تقدير موقف

هل بدأ بوتين فعليًّا في إسقاط شرعية زيلينسكي؟

بين المسيرات واستهداف الثالوث النووي


  • 12 يونيو 2025

شارك الموضوع

اتجهت موسكو، في 5 يونيو (حزيران)، إلى إعادة رسم قواعد الاشتباك السياسي والعسكري مع أوكرانيا، مستفيدة من تصعيد كييف ضد العمق الروسي، وموجة التململ داخل النخبة الغربية تجاه الأداء الأوكراني، على الرغم من النشوة الظاهرة لدى فريق دعاة الحرب على روسيا بعد موجة الاستهدافات الأوكرانية النوعية الأخيرة في قلب العمق الروسي.

لقد شكلت تلك الضربات الجوية الأوكرانية التي استهدفت منشآت إستراتيجية روسية، وأهمها -بلا جدال- مكونات الثالوث النووي، شكلت -من وجهة نظري- دافعًا ملزمًا للكرملين -بل لبوتين نفسه- بأن يتخذ قرارًا علنيًّا بتحييد زيلينسكي من أي معادلة سياسية مقبلة، مع الاحتفاظ بخيار الرد العسكري المفتوح، والتفاوض فقط على المستوى الفني فقط.

وفي ضوء تصاعد العمليات القتالية على أكثر من محور، والانخراط الواضح للفاعلين الدوليين عبر قنوات اتصال متوازية، باتت الأحداث الميدانية والسياسية تتخذ طابعًا مركبًا يعكس تزاوجًا بين التصعيد العسكري الروسي في الميدان والضغط الدبلوماسي الغربي المضاد.

هذه التركيبة تظهر -حسبما أرى- أن موسكو لم تعد تكتفي بإدارة الأزمة على الأرض فقط؛ بل باتت تتحرك بثقة في المسار السياسي، والديني -وهو مسار مستجد- والدعائي على حد سواء.

ولا بد أن نرصد من موقع المراقب، ووفقًا لما يرد من تقارير عسكرية يمكن الاعتماد عليها، نجاح الجانب الروسي في فرض التفوق الميداني في مناطق القتال المباشر. وإذا احتكمنا إلى معطيات اليوم، فسنرى أنها تشير إلى مكاسب ميدانية روسية جديدة، مثل السيطرة على بلدة ريدكودوب في مقاطعة دونيتسك، وأهميتها أنها تفتح الطريق للوصول إلى سيفرسك، وكذلك بلدة كوندراتوفكا في مقاطعة سومي، سعيًا إلى إقامة المنطقة العازلة، هذا إن لم تسعَ موسكو إلى السيطرة الكاملة على هذه المقاطعة نفسها؛ انتقامًا للتوغل داخل كورسك في 6 أغسطس (آب) من العام الماضي.

وفي المقابل بالطبع، والتزامًا للموضوعية، أنقل ما جاء في التقارير العسكرية عن اختراقات أوكرانية جديدة للعمق الروسي بالمسيرات، ومحاولة استهداف منشآت حساسة مجددًا.

لكن حسب البيانات الروسية، نجحت الدفاعات الجوية الروسية في إسقاط كل المسيرات، ومع ذلك وصفت موسكو هذا الهجوم بأنه “منسق استخباراتيًّا من خارج الحدود”، وبأنه يعكس إصرار كييف على ضرب رموز السيادة الروسية، وتوسيع الحرب باتجاه العمق الروسي.

وأعتقد ان كلام موسكو هنا يرمي إلى الربط بين هذه العمليات الأوكرانية والدعم الغربي المتزايد، لا سيما بعد اعلان بريطانيا رفع كميات تزويدها أوكرانيا بالمسيرات، تحديدًا إلى عشرة أضعاف.

في ضوء كل هذه التطورات الخطيرة تأتي مكالمتان مهمتان أجراهما بوتين مع ترمب وبابا الفاتيكان الجديد، لتبرزا على الساحة السياسية للأحداث؛ ففي موازاة التصعيد الميداني، وفي أقل من 24 ساعة، أجرى بوتين هاتين المكالمتين؛ ليوجه من خلالهما -في رأيي- رسائل سياسية ودينية مزدوجة.

ولنبدأ بمكالمة بوتين وترمب، وحسب كل المعلومات، استمرت المكالمة ساعة وربع الساعة، وجاءت بمبادرة من ترمب نفسه، وسرب ترمب مضمونها في منشور على تروث سوشيال، ثم حذفه، ثم أعاده بالنص نفسه، ولا أحد يفهم السبب.

لكن المثير في هذه المكالمة -وفقًا لما فهمته من التسريبات الروسية- هو أن بوتين لمّح إلى أن الرد الروسي لن يقتصر على أوكرانيا فقط؛ بل قد يشمل مواقع مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالدعم الخارجي، وهي إشارة تحمل بعدًا إستراتيجيًّا قد يعاد تفسيره لاحقًا.

أما مكالمة البابا ليو الرابع عشر، فتأتي -في وجهة نظري- في سياق التحرك نحو القوة الدينية الناعمة، فهذا الاتصال وصفه الكرملين بالاتصال الرسمي، وأنه تناول الوضع الإنساني في أوكرانيا، وسبل خفض التصعيد.

وأكد الكرملين -في البيان الذي أصدره عقب المكالمة- أن بوتين أكد للبابا أن روسيا “تسعى إلى حل سياسي يعالج الجذور التاريخية للصراع”، وشدد في الوقت نفسه على ضرورة وأهمية حماية المدنيين  والأسرى.

البابا بدوره أعرب عن قلقه من استمرار المعاناة الإنسانية، ودعا إلى حوار مباشر وشامل لا يقصي أحدًا! وهي بالطبع لهجة تنسجم مع الرؤية الفاتيكانية التاريخية لحل الأزمات المسلحة.

هذا ما جاءت به البيانات الرسمية، لكن بقراءة بين سطور لحظة التصعيد الخطيرة الحالية، وانطلاقًا من فهم أهمية دور بابا الكاثوليك في العالم ورمزيته، بإمكاننا أن نستشف طلبه من بوتين ألا تتسع حدود رده الانتقامي -القادم لا محالة- اتساعًا قد يجر العالم بالفعل إلى نتائج كارثية، تبدأ بمواجهة روسية ناتوية، تنقلب إلى حرب عالمية ثالثة.. مخيفة.

إذن، كيف يمكننا أن نقرأ المشهد برمته بين مساعي فرض الإرادة والبحث عن مخرج، وفقًا بالطبع لمعطيات اليوم التي بين أيدينا، والتحليل -كما قلت سابقًا- يتغير بحسب تغير المعطيات أسبوعيًّا، أو يوميًّا.

في رأيي، يمكن قراءة مجمل تحركات موسكو العسكرية والدبلوماسية خلال هذا اليوم من منظور مركب:

   – ميدانيًّا: تثبت موسكو قدرتها على التصعيد المنظم والمركز، وتؤكد في الوقت نفسه أن المبادرة لا تزال بيدها، رغم كل ما حدث، خاصةً بعد نجاحها -من واقع بياناتها الرسمية بالطبع- في صد كل المسيرات الأوكرانية، وتوسيع نطاق السيطرة في سومي ودونيتسك.

– سياسيًّا: يوجه الكرملين (بوتين) في اتصالاته الأخيرة رسائل إلى الداخل والخارج معًا مفادها: روسيا منفتحة على الحوار، لكن ليس مع زيلينسكي، وأنها لن تتسامح أبدًا مع المساس بسيادتها، أو أمن عمقها الإستراتيجي.

– دبلوماسيًّا ودينيًّا: تظهر مكالمة بوتين مع البابا ليو رغبة روسية في كسب شرعية أخلاقية ودينية وروحية دولية، في مواجهة تعبئة إعلامية غربية سافرة ضدها، كل ما تفعله هو شيطنة موسكو.

وإجمالًا لكل ما سبق، يمكن القول إن روسيا تعيد الآن رسم قواعد الاشتباك، سياسيًّا وعسكريًّا. وفي ضوء هذه المعطيات، يتضح -لي أنا على الأقل- أن موسكو تتحرك في مسارين متوازيين: ردع حاسم ميدانيًّا، وانفتاح مشروط سياسيًّا.

إن ما يجري منذ الأول من يونيو لا يعد مجرد استهداف نوعي وقتال عنيف؛ بل محطة دفعت الكرملين دفعًا إلى تغيير في الخطاب الإستراتيجي، نحو الجمع بين الصرامة في الرد والمرونة في المخرج.

ويبقى السؤال الملح: هل تمهد موسكو بذلك التربة لأرضية تفاوض جديدة من موقع قوة، أم أن الرسائل التي حملتها المسيرات والمكالمات الهاتفية هي مقدمة لجولة أكثر دموية؟

الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإحابة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع