يعاني العالم العربي الضعف والتفكك منذ إعلان استقلال البلدان العربية، حيث فشلت الدولة الوطنية الحديثة في النهوض بمسؤولياتها في أغلب البلدان العربية، ولهذا الأمر أسباب كثيرة يطول شرحها، لكننا سنسعى في هذا المقال -وغيره من المقالات- إلى معرفتها من زاوية البعد التاريخي، ودوره وتأثيره فينا حتى اللحظة؛ فمعرفة أسباب الخلل وتاريخه، وصولًا إلى تحديد أصل الداء، هي البداية الصحيحة لتناول العلاج الشافي.
كان ما يُعرف اليوم بالعالم العربي مركزًا للصراع بين القوى العظمى في حقبة الحرب الباردة، وصولًا إلى تحوله إلى مرتع لصراعات بين قوى دولية وإقليمية غير عربية تسعى إلى نيل ما تعتقد أنه حصتها المشروعة في هذا الفراغ المحاذي لها، وفي هذه العملية يُستخدم التاريخ والبعد الديني للحشد، وخلق بؤر تأييد لهذا التدخل، وقبوله مجتمعيًّا في ظل غياب لملامح لأي مشروع عربي واضح المعالم يعبر عن هوية الشعوب العربية وآمالها وتطلعاتها.
برزت الجمهورية التركية كقوة إقليمية ناهضة، ولها مشروع قومي يسميه البعض “العثمانيين الجدد”، والمقصود بهؤلاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورفاقه في حزب العدالة والتنمية. وهذا المشروع هو امتداد لمشروع “العثمانية الجديدة” الذي ظهر في السبعينيات من القرن الماضي، إذ يرتكز في الأساس على استغلال الإرث التاريخي للإمبراطورية العثمانية لخلق مراكز نفوذ للجمهورية التركية الحديثة، وسنأتي على هذا المشروع بجميع تفاصيله، والمراجع التي تحدثت عنه، في مقال سنخصصه لهذا الموضوع.
إن الأمة التي تقرر أن هؤلاء هم حلفاؤها، أو أعداؤها، أو أصدقاؤها، أو خصومها، دون معرفة تاريخهم، وفهم دوافعهم، محكوم عليها بأن تصبح لعبة بيد الآخرين، يقررون نيابة عنها مصيرها، ثم تجلس في النهاية لتندب حظها، وتلقي باللائمة عليهم، وتتهمهم بالطمع في خيراتها وخداعها، ولا تدرك أنها هي من خدعت نفسها بنفسها؛ لعدم إدراكها طبيعة الصراع ونظرة الآخرين إليها، وهو ما يحدث في عالمنا العربي على نحو شبه يومي، وفي كل تحالفاته وعداوته؛ ولذلك تكمن أهمية فهم وتحليل دوافع الصديق أو العدو المفترض، لمعرفة كيفية وضع سياسة مرتبطة بالواقع للتعامل معه، وذلك بغض النظر عن نظرتنا إليه؛ فقبل أن نختلف على توصيف طبيعة العلاقة معه علينا أولًا أن نفهمه، ونعرف ماذا يريد منا، وماذا نريد منه.
بعد المقدمة السابقة، وما نراه في هذه الأيام من صعود قوي للنفوذ التركي، وتراجع للنفوذ الإيراني، وغياب أي أسس لخلق حوار يصل بنا إلى أي نتيجة نظرًا إلى غياب أبسط مقوماته الأساسية، وكعادتنا نقيم المواقف السياسية وفق عواطفنا وغرائزنا، أو تمنياتنا التي غالبًا ما تكون أوهامًا؛ لذلك قررت البدء بالحديث عن تركيا التي نسمع ونتحدث عنها دون أن نفهمها أو نعرفها!
الترك هم مجموعة بشرية، يرجع موطنها الأصلي إلى منطقة آسيا الوسطى [1] المكونة الآن من بلدان (كازاخستان، وأوزباكستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وإقليم شينجيانغ أو “تركستان الشرقية” في شمال غرب الصين). إذن، الترك مجموعة بشرية تعتقد أنها ذات أصل عرقي واحد، ومكونة من عدة قبائل، كما يعتقد بعض العرب أن القبيلة وتسلسل النسب محصور فقط فيهم، وهذه خرافة لأن كل الشعوب تاريخيًّا كانت قبلية، ومع متغيرات الزمن وتحول القبائل إلى دول وإمبراطوريات فقدت القبيلة قيمتها. للترك لغتهم وثقافتهم وتراثهم وعاداتهم وتقاليدهم، لكن نظرًا إلى الترحال الدائم، وتوسعهم الاستيطاني بحثًا عن السهول الخصبة، تزاوجوا مع عدة أجناس، ودخلت بينهم شعوب أخرى أصبحت تركية بلغتها وثقافتها، وإن لم تكن عرقيًّا منهم، كما أن التمدد الجغرافي لرقعة شعوب الترك من آسيا الوسطى ليشمل كل أراضي شمال ووسط وغرب أوراسيا [2] خلق تباعدًا فيما بينهم، ومع اختلاطهم بشعوب وثقافات أخرى فقدت اللغة وحدتها، وأصبحت لهجات تطورت نتيجة لذلك إلى لغات تركية ذات جذر لغوي واحد.
الترك أوجدهم القدر في هذا المكان من آسيا الوسطى، الذي يعتمد النشاط الاقتصادي فيه على الرعي وتربية المواشي، وبسبب ذلك كانوا شعبًا من البدو الرحل ساكني الخيام، والبداوة ليست منقصة ولا مدعاة للفخر بقدر ما هي نمط حياة تُجبر فيه البيئة وظروف المناخ شعوبه على التنقل والترحال من مكان إلى آخر؛ ولذلك فالبدوي بطبيعته ليس مرتبطًا بالأرض، ولا بموطنه الأصلي كما هي الحال لدى الشعوب الزراعية المستقرة بجوار الأنهار والوديان؛ ولذلك عاش الترك في الخيام لأنهم في حالة ترحال مستمر بحثًا عن أراضٍ جديدة، فيها سهول تحتوي على الأعشاب والحشائش والمياه، وذات مناخ ملائم لتربية مواشيهم ورعي أغنامهم، وهذه الظروف والتحديات تخلق شخصية ذات بأس وقوة وجلد على تحمل الصعاب، ومحاربة بطبيعتها وفطرتها؛ لأنها في حالة صراع مستمر مع الطبيعة والشعوب التي تنافسها على الأراضي الخصبة، ومعادلة الصراع: إما أقضي عليك لكي أعيش وإما العكس، وهذا يفسر لنا قوة الشعوب البدوية وقدرتها على الانتصار العسكري رغم تراجعها الحضاري مقارنة بحضارات كبرى عريقة وإسقاطها، ولم يكن الترك استثناء من هذا. ونظرًا إلى هذه الأسباب التاريخية، نجد شخصية الترك تميل إلى الحدية الراديكالية، ولا تعترف بالنسبية والحلول الوسطية، سريعة الغضب تميل إلى العنف بطبعها، وغير ودودة مع الأغراب، وتسعى دائمًا إلى التمدد والاستحواذ على أراضٍ جديدة، حيث تعتمد على قوتها في الحصول على خيرات الآخرين لتنمية مواردها، وترى في الغزو أحد الأنشطة الاقتصادية. كما أن لديها قدرة على الحرب، وأكثر ميلًا إليها من السلم والاستقرار، وقد طُبعت شخصية الترك بهذه الصفات نتيجة للتاريخ الطويل من التنقل والترحال والصراعات، وحتى مع تطور الزمن تغيرت الآليات والوسائل، ولكن بقيت هذه القيم راسخة في نفوس الشعوب بعد مضي زمن طويل عليها، وتحولها إلى ما يشبه الجينات المميزة لشخصيتها. كذلك من خصائص الترك بعد سيطرتهم على أراضٍ جديدة، المبادرة بالاستيطان فيها وإخضاع شعوبها، وإذا تعذر ذلك يسعون إلى هضمها وإدماجها في هويتهم وثقافتهم من خلال إجبارها على تبني لغتهم، والعيش وفقًا لنمط حياتهم، وقد حدث هذا الأمر على مر التاريخ؛ لذلك من المهم فهم هذه الخصائص، وبُعدها التاريخي لفهم الشخصية التركية سياسيًّا، ورؤيتها لفكرة الوطن وأراضي الآخرين، وتصورها عن الوحدة والاتحاد الذي يعني لها الذوبان في هويتها، أو التهميش لتصبح هي المتسيدة.
يحدث لبس لدى البعض في التفرقة بين هذه الأسماء المختلفة، وكل هذه الأسماء هي لشعب واحد هو الترك، لكن نتيجة لتمددهم الجغرافي خارج موطنهم الأصلي، ظهرت هذه الأسماء للتفرقة بينهم على أساس جغرافي، فالترك هم كل هذه الشعوب، لكن يختص بها الآن الشعوب التركية التي ما زالت تسكن في موطن الترك الأصلي في آسيا الوسطى، والتي ذكرنا أسماء دولها الحديثة آنفًا، أما الأتراك فهم سكان الجمهورية التركية الحالية، والتركمان هم فرع من قبائل الترك سكنوا تاريخيًّا المنطقة التي تعرف الآن بتركمانستان، وشمال شرق إيران، وشمال غرب أفغانستان، وشمال القوقاز الروسي، كما أنهم ينتشرون في كثير من البلدان، منها بلدان عربية، مثل الأردن، والعراق، وسوريا. كما يعتقد البعض أنهم سُموا بهذا الاسم لدخول كثير من زعماء قبائلهم في الإسلام في يوم واحد، فأطلق عليهم العرب “ترك إيمان”، التي دُمجت فيما بعد لتصبح تركمان [3].
أصبح للترك الآن عدة دول مستقلة وممالك وإمبراطوريات تاريخية، ووجود ما بين المهم أو الأقلية في عدد من البلدان في العالم، وهم:
الغالبية الساحقة من هذه الشعوب تعتنق الإسلام، إلى جانب أقلية أرثوذكسية، ويوجد بالإضافة إلى ما سبق مهاجرون ترك في أنحاء العالم، وفي كل القارات، ويبلغ العدد الإجمالي للشعوب التركية من 150 إلى 200 مليون يتحدثون بنحو 20 لغة تركية، ويُنظر إلى الجمهورية التركية اليوم على أنها الوطن الأم لكل الترك في العالم.
حدث اللقاء الأول بين العرب والترك عبر الفتوحات العربية زمن الخلافة الأموية لبلاد ما وراء النهر، والمقصود بها البلاد الواقعة خلف نهر جيحون الذي يفصل بين الشعوب الفارسية والشعوب التركية، وهي بلدان آسيا الوسطى حاليًا (باستثناء طاجيكستان)، وقد استمرت هذه العملية نحو قرن من الزمان، وبدأت عام 697م.
عملًا بنصيحة إمام الدعوة العباسية الأول محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ اتخذ الدعاة السريون للعباسيين من خراسان الكبرى مقرًا لدعوتهم لتحريض الترك والفرس على الثورة على الدولة الأموية، وبعد انتصار العباسيين وسيطرتهم على الحكم عام 754م، أصبح غالبية جنود الجيش العباسي من الترك. كما أن كثيرًا من الخلفاء العباسيين كانت أمهاتهم من الجواري التركيات حتى تمكنوا من الهيمنة على شؤون الخلافة إلى جانب سيطرتهم العسكرية بعد إزاحة النخبة الفارسية بالدولة العباسية. ويعود الفضل إلى الخليفة العاشر المتوكل على الله [13] في تمكين الترك من جميع مفاصل الدولة بعد توليه الخلافة عام 847م؛ نظرًا إلى كراهيته للفرس، ولكونهم أخواله؛ لأنه ابن جارية من الترك تُسمى “شجاع”، وقد تخلصوا منه بقتله فيما بعد.
ترسخ وجود الترك في المنطقة ليتحول إلى استيطان عندما استغاث الخليفة العباسي السادس والعشرون القائم بأمر الله بأقوى قبائل الترك في ذلك الوقت، وهم السلاجقة، وراسل القائد العسكري ركن الدين طغرل بك بن سلجوق، ليدخل بغداد ويخلصه من حكم البويهيين، وهم من الديلم؛ أحد الشعوب الفارسية، وكانوا شيعة، وبالفعل تمكن طغرل بك من الانتصار على البويهيين، ودخل بغداد عام 1055، لكنه أجبر الخليفة على الزواج بابنته، ووسّع دولة السلاجقة على حساب العباسيين، وقسمها بين أفراد عائلته، وأصبح الخليفة لا حول له ولا قوة، وصار منصبه شرفيًّا، ويذكرنا هذا الأمر بمن كانوا يطالبون بالتدخل التركي لأن الأتراك “سنة” لينقذوا العالم العربي من الإيرانيين “الشيعة”، دون إدراك منهم لما حدث في الماضي، وحتمية تكراره في الحاضر!
أصبح للترك السلاجقة سلالات حاكمة في الشرق الأوسط، وجلبت كثيرًا من الترك للخدمة في الجيوش، والاستيطان بالمنطقة، حتى وقعت معركة ملاذكرد عام 1071م بين الترك السلاجقة والإمبراطورية البيزنطية، التي انتهت بنصر ساحق للسلاجقة، تمكنوا على أثره من الاستحواذ على منطقة الأناضول؛ ومن هنا بدأ وجودهم فيما تُعرف الآن بتركيا، التي لا يزيد تاريخهم فيها على ألف سنة.
الأتراك الحاليون، سكان الجمهورية التركية، في أكثريتهم هم سلف الترك، ولكن ما يميزهم عن باقي الشعوب التركية أنهم أكثر تنوعًا من الناحية العرقية، فأراضي تركيا الحالية كانت مقر الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحكم شعوبًا شتى، ووفد إليها كثير من الأجناس والأعراق، إلى جانب بعض الشعوب التي هاجرت إليها في أثناء مرحلة ضعف الإمبراطورية وتفككها، واستوطنوا في عاصمتها، وأصبحوا مواطنين أتراكًا بعد قيام الجمهورية، إلى جانب الأراضي التي اقتطعتها هذه الجمهورية التي قامت عام 1922 من العرب، واليونانيين، والأرمن، وباقي جيرانهم، أو التي كان يسكنها أقوام غير تركيين، مثل الكرد، والسريان، والكلدان، والآشوريين، وغيرهم من الشعوب؛ لذا فتركيا الحالية متنوعة عرقيًّا، وملامح سكانها لا تشبه الترك القدامى، وكثير من نخبتها من أصول غير تركية. على سبيل المثال، رئيس وزراء تركيا عندنان مندريس من تتر القرم، وعاشر رؤساء تركيا، أحمد نجدت سيزر، من أصول شركسية قوقازية، وأول امرأة تركية تتولى منصب رئاسة مجلس الوزراء تانسو تشيلر، من أصول بوسنية سلافية. كما يقال إن رجب طيب أردوغان من أصول جورجية، لكنه نفى هذا الأمر بشدة في أحد لقاءاته التليفزيونية [14]. الشاهد هنا هو أن تركيا الحديثة خليط من الأجناس، والترك فيها هم الأكثرية، والثقافة واللغة والتراث التركي هي المهيمنة على البلاد.
نستخلص مما سبق أن الترك أمة ذات تاريخ قديم، وانقسمت إلى عدة قبائل وشعوب، أسست عبر تاريخها ممالك وإمبراطوريات ودولًا مستقلة، وشعوبها منتشرون على رقعة كبيرة من الكرة الأرضية، وبالتحديد بالمنطقة الأوراسية، والشرق الأوسط، وبجميع البلدان العربية بنسب متفاوتة. كما عرفنا الفرق بين الترك والتركمان والأتراك، وسكان تركيا الحديثة، وعلاقتهم بالترك القدامى، وخصائص الشخصية التركية التي صنعتها الأحداث والظروف التي عاش فيها الترك تاريخيًّا، وعلاقتهم بمنطقتنا، وبدء وجودهم فيها، وهو وجود حديث نسبيًا، بل هم العرقية الأحدث تاريخيًّا في المنطقة مقارنة بباقي الأعراق والقوميات الأخرى.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.