يد الدولة؛ لما سيكون لهم من أدوار مهمة جدًّا في تأدية مجموعة من المهام التي يجب إنجازها من دون التدخل الرسمي للدولة الروسية.[10]
وقد اشتمل هذا العقد على توفير حرية الانتقال للمافيا بين الأدوار الرسمية وغير الرسمية، بل قد يسمح لهم بخرق العقوبات والاتجار في كل شيء تقريبًا، وابتزاز الألوليغاركية بما يعلمه من خلفيته الأمنية، فهو يوفر لهم المحافظة على ثرواتهم في مقابل إفساحهم الطريق في وجهه، والعمل تحت إمرته في المشروعات التي يريد منهم تمويلها، وإلا سيُقصَون أو يُسجَنون، ليكونوا مع غيرهم الأساس الذي يعتمد عليه بوتين في حكم الدولة الروسية.[11]
تنوعت الأدبيات التي تعرف ماهية النخب السياسية، ومنها تعريف الدكتور كمال المنوفي، باعتبارها: “مجموعة الأفراد الذين يمتلكون مصادر وأدوات القوة السياسية في المجتمع”[12]. ويمكننا في السياق الروسي أن نوضح التعريف أكثر باعتبارنا نتحدث عن مراكز الشبكات التي تحيط بمركز السلطة ورأسها الذي يعتمد عليها في الحكم والسيطرة على شتى أنحاء الدولة، بالإضافة إلى الدور الذي يؤدونه في التأثير على رسم القرار السياسي وصنعه وتنفيذه، فقد نتج عن التفاعلات والتسويات السياسية التي أقامها بوتين بداية حكمه، بالإضافة إلى التطورات التي طرأت على النظام بتعاقب السنوات، شكل معين للنخب الروسية التي يمكن أن نفهم من خلالها كيف يُحكَم الاتحاد الروسي. ورغم وجود عدة تصنيفات لهذه النخب فإن هذه الدراسة تعتمد على تقسيمة الدكتور بيتر روتلاند، للنخب الروسية باعتبارها: “تتكون من أربعة مكونات رئيسة، ويمثل الأفراد داخل هذه المكونات شبكات اجتماعية غالبًا ما يكون رأسها في موسكو، ورجالها وتفاعلاتها تتم في مختلف أنحاء الاتحاد الروسي”. هذه المكونات مختلفة في طبيعتها، وفي الأفكار السائدة بين كل منها، كما يلاحظ أن الأفراد داخل هذه التكوينات ليسوا شكلًا جامدًا وحصريًّا، بل إنه من الممكن أن يشترك الأفراد في أكثر من مكون نخبوي، كما يمكن أن ينتقلوا من مكون إلى آخر كتالي[13]:
وهم الأفراد الذين جاء بهم بوتين مع توليه الرئاسة، الحائزون ثقته، ممن كانوا حرسًا له، أو عملوا معه من قبل في المخابرات الروسية، وهذه الفئة تنقسم- بدورها- إلى فئتين؛ الأولى: هي الحاشية أو السكرتارية التي تكون مهمتها الأساسية تنظيم عمل الرئيس من: دعم لأنشطة رئيس الدولة، وتحضير الجداول الزمنية لمهامه، والتحضير للاجتماعات وتنظيمها، بالإضافة إلى إطلاعه على المستجدات يوميًّا، كما أنهم مسؤولون عن الراحة النفسية للرئيس، وهي أدوار تجعلهم في غاية الخطورة والأهمية، وهم بالفعل يكتسبون سريعًا وزنًا سياسيًّا، وتأثيرًا فعليًّا في تنفيذ المهام التي يحددها الرئيس الروسي، وإن كانت قدرتهم على الإبداع أو صنع السياسة العامة محدودة جدًّا.[14]
أعضاء هذه النخبة هم على اتصال دائم ببوتين، ويتسمون بالولاء الشخصي الوثيق للرئيس، وغالبًا ما لا تكون لديهم خبرة سياسية، لكنهم يكونون منغمسين في العمل يوميًّا، كما أنه يغلب عليهم ألا يكون لديهم طموح سياسي أو أطماع، ومع ذلك هم الذين يتقلدون المناصب الكبرى، وغالبًا ما نجدهم ينتقلون من الحاشية إلى مناصب قيادية في جهاز الدولة، ومثال ذلك أليكسي كوردست، الذي أصبح وزيرًا للمالية، أو جيرمان جريف الذي كان وزيرًا للاقتصاد، أو المثال الأبرز، وهو مدفيديف الذي كان رئيسًا للجمهورية، كما كان رئيسا للوزراء.[15]
الفئة الثانية من الدائرة المقربة إلى بوتين هم الذين يظلون مقربين من بوتين حتى بعد خروجهم إلى مناصب أخرى خارج الحاشية، وتشتمل على عدد من الأسماء، منها رئيس مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، ونائبه، والرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس بنك روسيا يوري كوفالتشوك، الذي كان مقربا من يفغيني بريغوجين[16].
هذه النخبة هي الأضعف في بنية النخب الروسية؛ نظرًا إلى دورها الضئيل في التأثير في القرار السياسي، واقتصارها على تمويل أو تنفيذ المشروعات التي تريدها الدولة، أما ما دون ذلك، فالعلاقة بين الطرفين غير قائمة على الثقة، وهم المعروفون بميلهم إلى الغرب، وهم الذين ظهرت معارضتهم الضمنية والعلنية للعملية العسكرية الخاصة، وهم من أمثال ميخائيل فريدمان، ورومان أبراموفيتش.[18]
أما الفئة الأخرى فهي فئة أصحاب الشركات الخاصة الذين ظهروا في فترة لاحقة على تشكيل بوتين لمركز السلطة والشبكات من حوله، وتقوم علاقتهم ببوتين على أساس تقديمهم خدمات سياسية غالبًا ما تكون مهام تقع على عاتق الدولة أساسًا في مقابل مطالب ورعاية سياسية تسمح لهم بالترقي في هيراريكية السلطة، مثل بناء أركادي روتنبرغ جسر القرم، وكخدمات شركة فاغنر العسكرية التي سنوضح دورها وخدماتها للدولة الروسية. وتبرز ميزة هذه الشركات في أن لهم موارد مالية ضخمة؛ مما يجعلهم أقل اعتمادًا على الدولة الروسية، على عكس الفئة الأولى الحكومية[20].
وهم المسؤولين الذين يحوزون المناصب العليا في الجهاز الحكومي لإدارة الدولة، وقد أصبح هذا الجهاز أكثر ضخامة في عهد بوتين عما كان قبله، مع استمرار الآلية نفسها لتدريب البيروقراطيين كما كان في الحزب الشيوعي، لكن مع تعديل اسمه إلى أكاديمية الاقتصاد الوطني وخدمة الدولة. كما أن بوتين قد أدخل إصلاحات إلى الجهاز الإداري، وحسّن رواتب العاملين فيه؛ مما يجعله أكثر جذبًا، خاصة للشباب، لكن الأفراد داخل هذا الجهاز يكتسبون قوتهم من خلال مناصبهم الرسمية، وغالبًا ما يفقدونها بعد أن يتركوا هذه المناصب، ويلاحظ أن هناك بالفعل بعض النخب التي تنفر من هذا الجهاز، مثل سيرغي إيفانوف، على أساس أن العمل فيه روتيني، ويحتاج إلى جهد كبير دون امتيازات شخصية لصاحبها كغيره من الأجهزة، وينقسمون إلى البيروقراطيين على المستوى الفيدرالي، من أمثال رئيس الإدارة الرئاسية أنطون فاينو، ورئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، ورئيس البنك المركزي إلفيرا نابيولينا، وآخرين.[21]
بالإضافة إلى البيروقراطية الإقليمية، التي أعاد بوتين تنظيمها في إصلاحات عام 2001، التي أعاد فيها تركيز السلطة في يد موسكو بعد قدر من اللا مركزية التي حصلت عليها الأقاليم، وعيّن رؤساء هذه الوحدات المحلية- على اختلافها- من أشخاص ذوي خلفية أمنية، وتشمل هذه النخب رؤساء المناطق التي لها أهمية سياسية واقتصادية للمركز الفيدرالي، مع استثناء بعض الأسماء البالغة القوى، مثل عمدة موسكو سرغي سوبيانين، ورئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف[22].
وهي أهم مكون في النخب الروسية، ورغم صعوبة الترجمة الدقيقة لهذه الكلمة فإنها تدل على الرجال التي بيدهم القوة، إذ تشتمل على قادة جميع الأجهزة الأمنية في روسيا؛ مما يجعلهم- بالنسبة لكثير من التحليلات- النخبة الحقيقية، ورجال السلطة الأقوى. وتبرز أهمية هذه النخب في صعود بوتين أساسًا، إذ هو نفسه كان ينتمي إليها، وهي التي دعمته للوصول إلى السلطة، وتضم وزير الدفاع سيرغي شويغو، ونيكولاي باتروشيف الرئيس السابق للمخابرات، والسكرتير الحالي لمجلس الأمن القومي الروسي، بالإضافة إلى إيغور سيتيشن، نائب رئيس الوزراء السابق، وغيرهم. هؤلاء النخب مرتبطون- ارتباطًا وثيقًا- ببوتين، وتجمعهم أيديولوجية ومجموعة من القيم التي تربطهم بعضهم ببعض، وهي الوطنية، والرغبة في إعادة شعار “روسيا العظمى”، وهو ما يجعل الشبهات تدور حول هذه النخب بزعم أنهم يؤججون مخاوف الرئيس بوتين لكي يجدوا لأنفسهم أهميةً وأدوارًا يظلون بها في مكانهم، ومحتفظين بامتيازاتهم.[23]
ونستطيع أن ندلل على أهمية هذا الجهاز من التعيينات التي حصل الأفراد المنضمون إليه في الوحدات المحلية الروسية، وغيرها، مما يؤكد الاستقلالية الكبيرة التي تتمتع بها هذه النخب، والدرجة العالية من التأثير في اتخاذ القرار، وخاصة إذا تعلق الأمر بالسياسة العسكرية، فقد ذهبت بعض الدراسات آخذة في اعتبارها الكم معيارًا لدراسة النخب الروسية، فوصلت إلى أن النخب الروسية هي برجوازية وليست أمنية على غير المعروف والشائع، لكنها قد جانبها الصواب؛ لأن النخب إنما تقاس حسب قوتها، بمعنى تأثيرها في اتخاذ القرار، وليس بعدد رجال كل مكون من مكونات النخبة؛ وعليه فالمكون الأمني هو الأقوى بين النخب الروسية، وهو الذي يجب أن يؤخذ في الحسبان قبل أي مكون آخر في النظام السياسي الروسي[24].
وكما نرى من هذه المكونات الأربعة، فهي تجمع بين النخب الرسمية وغير الرسمية، وغالبًا ما ترتبط النخب غير الرسمية بمؤسسات النظام عن طريق تعيين رجالهم في بعض المناسب الرسمية، وهكذا نرى أن الفارق الأساسي الذي أدخله بوتين، ولم يستطع يلتسن القيام به، هو إضفاء الطابع المؤسسي على تفاعلات النخبة، مما يمكنهم من العمل، فنجد أن النخب غير الرسمية يمكنها تحويل القواعد المؤسسية، أو تعديلها، أو حتى إلغاؤها وتجاوزها وفقًا لما لكل مؤسسة غير رسمية مما اصطلح على تسميته في روسيا بالوزن البيروقراطي غير الرسمي، وهو ما قد يؤدي إلى تضارب في مصالح المؤسسات المختلفة والنخب المتعارضة على المدى الطويل في حال فشل القيادة في التحكم في هذه المؤسسات، ومع ذلك فقد ظلت النخب الروسية حتى عام 2014، متماسكة جيدًا تحت قيادة بوتين[25].
إن السبب الأول والمعروف في أدبيات النخب السياسية هي أنها تكون متماسكة إما لاتفاق وإيمان على أيديولوجية معينة، وإما بسبب توافق هذه النخب على معادلة ما تحقق لكل منهم مطالبه[26]. فبداية بالأيدولوجية، فإن اعتماد بوتين على النمط الإمبراطوري في الحكم جعله- من بداية حكمه- يعتمد اعتمادًا رسميًّا على الثقافة الروسية وروحها كأساس لحكمه في مواجهة الغرب، وهو ما تطور لاحقًا في المشروع الأوراسي الذي جعله يتجاوز حدود الدولة الروسية، ويسعى في تحقيق مشروعه الإمبراطوري، لكن هذا لم يكن هو أساس تماسك هذه النخبة المتباينة[27].
أما السبب الثاني، وهو التوافق، فهو ما كان في روسيا بوتين؛ إذ جمعت هذه النخب قبضة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أساس عدة اعتبارات وهي:
وقد وصل نظام بوتين إلى المرحلة الثانية في دورة حياة الإمبراطوريات التي يتم فيها تدهور وتنامٍ للصراعات داخل النخب الروسية منذ عام 2014، إذ يمكننا تقسيم المراحل والمحطات التي مرت بها النخب في عهد بوتين إلى ثلاث: التماسك حتى 2014، ثم ظهور التفكك داخل النخب في عام 2014، ثم إعادة الترميم قبل الانهيار الكامل في 2023. وقد بدت أعراض التفكك في المرحلة الثانية ومظاهره على النحو التالي:
توسعت الدولة الروسية في مارس (آذار) 2014، وفقًا لمنطقها الإمبراطوري؛ لتحقيق أطماعها الإمبريالية، بضم شبه جزيرة القرم التي ستكون نواة لبدء العملية العسكرية الخاصة فيما بعد، وقد أدى هذا الضم إلى عقوبات أثرت في الاقتصاد الروسي، الذي يعاني أساسًا الهشاشة؛ بأن أضافت إليه التضخم والركود الحاد، وهو ما أدى إلى قلق النخب الأوليغارشية التي فرض عليها عقوبات جعلت بعضهم، مثل إبراموفيتش وفريدمان من يحاولون التوسط لحل الأزمة، وقد ظهر ثاني هذه المؤشرات في ظهور فعالية بعض النخب التي تقع في مكانة أدنى ممن هم أقل منهم كفاءة وفعالية؛ ومن هنا بدأت فكرة تحقيق العدالة التي تحدث عنها بريغوجين باعتبارها هدف مسيرته.[30]
وصولًا إلى المحطة الثالثة في العملية العسكرية الخاصة، وما صاحبها من أوقات شدة حقيقية على النخب، ظهرت فيها مؤشرات الانتقال إلى مرحلة الانهيار النهائي لإمبراطورية بوتين، إذ بدأت بعض النخب تعارض العملية العسكرية الخاصة صراحة، مثل أوليغ تينكوف، وفريدمان، وغيرهما من النخب الأوليغارشية القدامى، فضلًا عن استمرار النخب الذي تطالب بتحسين وضعها في هيراريكية السلطة داخل روسيا؛ مما جعلهم يدخلون في صراع مع من يرون أنفسهم أحق بمناصبهم، وهو المدخل الذي يمكننا من خلاله قراءة المرحلة الثالثة، وتمرد قوات فاغنر على ضوئه، وعلى ضوء موقع بريغوجين في هيكلية النخب الروسية، ومدى قربه من الرئيس الروسي، وفهم خطابات بوتين الأخيرة وإجراءته لمحاولة ترميم النظام الروسي؛ منعًا لانهياره، وتمهيدًا للانتقال إلى خليفته.[31]
إن النمط الإمبراطوري لفلاديمير بوتين في الحكم غالبًا ما كان يتخلص من أزمة الانتقال من حاكم إلى آخر عن طريق الوراثة، وهو ما لم يعد ممكنًا في ظل النظام الجمهوري الحالي في روسيا، وهو ما يجعل نظام بوتين يعاني القيود التي كانت أساسًا في قيامه، إذ إن الاعتماد على بوتين قائدًا ووسيطًا بدلًا من إنشاء نظام مؤسسي مستدام، يعمل بغض النظر عن الأشخاص الموجودين في السلطة، بالإضافة إلى أزمة فاغنر التي وضحت الصراع الداخلي الكبير بين النخب الروسية، وهو ما يعقد من إمكانية اتفاقهم على خليفة لبوتين، ويجعل عملية الانتقال في غاية الصعوبة والتهديد لاستقرار الدولة.
وهو ما كان بوتين قد بدأ بالتحضير له بالفعل من قبل حتى بدء الحرب؛ من خلال خطوتين أساسيتين، تمثلت الأولى في أن يستبدل بالنخب التي تعاني الشيخوخة، التي لا يستطيع الاعتماد عليها بسبب سنها من جيله جيل الخمسينيات، نخبًا أخرى أصغر سنًا، وأقدر على تحمل أعباء الحكم، وتدين له بالولاء ولو لم يكن الرئيس. وثانيًا: تعديل الدستور الروسي، وإضفاء صلاحيات جديدة لبوتين تسمح له بالتحكم فيمن يخلفه، وتمهد لئلا يخرج عن سيطرته؛ من خلال مقعد دائم لرئيس الجمهورية في مجلس الأمن الروسي، والحصانة القانونية، بما يمكنه من شغل عدد من المناصب الرسمية الرئيسة من أجل إنشاء نظام من الضوابط والتوازنات من شأنه تقييد خليفة الرئيس المستقبلي من اتباع سياسة مستقلة عن سياسة بوتين السابقة[32].
وقد استطاع بوتين توظيف تمرد فاغنر في تصفية النخبة ممن قد يعوقون الوحدة الداخلية الروسية في مواجهة الهجوم المضاد من القوات الأوكرانية، ويهربون إلى الغرب؛ مما يؤدي إلى الانهيار الداخلي للدولة الروسية، وهو ما حدث بالفعل من خلال هروب بعض المسؤولين الحكوميين فور تمرد فاغنر؛ ومن هنا حقق هذا التمرد أغراضًا في مهمة جدًّا لنظام بوتين، تتمثل في إيصال مجموعة من الرسائل والتحذيرات إلى النخب الداخلية في روسيا، وتذكيرهم بعواقب الخيانة التي ستؤدي إلى الانهيار النهائي للنظام، وكشف الخونة الموجودين فعلًا داخل النخب الروسية ممن سيفرون فعلًا في أوقات الأزمات[33].
وخلاصة القول إن هذه الأزمة تظهر المعاناة التي يعانيها النظام الروسي بسبب اعتماده على الأشخاص بدلًا من المأسسة السليمة التي تضمن الانتقال الآمن للسلطة، وسلاسة ممارستها، بغض النظر عن الأشخاص. كما برزت أهمية هذه الأزمة في ضوء التمهيد للانتقال إلى حقبة ما بعد بوتين، سواء أكان في الانتخابات الرئاسية في عام 2024، أم ما بعدها، وفقًا لتقدير الرئيس الروسي، فقد كشفت عن أن الضعف يتخلل الصفوف الداخلية للدولة الروسية، كما كشفت عن اهتزاز قبضة بوتين القابضة على نخبه، في وقت بالغ الصعوبة على الدولة الروسية، وهو ما يعقد من مهمة خليفة بوتين، الذي لا يمكن تحديده بوضوح من بين الأسماء الكثيرة التي تطرح كبدائل مختلفة، لكن هناك مجموعة من الشروط المتفق على وجوب توافرها فيه، ومنها أن تتوافر فيه التي كانت متوافرة لدى بوتين في بداية حكمه؛ من اتفاق جميع النخب عليه، مع قدرة على ابتزاز شبكات النخب المختلفة، واعتقال أعضاء هذه الشبكات، كما أنه لا يمكن أن يكون أي شخص ذا خلفية غير أمنية، بعبارة أخرى، يجب أن يكون من مجموعة السيلوفكي الأقوى في روسيا، أو من اختيارهم في أقل تقدير، كما أنه من المرجح أن يكون من جيل السبعينيات. ورغم الصعوبة البالغة في الدفع بأي اسم، والجزم بخلافته لبوتين، فإنه ينبغي أن تتوافر فيه هذه الشروط على الأقل.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.