تحدثنا في المقال الأول من هذه السلسة عن “تاريخ الترك“، ومن أين جاءوا، وما الفروق فيما بينهم، وكيف بدأت علاقتهم مع العرب، وخصائص الشخصية التركية، ونكمل اليوم سلسلة مقالاتنا بالمقال الثاني عن منظومة الحكم والسياسة لدى الترك، وكيف أثرت في العرب، وما تركوه من ميراث سياسي ترسخ عبر قرون وضعوا فيها العرب تحت قبضتهم الحديدية.
بعد هجرة رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب، التي سُميت فيما بعد “المدينة المنورة”، بدأت أولى المعارك الحربية بين المسلمين من المهاجرين معه من أهل مكة، والأنصار ممن آمنوا برسالته من أهل “المدينة”، فيما سُميت غزوة بدر عام 624م، ثم توالت الحروب والغزوات بين الطرفين، وبعض القبائل العربية المتمردة وصولًا إلى فتح مكة عام 630م، ثم وفاة الرسول محمد -عليه الصلاة والسلام- عام 632م، وتولي أبي بكر الصديق الخلافة من بعده، حيث تمردت بعض القبائل العربية على حكمه، ومنهم من خرج من الإسلام، ومنهم من ادعى النبوة وأتى بدين جديد، وفي هذه المرحلة بدأت ما سُميت “حروب الردة” لمدة سنة كاملة، وانتهت بانتصار دولة المدينة عام 633م. بدأت بعدها حركة الفتوحات الخارجية، والتطلع إلى ممتلكات الإمبراطورية الفارسية الساسانية شرقًا، والإمبراطورية البيزنطية شمالًا، وأكمل عمر بن الخطاب ما بدأه أبو بكر، ثم عثمان، وصولًا إلى علي بن أبي طالب، ونهاية دولة الخلفاء التي اصطلح على تسميتها تاريخيًّا “دولة الخلفاء الراشدين” عام 661م، والتي ضمت ما عدده الآن (31) دولة، بمساحة تقدر بنحو (6.400.000) كيلو متر مربع، كان من ضمنها بعض بلاد الترك ما خلف نهر جيحون. في هذه الفترة كان التجنيد بالجيش العربي محصورًا في القبائل العربية التي دخلت الإسلام، ويتولى زعامته قيادات من قريش وأهل المدنية السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، ويعاونهم في بعض الأحيان أعراق غير عربية ممن اعتنقوا الإسلام، أو من “المتعاونين” المحليين؛ نظير حماية أو مكتسبات خاصة، وكان نظام التجنيد قائمًا على عقيدة الجهاد، وأنها أحد أعظم الأعمال التي يمكن للمسلم القيام بها بعد الشهادتين، فإذا نال النصر فسيحظى بعز الدنيا من أموال، وجوارٍ، وضياع، وغيرها من الغنائم، وإذا قُتل في المعركة فهو شهيد، والشهيد يدخل الجنة بدون حساب، ليحصل فيها على كل ما يريد من ملذات بلا تعب، في خلود دائم لا ينتهي.
ظل وضع الجيش العربي المسلم في توسعه بالفتوحات على ما هو عليه في أثناء حقبة الدولة الأموية التي استمرت (89) سنة، من عام 661 إلى عام 750م، وكان أول خلفائها معاوية بن أبي سفيان، وقد ضمت ما عدده الآن (45) دولة، بمساحة تقدر بنحو (11.100.000) كيلو متر مربع، لكن هناك مستجدات طرأت على هذا الجيش، فكان التجنيد يتم في أثناء دولة “الخلافة الراشدة” طواعية، ولا وجود لجيش نظامي للدولة، في حين أسس معاوية نواة جيش نظامي، وشرطة، وحرسًا شخصيًّا، ونقل كل ما كان لدى الروم البيزنطيين من بروتوكولات وأنظمة حكم بعدما انتقلت عاصمة الدولة إلى دمشق بالشام، وكان يتطوع في هذا الجيش باقي العرب في أثناء الحملات العسكرية الكبرى، وضم في صفوفه بعد الروم البيزنطيين، والسريان، والمصريين، والأمازيغ، والترك، والهنود من بلاد السند (باكستان) ممن دخلوا في الإسلام، ولكن بأعداد قليلة غير مؤثرة، كما استعان بعض الولاة في بلاد الترك خلف نهر جيحون ببعض الجنود الترك المتحالفين مع الدولة لردع بعض القبائل التركية المتمردة ودحرها، وبدأ يُستعان بالجند الترك في بعض الأعمال العسكرية داخل الدولة، وكان أبرزها إخماد “فتنة” الحارث بن عبد الرحمن بن سعيد الدمشقي، الذي ادعى النبوة في الشام[1]، وكان يمتلك قدرة على صنع الخوارق حتى صدقه كثير من الناس، وخشي بعض الجند من مواجهته، فتمت الاستعانة بالترك الذين قبضوا عليه وعلى من معه، وسلموه للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. وخلافًا لهذا لم يكن لهم دور يذكر، ولا أي وجود مؤثر داخل الدولة الأموية.
بدأ دور الترك يظهر على الساحة العربية- الإسلامية مع تولي العباسيين السلطة عام 750م. حكم العباسيون، وهم أحفاد عبد الله بن العباس عم الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- من خلال قيامهم بثورة على الحكم الأموي، وقد بدأ الإعداد لهذه الثورة منذ خلافة عمر بن عبد العزيز الأموي، عام 717م، حيث بدأت كدعوة سرية يقودها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، تدعو المسلمين إلى الثورة على الحكم الجائر لبني أمية، على أن يختاروا بعد إسقاطهم مَن يرتضونه من آل محمد ليكون خليفة لهم، وعندما سأله نقباء الدعوة وهم قادتها في أي الأماكن نبدأ بالدعوة السرية للثورة بين الناس، فتح رقعة عليها خريطة للدولة الأموية وقال لهم: “أما الحجاز فأهله لا يعرفون إلا حبّ أبي بكر وعمر، أما البصرة وسوادها فقد غلب عليها عثمان وصنائع عثمان، فليس بها من شيعتنا إلا القليل، وأما الكوفة وسوادها فقد غلب عليها علي وشيعته، وليس بها من شيعتنا إلا القليل، وأما الشام فشيعة بني مروان وآل أبي سفيان، وأما الجزيرة فحرورية وخارجية مارقة، ولكن عليكم بهذا الشرق، فإن هناك صدورًا سليمة، وقلوبًا باسلة لم تفسدها الأهواء، ولم تخامرها الأدواء، ولم تعقبها البدع، وهم مُغيظون موتورون، وهناك العدد والعدة والعتاد والنجدة، ثم قال: وأنا أتفاءل إلى حيث يطلع النهار”. كانت سياسة العباسيين تعتمد على استغلال ظلم الولاة الأمويين، واحتقارهم للفرس والترك في أرض خراسان الكبرى، وإمكانية صنع ثورة في هذا الأراضي سريعًا من خلال وعد سكانها بأنهم إن ناصروا إمام الرضا من آل محمد، فإنه عندما يتولى الخلافة سيساويهم بالعرب في الرتب والمنزلة، ويُنهي العصبية القبلية العربية، ويُرسي المبدأ الإسلامي بالمساواة القائم على الآية القرآنية {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[2]. بالفعل نجحت ثورتهم ووصلوا إلى السلطة، وكان جيش الدولة في هذه المرحلة يتكون من قادة عرب وفرس، وجنود من الترك؛ ومن هنا بدأت الحكاية، وأصبح للترك وجود قوي داخل الدولة، لكنه مقتصر على الجنود والجانب العسكري لا أكثر، وتحت قيادة العرب والفرس، وقد نحى العباسيون العرب من قيادة الدولة؛ لما رأوه من صراع قبلي فيما بينهم، وتنافس لا ينتهي، كان أحد أهم الأسباب في سقوط الحكم الأموي، وكانت نظريتهم تعتمد على الاستعانة بالفرس والترك؛ لأن ولاءهم سيكون حصرًا لبيت الخلافة العباسي، ومع مرور الوقت أصبح الترك هم غالبية الجند في الجيش النظامي العباسي في ظل نظام تجنيد تختار الدولة فيه من ينضم إلى صفوف الجيش، وليس تطوعًا أو متاحًا لجميع الراغبين الانضمام إليه، أو حصرًا على العرب كما كان من ذي قبل في ظل الحقب الأربع (حقبة الرسول – حقبة الخلفاء الأربعة – حقبة الأمويين – حقبة العصر العباسي الأول). في ذلك الزمان، لم يكن للعسكر مؤسسة مستقلة عن سلطة الحكم، ولا دور لهم في الشأن السياسي وصراعاته، وكانت طاعتهم مطلقة للحاكم صاحب الشرعية.
كما أسلفنا في مقالنا السابق، كان الترك قوم بداوة وتنقل وترحال، وقد وصفهم الجاحظ في (كتاب الرسائل) (قسم مناقب الترك) قائلًا: “الترك أصحاب خيام، وسكان فيافٍ، وأرباب مواشٍ، وهم أعراب العجم، فحين لم تشغلهم الصناعات والتجارات والطب والفلاحة والهندسة، ولا غرس ولا بنيان ولا شق أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن همهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخرة ومقصورة عليها وموصولة بها، أحكموا ذلك الأمر بأسره وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم ولذتهم وفخرهم وحديثهم وسمرهم”[3]. يوضح الجاحظ، المولود عام 776م، في رسالته، مدى التراجع العلمي والفكري والسياسي لدى الترك، وأن صنعتهم الوحيدة التي كانوا بها يعيشون هي تربية المواشي، والقتال والحرب، واستيطان أراضي الغير؛ ولذلك كان النظام العسكري، وفكرة المؤسسة العسكرية عريقة وعتيقة لدى الشعوب التركية، وجميع الإمبراطوريات والدول التي أسسوها كانت قائمة على القوة العسكرية حصرًا، وبينما لم يكن لديهم أي دراية بشؤون السياسة، ولا تنظيم الحكم، كان لديهم نظام عسكري صارم ومنظم جدًّا، والحكم والرياسة محصورة فيمن يمتلك العدد الأكبر من العساكر، وهو ما يختلف تمامًا عن المنظومة العسكرية العربية التي بدأت مع الرسول محمد -عليه الصلاة والسلام- منذ غزوة بدر 624م حتى نهاية العصر العباسي الأول عام 847م. ولمن يرغب في التوسع بدراسة تاريخ الترك العسكري أنصح بكتاب “الأتراك في تاريخ العالم: The Turks in World History”، للبروفيسور في قسم التاريخ بجامعة أوهايو، كارتر فون فيندلي (Carter Vaughn Findley).
لم يكن للعرب في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام دولة مركزية، ولا إمبراطوريات خارج نطاق وجودهم الجغرافي، ولا سعوا في أي مرحلة من المراحل للاستيلاء على أراضي الآخرين، والأسر العربية التي حكمت في الشام مثل الغساسنة، وفي العراق مثل المناذرة، كان حكمهم نابعًا من توافق بينهم وبين الإمبراطوريات الكبرى، ونتيجة استيطانهم في هذه الأراضي منذ زمن بعيد، فوجد الروم البيزنطيون في الغساسنة، والفرس الساسانيون في المناذرة، حلفاء جيدين، وجيدرين بالحكم باسمهم في هذه المقاطعات التي يشكلون فيها أغلبية سكانية، ولكي يشكلوا أيضًا عنصر أمان وحماية لطرق التجارة. كما أن العرب لم يكونوا بعيدين عن الحضارة، وبجوارهم حضارات كبرى، ولديهم ارتباط قوي بها عبر الاستيطان والتجارة، فأهم طريق تجاري في القرن السابع الميلادي قبل ظهور الإسلام كان يمر من شبه الجزيرة العربية، وهو طريق البخور والتوابل التي تأتي من شبه القارة الهندية إلى اليمن جنوبًا، إلى جانب بضائع القرن الإفريقي، ومنها إلى الحجاز ثم نجد والعراق شرقًا، وشمالًا إلى الشام ومنها إلى القسطنطينية، ومصر ومنها إلى روما وشمال إفريقيا؛ مما مكنهم من الاحتكاك والتعامل مع كل هذه الحضارات الكبرى، والاختلاط بسكانها، وجلب بضائعها المهمة، إلى جانب حكمهم أجزاء من العراق والشام.
كذلك تمكن العرب من التعرف على جميع الأفكار الدينية التي كانت تموج بها الساحة العالمية في الشرق، بل لم يكن من مكان تجتمع فيه جميع الأديان والمذاهب والطوائف، وتعيش في أمن وسلام سوى شبه الجزيرة العربية، حيث إن المصلحة التجارية هي الحاكمة في العلاقات مع الآخرين، ولا مكان لعنصرية عرقية أو كراهية دينية فيها، ولا سلطة مركزية لها دين رسمي تفرضه على رعاياها، أو تلاحق غير المؤمنين به. أيضًا لم تكن شبه الجزيرة العربية تخضع لسلطة أي من الإمبراطوريات المتصارعة فيما بينها، وتحديدًا الفرس والروم، فكانت الملاذ الآمن والمثالي لكل أصحاب الأفكار الدينية المضطهدة الراغبين في ممارسة عقائدهم دون خوف أو ملاحقة، إلى جانب قدرتهم على العمل التجاري بحرية وإمكانية تحقيق الثروة. على سبيل المثال، جميع الأفكار والعقائد والأناجيل المسيحية غير المتفقة مع ما قرره الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، والكنائس الرسمية في مجمع نيقية الأول عام 325م من أناجيل أربعة معتمدة (متى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا)، وقانون الإيمان المسيحي، وجد أصحابها في شبه الجزيرة العربية المكان المناسب للإقامة والعيش فيها. كذلك كان الأمر مع اليهود، وأصحاب الإيمان التوحيدي من العرب “الأحناف”، ومَن يسمون “عبدة الأصنام”، ومعتنقي المانوية، والزرادشتية “المجوسية”، وغيرها من الأفكار الدينية.
كانت مكة مدينة آمنة، وعلى الحياد بين الجميع، ومفتوحة لكل القبائل لممارسة عقائدها، والتقرب إلى الله عبر تقديم القرابين لتماثيل قديسيها، وبها دار الندوة، وهي ما تشبه مجلس الشيوخ الروماني، تمثل وجهاء قريش، وتُناقش فيها جميع قضاياهم، إلى جانب تنظيم اجتماعي وسياسي وعسكري وطبقي بين قريش الظواهر ساكني ضواحي مكة، وقريش البطاح ساكني وسط المدينة بالمصطلح الحديث، وكانت مكة مكانًا مفتوحًا، كل شيء فيه مسخر لخدمة التجارة والسياحة الدينية، والترفيه على الوافدين، فهناك قصاصون يرون قصصًا مثيرة منقولة من ثقافات وحضارات عدة فيما يشبه الفن المسرحي الآن، وشعراء، وأسواق تجارية، وتحويل عملات، ومقرضون كانوا في الغالب من اليهود، وقيان أي مغنيات، وجلسات سمر وموسيقي ورقص، وحانات “بارات” لشرب الخمور، وذات الرايات الحمر أي مجالس خاصة لمن يرغب من القادمين لمكة بممارسة رغباته الجنسية مع نساء من أجناس شتى مخصصات لهذا الغرض، بجانب أماكن الطعام والشراب، والكعبة، وممارسة الشعائر الدينية. وقد أسس لهذا النظام قصي بن كلاب، المؤسس الفعلي لقبيلة قريش، الذي ولد عام 400م، وتربى في حوران بالشام، وهو الجد الرابع للرسول محمد، عليه الصلاة والسلام، فكانت مكة مركزًا تجاريًّا وحضاريًّا يحتوي على جميع المنتجات التجارية. ولمن يريد التوسع في هذا التاريخ؛ عليه العودة إلى موسوعة “المفصل في تاريخ العرب”، للدكتور جواد علي، وكتاب “أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار”، للمؤرخ الأزرقي.
في ظل عصر كانت الإمبراطوريات فيه هي الحاكمة، ولم يكن هناك وجود للدولة القومية أو القطرية الضيقة، وكان النظام العالمي كله قائمًا على نشوء إمبراطورية وتوسعها وحكمها أممًا متعددة؛ كان العرب في ذلك الزمن مهيئين حتى بالتحليل الاجتماعي لمن لا يؤمن بالإسلام دينًا بأن يخرجوا إلى هذا العالم، ويؤسسوا إمبراطورتيهم، لكن كان لا بد للإمبراطوريات من راية ترفعها، وشعار تدعيه يمنحها شرعية حكم الأمم الأخرى من خلاله، فكان في العصور القديمة دعوة التفوق العرقي الذي يمنح قومية ما “الحق” في حكم باقي القوميات، كما كانت حال الإمبراطورية الفارسية الأخمينية، أو الفلسفة ونمط الحياة المثالي كما رفع اليونانيون “الإغريق” هذا الشعار، أو نقل قيم الحضارة ومنظومة القوانين الرومانية كما ادعى الرومان، وفي العصور الوسطى كانت الراية هي الدين بعد ظهور المسيحية، واعتناق الإمبراطورية الرومانية لها، وقرار الإمبراطور ثيودوسيوس الأول بأنها الدين الرسمي والوحيد للإمبراطورية عام 391م، وكانت الزرادشتية ديانة الإمبراطورية الفارسية الساسانية؛ وعليه، كان العرب بحاجة فقط إلى الراية التي كانت في ذلك الزمان الدين، فكان الإسلام هو رايتهم، وخلال أقل من مئة عام، أصبحت لديهم إمبراطورية تقدر مساحتها بنحو (11,100,000) كم²، تمتد شرقًا من شمال غرب الصين إلى جنوب فرنسا غربًا.
تأسس على ظهور الإسلام دولة، وكان لهذه الدولة شرعية حكم راسخة منذ اليوم الأول تعتمد على عدة مبادئ تستقي منها شرعيتها، منها أن تكون الأولوية للخليفة المختار ممن حضر غزوة بدر، أو من السابقين الأولين في الإسلام، وأن يكون عربيًّا منتميًا إلى قبيلة قريش، وأن يتولى اختياره “أهل الحل والعقد”، وهم مجموعة من النخب العربية، ولا وجود فيهم لقادة عسكريين، أو دور للجيش في اختيارهم، وهم أشبه بهيئة انتخابية، على أن يبايع عامة الناس من قررت هذه الهيئة الانتخابية النخبوية اختياره خليفة، وهو ما يشبه الاستفتاء في الوقت الحالي، ولا يُنصَّب قبل إتمام هذا الإجراء، ويمارس سلطة حكمه وفق مبدأ الشورى بشأن أي قرار مهم قبل اتخاذه، وكانت هذه الشرعية قوية منذ اليوم الأول عندما قررت النخبة المجتمعة في سقيفة بني ساعدة اختيار أبي بكر الصديق خليفة، وبايعه غالبية المسلمين بعد ذلك، ومن رفضوا، ونظرًا إلى الحاجة إلى التأسيس لهذه الشرعية ورسوخها داخل المجتمع لضمان التداول السلمي على السلطة، شن عليهم أبو بكر الحرب المسماة “حروب الردة”، حتى أخضعهم بالقوة لما قررته النخبة، وهم أشبه بالنبلاء في أوروبا، مع الفارق في كونهم ليسوا إقطاعيين؛ بل من ذوي الوجاهة الاجتماعية، والمكانة الدينية بما قدموه من خدمات للإسلام. وعندما توفي أبو بكر، كتب وصية لعمر بن الخطاب، ووافقت النخبة على ترشيحه واختارته، وعندما تعرض عمر للاغتيال ترك للمسلمين أمر اختيار الحاكم من بعده في ستة أفراد ممن تنطبق عليهم الشروط السالفة الذكر، فاختير عثمان بن عفان، وعندما اغتيل عثمان بن عفان على يد “الثوار” بايعت النخبة نفسها عليًا بن أبي طالب، وحتى النزاع الذي حدث على خلافة علي بن أبي طالب، ونظرًا إلى رسوخ شرعية تعيين الحاكم، لجأ الطامحون إلى السلطة (معاوية بن أبي سفيان) في ذلك الوقت، إلى ما يمكن تسميته بالاحتيال، من خلال ادعاء رفضهم لعلي، لا لكونهم ضد قرار الهيئة الانتخابية، أو لطمعهم في السلطة، ولكن كون الخليفة “خالف الشرعية” عندما لم يقتص من قتلة عثمان، ومن باب الحفاظ عليها؛ لا بد من تنحيته، وهو ما فعله الثوار مع عثمان بن عفان، أو الخوارج في قتالهم ضد الخلافة لتغييب مبدأ الشورى، ولأجل هذا الالتفات والاحتيال قيل في الأمثال على من يسعى إلى حشد المجتمع على مصلحة عامة، وقد يكون حقًا لكنه يريد منه مصلحته الشخصية أو باطلًا “قميص عثمان”، فلم يدّعِ معاوية بن أبي سفيان في خلافه مع علي أنه الخليفة، أو أنه الأحق بالخلافة؛ بل رفع “قميص عثمان”، وعندما تولى الحسن بن علي الخلافة بمبايعة الهيئة الانتخابية من “أهل الحل والعقد”، لم يدّعِ معاوية أنه أحق منه؛ ولذلك عندما تنازل الحسن له قبل بهذا التنازل، وهو إقرار منه بأن الحسن بن علي خليفة شرعي وتنازل له طوعًا عن الخلافة لتكون له، وحتى معاوية عندما أراد أن يجعلها في أحد أبنائه، وهو يزيد، سعى -بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى- إلى قبول المنتخبين بهذا القرار، وأصر على الحصول على بيعتهم، ومن يبايع لا يمكنه أن يتراجع في قرار انتخابه؛ لذلك من كان يرفض القرار، ولا يستطيع المواجهة، كان يتهرب من هذه البيعة، وعندما رفض أبناء عبد الملك بن مروان قرار سليمان بن عبد الملك؛ أن يكون ابن عمهم عمر بن عبد العزيز خليفة من بعده، في حين قبل الناس به، هددهم مستشار الخليفة السابق رجاء بن حيوة بضرب أعناقهم؛ لأنهم سيخالفون ما اتفق الناس عليه. حتى العباسيون عندما أرادوا الحكم احتالوا على الأمر بدعوة سرية قائمة على شرعية دينية مفادها أن الخليفة لا يكفي أن يكون من قريش؛ بل ينبغي أن يكون من بني هاشم[4].
نستنتج مما سبق أن العرب لم يكونوا أمة متخلفة، ولا جاهلة كما يعتقد البعض، وأن الحكم كان قائمًا لديهم على أسس وقواعد وشرعية، ورغم الالتفاف والاحتيال عليها في بعض الأحيان فإنها تدل على قوتها، وعدم قدرة أي طرف على تخطيها بسوى الاحتيال، وهو ما أسس لنظام حكم كان حديثًا ومتفوقًا على نظرائه وفق نمط عصره، ويراعي القيم التقليدية وقواعدها، كما أن الخلافة استجابت للواقع، وتعاملت معه عمليًّا، ونقلت مقرها من الحجاز إلى الشام ثم العراق، بعدما توسعت لتصبح وسط الحواضر، وتبنت قيم الروم والفرس، وأخذت من كل طرف أفضل ما لديه، وصبغته بصبغتها.
مقابل ما عرضناه من موجز تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وظروف وملابسات تأسيس الدولة وصولًا إلى الإمبراطورية، وشرعية الحكم الراسخة فيها، المعتمدة على قواعد محددة، كان الأمر مختلفًا لممالك الترك وإمبراطورياتهم؛ فقد كانوا قوم بداوة، لم يكن لهم اتصال بمراكز الحضارة، ولم يكن لديهم قابلية أن يختلط الآخرون بهم، ولا هم يختلطون بالآخرين، فقد كان نهر جيحون يفصلهم على الفرس، وبينهم وبين الصينيين حائل جغرافي ونهر سيحون، وكانت طبيعة نشاطهم الاقتصادي وغزوهم لأراضي الآخرين تجعل الصراع هو السمة الرئيسة بينهم وبين جيرانهم، مما لا يسمح لهم بالتعاون والحصول على المعارف الحضارية التي كانوا في غنى عنها نتيجة اعتمادهم على الحرب والغزوات، ولعل أبلغ ما قيل في وصفهم قول الجاحظ، كما أنهم لم يكونوا أصحاب دين يمكنهم نقله إلى الآخرين في ظل عصر شيوع الأفكار الدينية، وكانت ديانتهم بدائية جدًّا، وهي أقرب إلى الطقوس والظاهرة الدينية، وتسمى الشامانية. وبسبب كل هذه الأسباب، لم يكن لإمبراطوراتهم قدرة على الصمود؛ لأنها تعتمد على القوة العسكرية المفرطة، وغزو الأراضي والتوغل فيها، ولكن دون حضارة أو أي فائدة تجلبها للشعوب التي تقع تحت حكمها، وكان التفكك مصير هذه الإمبراطوريات، أو هضم الحضارات الكبرى لها، وكانت إمبراطورية الهون “الهياطلة” -حسب المراجع العربية- أكبر إمبراطورياتهم، لكنها لم تصمد سوى (50) سنة، ثم سقطت، وكذلك إمبراطورية الخزر التي لم تصمد إلا باعتناقها اليهودية، وكثير من أحفادها اليوم هم من يتسمون بالأشكناز اليهود؛ نخبة المجتمع السياسي الإسرائيلي، والذين هم ترك متهودون. وفي ظل غياب دين، أو حضارة، أو تنظيم سياسي للدولة، كانت النخبة العسكرية هي المؤسسة الحاكمة، في ظل نظام سياسي يعتمد حصرًا على من يمتلك العدد الأكبر من العسكر، والقدرة الحربية على قيادتهم؛ ولذلك كانوا وظلوا زمنًا طويلًا مجتمعًا عسكريًّا بامتياز.
مع اعتناقهم الإسلام ووجودهم في جيوش الدولة العباسية، ثم زيادة نفوذهم زمن الخليفة العباسي الثامن المعتصم بالله بن هارون الرشيد -ابن الجارية التركية ماردة- في فترة اشتد فيها الصراع بين قادة الجيوش المكونين أساسًا -كما أسلفنا- من الفرس والعرب، ونتيجة التنافس الفارسي- العربي، اعتقد المعتصم أنه يمكن أن يوازن بينهما بالاستعانة بعنصر جديد لا طموح لديه في الحكم مثل العرب، ولا يمتلك حضارة وإرثًا معرفيًّا في الحكم والسياسة مثل الفرس، وهؤلاء هم الترك؛ أهل والدته، فبدأ يزيد في أعدادهم، حتى جلب إلى بغداد (18000) جندي من الترك مرة واحد[5]، وزاد في عددهم حتى لم تعد بغداد تتحملهم، واشتكى الناس منهم ومن جفائهم وجلافتهم، وكادت تحدث ثورة بين عامة الناس والخليفة بسببهم؛ ولذلك أمر المعتصم ببناء مدينة جديدة لينهي هذه المشكلة؛ ألا وهي مدينة سامراء، ولقبها “مدينة العسكر”، وأصبحت مدينة الخليفة والعسكر الترك عصبته الجديدة. وعلى سياسة أبيه مضى الواثق بالله، وصولًا إلى عصر التمكين الأكبر للترك في الدولة العباسية زمن الخليفة العاشر المتوكل على الله بن الواثق، والجارية التركية شجاع، حيث تم إنهاء وجود العرب والفرس في جميع مؤسسات الدولة العباسية، وأصبح الوزراء، والجند، وقادة الجيوش، والولاة من الترك حصرًا، واستبدوا بالأمر، وخسرت الدولة العباسية كفاءة الفرس الإدارية، وحنكتهم السياسية، وولاء العرب ومحافظتهم على شرعية الحكم، والانتقال السلس وفق الشرعية بين الخلفاء، وعمّ الخراب جميع الولايات، وفقدت الدولة قدرتها على حكم باقي الأقاليم، ونهشتها الثورات من كل جانب، وسعى الترك إلى الانتقام من العرب المتمردين على استبدادهم من خلال الحملة العسكرية التي قادها القائد التركي بغا الكبير على نجد، وأباد فيها الزعامات العربية لقبائل (بني سليم، وفزارة، وبني مرة، وكلاب)، وسبقها إخراج كل العرب من دواوين الدولة والجيش، ثم تبدلت الشرعية التي كانت راسخة، ولم يعد تداول السلطة من خلال أهل الحل والعقد (هيئة الناخبين)، بل حتى بين البيت العباسي أو الخليفة، وسقطت هيبة الخلافة؛ فلأول مرة يقتحم العسكر مجلس الخليفة المتوكل على الله، ويغتالونه وهو سكران، وينصبون ابنه المنتصر بالله بدلًا منه، ولم يكن الخليفة الأخير الذي يُقتَل، فقد قتلوا المنتصر بالله بدس السم له؛ لأنه ندم على قتل أبيه، ونصبوا من بعده المستعين بالله ثم خلعوه، والمعتز بالله ثم خلعوه، ومن بعده المهتدي بالله ثم قتلوه، فقتلوا خمسة خلفاء وخلعوا ثمانية، وانتهت فكرة الشرعية، وهيئة المنتخبين، وأصبح القرار بيدهم حصرًا، وتم التأسيس للحكم العسكري من شخصيات تتسم بالجهل، وانعدام العلم والمعرفة، واحترام الحضارة وقيمها، وكل إمكاناتهم تكمن في قوتهم العسكرية، ثم تفرغ القادة للصراع فيما بينهم، واستقل بعض القادة الترك بالولايات، مثل أحمد بن طولون في مصر، ومن بعده محمد بن طغج الإخشيد، وضاعت الشام والحجاز وخراسان وبلاد المغرب، وأصبح الخليفة لا يسيطر على سوى بغداد، وبعض المدن العراقية، وكان في العالم الإسلامي ثلاثة خلفاء في وقتٍ واحد، خليفة عباسي في بغداد، وفاطمي في القاهرة، وأموي في قرطبة. ويمكن لمن يريد التوسع في حقبة هيمنة الترك على الدولة العباسية، الرجوع إلى هذا المصدر المميز؛ كتاب “العصر العباسي الثاني”، للدكتور شوقي ضيف.
لم يكن في الإسلام منذ ظهوره، حتى هيمنة الترك على مقاليد السلطة، “مؤسسة دينية”، ولا وجود فيه لطبقة رجال دين لهم عصمة ما، أو قداسة خاصة، أو احتكار للمعارف الدينية، وكان الإسلام دينًا بسيطًا، ويعتمد في أحكامه على القرآن والأحاديث المتفق على صحتها، وأفعال الصحابة وأئمة أهل البيت؛ لأنهم الفئتان الأكثر علمًا ومعرفة بالدين وشؤونه حسبما يعتقد السنة والشيعة، وظهر مع الوقت علماء دين، ولم يكن هناك منصب يسمى “المفتي”، أو “شيخ الإسلام”؛ بل علماء دين وقضاة، ولم يكن للدولة تدخل في شؤونهم، ولا تملي عليهم ما ينبغي أن يقولوا، وكان الخلفاء يتخذون ممن يرون فيهم العلم والمعرفة والقبول من الناس قضاة لديهم في قصورهم للحكم في شؤون القصر والحاشية والخلافة، وكان غالبية العلماء الكبار يرفضون تولي هذا المنصب، حيث كان توليه بالرضا، وليس من سلطان الخليفة إجبارهم، وفي عهد الخليفة العباسي الثاني المعروف بجبروته أبي جعفر المنصور، طلب من أبي حنيفة تولي القضاء أكثر من مرة فرفض فسجنه، ثم دسّ السم له وقتله[6]، كذلك رفض الأمر سفيان الثوري، وعارض مالك بن أنس رغبته في تعميم كتابه “الموطأ” على جميع الولايات حتى لا يُلزم الناس بفهم ديني واحد، وظلت العلاقة بين الطرفين على هذا الوضع.
مع تولي الترك مقاليد الأمور، وحالة الفوضى في تعيين الخلفاء وعزلهم وقتلهم، بدأ يحدث لبس لدى عامة الناس بين ما تعارفوا عليه وسمعوه وقرؤوا عنه من شرعية وآلية للحكم، وما يحدث على أرض الواقع من فوضى وانفراد العسكر بالحكم والثروة وتقرير مصير الخلفاء، وهنا حدث التدخل من هؤلاء العسكر الترك في استخدام دعاة الدين لتبرير ما يفعلونه بأحكام شرعية دينية لا سند لها، وفي هذه الحقبة ظهرت مصطلحات كانت جديدة على مسامع المسلمين، مثل “فقهاء السلطان”، و”وعاظ السلاطين”، كرد فعل شعبي على هؤلاء العلماء الذين باعوا أنفسهم للجند الترك مقابل تبرير سياساتهم. وعندما أدرك العسكر الترك عدم قدرة هؤلاء “العلماء” على مواجهة الرأي العام، ومن باب الإرهاب لمنتقديهم، اتجهوا إلى تأسيس منطق جديد لم يكن معروفًا لدى العرب، ولا في الإسلام؛ ألا وهو خلق مؤسسة دينية، ومنح رجالها ألقابًا ووجاهة وفخامة وهيبة، وحصر تعيين هذه الشخصيات بيد العسكر، وإلزام الناس بعدم نقدها، والعسكر ضامنون لولائهم؛ فهم من يعينونهم، وهم من يعزلونهم، وهم من يمنحونهم الأموال والامتيازات، وتمت صناعة فقه جديد، ومأسسة المذاهب الدينية لخدمة السلطة السياسية، وافتتاح مدارس لهذا الشأن، وتوسعها وصولًا إلى المدرسة النظامية، والمستنصرية، وحظر التعبد داخل الإسلام بسوى المذهب السني بفروعه الأربعة (حنفي، مالكي، حنبلي، شافعي)، وكان جميع المسلمين ملزمين بها، ولا تدرس هذه المدارس سوى هذه المذاهب، ولا يُدرس فيها سوى علمائها؛ ومن ثم أُغلِقَ باب الاجتهاد، وتمت مأسسة أقوال علماء دين كان هناك من هو أكثر علمًا منهم لتصبح مذاهب لا وجود لسواها، واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الإسلام والعقيدة، وعلى نهج هذه المدارس صارت جميع المدارس الأخرى، ومنها مدرسة الأزهر في القاهرة. على سبيل المثال، عندما أًعيد افتتاح الأزهر الشريف زمن السلطان ذي الأصل التركي الظاهر بيبرس عام 1265م، ألزَمَ المصريين بضرورة اختيار مذهب من هذه المذاهب الأربعة حصرًا، وربما يفسر هذا الأمر للبعض لماذا توقف الإسلام السني على مذاهب فقهية أربعة فقط منذ (1100) سنة، ولم يطرأ عليه أي جديد. ووفق هذا الواقع الذي تشكل وترسخ على يد الترك، كان من الطبيعي عندما يأتي الماوردي ليؤلف كتابًا عن الحكم والسلطة أن يسميه “الأحكام السلطانية”، وكذلك ابن تيمية “السياسة الشرعية”، لتُوضَع قواعد فقهية دينية لما أصبح بالفعل أمرًا واقعًا، ومحاولة وضع قيود ما منظمة لهذه الفوضى العارمة فيما يخص مسألة شرعية الحكم مع ظهور عدة إشكالات خلقت نظريات جديدة، مثل “الحاكم المتغلب” المسيطر على السلطة بالقوة أو من خلال انقلاب عسكري، وكيفية التعامل معه، إلى جانب كتب على غرار “الآداب السلطانية”، للمؤرخ ابن الطقطقي؛ لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفق الصيغة التي ابتدعها الترك.
أدى تسلط الترك وهيمنتهم على مقاليد السلطة عام 847م، أي بعد مئتي عام فقط من قيام الدولة العربية-الإسلامية، إلى خلق انقطاع في تجربة الحكم الوليدة، وعدم منحها الفرصة لتترسخ وتطور من تلقاء نفسها، وصولًا إلى نشوء أرستقراطيات عربية ربما كانت ستستقل بالولايات التابعة للخلافة، وتدخل في صراع فيما بينها يتحدد على أساسه موازين القوى الحقيقية، وصولًا إلى تفاهم على شكل الحدود الخاصة بكل مملكة، وهو ما حدث مع الملكيات الأوروبية في صلح وستفاليا عام 1648، ثم تصبح الخلافة والخليفة رمزًا دينيًّا لوحدة الأمة دون حكمها.
لم يكن لدى الترك قيم جديدة مفيدة للعرب، ولا قبلوا بالإبقاء على قيم ونظام الحكم الذي كان قائمًا وقتذاك، وأسسوا لعقيدة الصراع على السلطة بالقوة العسكرية، وغيرها من القيم التي ربما تناسب مجتمعهم، ولكنها لا تتناسب مع مجتمع متعدد الحضارات والقوميات، فكان من نتائج هذا التدخل تغييب أهل الرأي والمشورة، واحتقار قيمة العلم والمعرفة، وإنهاء دور السياسة بالحكم لأنها عملية تعتمد حصرًا على القوة، وتغييب الرأي العام والقوى المجتمعية “المجتمع المدني” من المعادلة قرونًا طويلة حتى أصبح معدومًا في حياتنا الحالية، ولا حول للشعوب ولا قوة.
خلقت تجربة الحكم التركي الطويلة تشوهًا للهوية داخل المجتمعات العربية، وإذا تتبعنا مسار الدول العربية حاليًا، ومدى تأثير هذه الحقبة فيها، ومقارنتها بغيرها ممن لم تخضع لهذه التأثيرات التركية، ووضع معادلة تحليل علم اجتماع سياسي لها بالاستناد إلى التاريخ والواقع، فسنجد على سبيل المثال البلدان التي خضعت لتأثير مزدوج لحكم الترك الطويل الأمد بحقبهم المختلفة، وحكم الاستعمار الغربي، هي الأكثر تراجعًا في جميع المجالات، وتعاني أزمة شرعية حكم وعدم استقراره حتى الآن، فحدث لدى هذه الدول قطيعة مع حضاراتها القديمة، وانقطاع في شرعية الحكم العربي التي لم تُكتمل، وترسيخ لقيم تركية بدائية غيبت المجتمع، وتحولت هذه القيم إلى عادات وتقاليد راسخة، ثم دخلت عليها تأثيرات الحضارة الغربية عبر الاستعمار، فأخذت منه القشرة والشكل التنظيمي الظاهري للدولة من هيئات ومؤسسات ودستور وأحزاب وفصل بين السلطات، ولكن نمط الحكم ينتمي في الواقع إلى القيم التقليدية المستمدة من الترك، والمعتمدة على حكم العسكر، ولنتأمل تاريخ الأسرة العلوية في مصر، وأبرز حكامها الخديوي إسماعيل، الذي نقل إلى القاهرة الحداثة بتفاصيلها من أوروبا، لكنه كان يحكم وفق القيم المنتمية إلى سهوب آسيا الصغرى ما قبل العصور الوسطى، وجمهورية جمال عبد الناصر التقدمية الثورية، التي خلقت تغييرًا اجتماعيًّا كبيرًا لصالح عامة المجتمع، لكن حاكمها كان بكباشيًّا تركيًّا من أصل مصري في نمط حكمه، في حين سنجد هذه التأثيرات السلبية في تونس أقل بكثير؛ لأن حكم الترك لتونس كان محدودًا، ولم يكن قديمًا، فلم يحكمها إلا عام 1574، بعدما ترسخت قيم تقليدية تنتمي إلى المجتمع التونسي وهويته، كما لم يكن الحكم التركي مستقرًا، وتخللته سيطرة إسبانية وفرنسية، ثم حُكم البايات الأوائل ذوي الأصول الفرنسية، والحسينيين ذوي الأصول اليونانية، وكذلك قرب تونس الشديد وترابطها القوي مع أوروبا، فكانت القيم التقليدية قادرة على التوافق مع قيم الحداثة، فكانت الجمهورية التونسية أكثر تقدمية من غيرها، في حين كانت جارتها الجزائر، التي كانت مقر الحكم العثماني في المغرب الكبير، شأنها شأن باقي الجمهورية العربية، تعاني أزمة هوية حادة، وحكمًا عسكريًّا مضطربًا نتيجة الخلطة التركية التقليدية مع قيم الحداثة الفرنسية؛ ولذا كان مولود هذه الجمهوريات مشوهًا، في حين نجد هذا التشوه أقل بكثير في المغرب الذي لم يخضع للحكم التركي قط، وترسخت قيمه التقليدية بمعزل عن التدخلات الخارجية، ثم جاءته الحداثة الفرنسية، فكان الدمج بينهما أكثر سلاسة، وأنتج لنا مملكة تتمتع بقيم أصيلة، قد يراها البعض عتيقة، مع تطور يمضي بخطى ثابتة وقوية، أما بلدان الخليج فالمنظومة فيها أكثر استقرارًا من الجمهوريات؛ لسطحية الحكم التركي وعدم توغله فيها، مع حفاظها على القيم التقليدية، وساعدها اقتصاد النفط، وما خلقه من تطور وانفتاح على العالم، في حين أن الجمهوريات تائهة تعيش أزمة هوية، وصراعًا دائمًا على السلطة.
كان هناك استثناء للعرب من حمل السلاح، ومسؤولية الدفاع عن أرضهم، وممارسة السياسة، وكان مصيرهم يُقرَّر نيابة عنهم، ولم يكن هناك أي دور للنخب العربية في معادلة السياسة بالمطلق منذ عام 847م حتى بداية القرن العشرين، لأكثر من ألف سنة، ثم ورث المستعمر الغربي تركة العثمانيين؛ آخر ممالك الترك، وفجأة وجدت هذه الشعوب العربية نفسها “حرة”، ولكنها لم تتعود ممارسة العمل السياسي، ولا تنظيم نفسها بنفسها، وكانت تميل إلى ما ألفته واعتادته من استقرار هش؛ ومن ثم استسلمت بسهولة لحكم العسكريين الذي ترسخ قرونًا طويلة، وإذا قررت التمرد على هذا الوضع، ولغياب القدرة على التنظيم، وعدم استعدادها لدفع كلفة التغيير، والتوصيف الخاطئ لأسباب البلاء والانحطاط، يتم تطويق مطالبها والانقلاب عليها، أو يؤدي تمردها على الواقع إلى تدمير كل شيء، وردة إلى الخلف، وعودة إلى الوراء، وفقدان لبعض المكتسبات الضئيلة التي حققتها.
بدأت مع الترك تترسخ ظاهرة وعاظ السلاطين، وتدخل السلطة السياسية في الشؤون الدينية، وإيقاف باب الاجتهاد، والجمود الذي أصبح عليه وضع الإسلام الآن، وازدياد حدة الطائفية بعدما أصبحت الدولة ترعى وتدرس مذاهب على حساب أخرى، في حين كان العلم الديني قبل الترك متاحًا للجميع، وليس للدولة تدخل مباشر فيه، مما أدى إلى زيادة التفرقة داخل المجتمع، إلى جانب التخلف العلمي والتقني؛ لأن قوة الدولة ومؤهلات من يقودها تعتمد حصرًا على الجانب العسكري، والموارد الاقتصادية مصدرها الغزو المستمر؛ مما أدى إلى توريط المنطقة في صراعات طويلة دفعت ثمنها في تعطيل حركة تطورها، واختزال حياتها في التعبئة العامة للصراع، في حين كان ثمن السلم الخضوع المطلق، وجباية الضرائب، وهو ما قبلته شعوب المنطقة مقارنة بالبديل؛ وهو الحروب الدائمة، وهذا هو محور حديثنا في الجزء الثالث من هذه السلسلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.