نشأ النظام الدولي -بنسخته الحالية- في ظل اتفاقيات ما يعرف في تاريخ الفكر السياسي بـ”ويستفاليا” في القرن السابع عشر، التي أنهت حرب الـ30 عامًا في أوروبا، وأرست مبدأ الاعتراف المتبادل بسيادة الدول، ومفهوم “الدولة القومية”، فضلًا عن إسهام الحربين العالميتين في إعادة صياغة مصطلحي “السيادة” و”المصالح”، ليتخطيا بذلك حدود الدولة القومية، ويعاد ربطهما بـ”المجال الحيوي” للدول المكونة لهيكل النظام الدولي.
وانطلاقًا من نظرية “المجال الحيوي”، ثمة ما يؤسس لفرضية “الفوضى الأمنية” في المنطقة (شرق المتوسط)، ويستدل عليها بتصاعد نمط عسكرة التفاعلات، بالتوازي مع التهديدات التركية لعدد من الفاعلين في الشرق الأوسط، وفقًا لعدد من الملفات النوعية، تتسارع معها الدول لتفعيل خطواتها في ترسيم سياساتها الدفاعية، سواء عبر آليات مباشرة أو غير مباشرة، مقابل التغير في السياسات الخارجية التركية، وسعيها نحو إعادة التموضع الأحادي في المنطقة.
في خضم هذه الجملة من محددات السلوك لدى النظام التركي، الذي بدأ منذ عام 2002 في الاعتماد على تصدير الجماعات الأصولية والجهادية وتوظيفها وفق رؤية تعطي الأولوية للقوة العسكرية، وتفسر هيمنة المدركات والسياسات الأمنية على مجمل التوجهات الخارجية التركية. وتأسيسًا على ذلك، جاء هجوم أفواج الأصولية المتطرفة على حلب (تبعد 310 كم عن دمشق العاصمة)، واحتلالها كاملة، عدا الريف الشرقي لها.
الدخول الجهادي المفاجئ على غرب حلب، كانت مقدمته “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا)، وهي ذات ثقل عسكري في عدد المقاتلين -منهم جهاديون أجانب، ومتطرفون ظهروا بوجوههم ولغاتهم المختلفة في وسط حلب- والعتاد، وتتخذ من محافظة “إدلب”، معقلًا رئيسًا لها.
تقع العلاقة بين تركيا وجبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام، هذا الفصيل الموالي للقاعدة في سوريا، ضمن الأشكال المتعددة لعلاقات الرعاية من جهة تركيا لفواعل غير الدول (حرب الوكالة)، إذ تُوظَّف كأدوات للسياسة الخارجية التركية ضمن مشروع أكبر، يمثل نسخة حزب العدالة والتنمية الحاكم من “العثمانية الجديدة”، القائم على توسيع نطاق النفوذ داخل الشرق الأوسط، ولو على نحو صدامي.
التحليلات الأولية لما حصل يوم السادس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) في حلب أنه بمنزلة إعلان تركيا سقوط كل المنصات الإقليمية المتعلقة بسوريا، وأهمها تلك التي ينخرط فيه الكرملين، كمرجع نافذ وضامن حقيقي لها، وليس كجزء من أجزاء فولكلور العلاقات الدولية، التي تحجب أي معنى فعلي لأي معاهدة، أو صيغة تفاهم، ولربما هذا ما يُفسَّر جليًّا في الكلام المنسوب إلى أوساط متصلة بالدوائر الروسية عن المعطيات بشأن الهجوم الميليشاوي الأخير، حيث تشير إلى أن موسكو التي لم تكن على علم به، اتصلت أولًا بأنقرة مستفسرة، ليأتي الرد التركي أنه لا تغيير على الأرض؛ بل حفاظ على مناطق خفض التصعيد، المتفق عليها عام 2019.
وفق تلك الأوساط، فإن الجانب الروسي اعتبر أن التركي لم يصدقه القول؛ ولذلك أتى أول رد فعل للكرملين تجاه أحداث حلب على لسان المتحدث باسمه: “إن ما جرى انتهاك لسيادة سوريا، ونحن ندعم استعادة السلطات السورية المناطق التي تم الاستيلاء عليها”، خاصةً أن اقتحام جهاديي “هيئة تحرير الشام” وميليشيا “الجيش الوطني التركي” غرب حلب، حصل ولمّا يجف بعد حبر بيان الاجتماع الثاني والعشرين بصيغة أستانا بين روسيا وإيران وتركيا، الذي أكد أهمية التعاون والتنسيق لحفظ مناطق خفض التصعيد في سوريا.
عطفًا على ما تقدم، وفي إطار ما يسمى “السرديات المتبارية”، فإن موسكو تسجل كثيرًا من علامات الاستفهام على الدور التركي فيما حصل بثاني أكبر مدن سوريا، والعاصمة الاقتصادية الأولى، فهناك نقاط متعددة تجعل تركيا راضية عما يحدث في سوريا، وهي تراجع الحضور التركي في الملف السوري تحديدًا عقب سلسلة من التحولات الجوهرية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، توقيتها الحاسم هو أن يؤدي وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض إلى إمكانية أن تفرض الكيمياء الشخصية بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إيجاد حل في سوريا، تكون فيه موسكو متقدمة على الأتراك.
ووصولًا إلى صيغة مكتملة وواضحة المعالم لدى موسكو، يمكن إيراد ما صرح به وزير الخارجية التركي الحالي هاكان فيدان، ومدير المخابرات السابق، قبل عدة أيام، من أن بلاده لا تشترط الجلوس ومحاورة المعارضة “… لن ننتظر مطولًا حسم موضوع اللجوء، وسنحرك البدائل عند اللزوم”، بوصفه أدل الدلائل على الخداع التركي للروس، الذين اطمأنوا لنتائج أستانا بإبقاء مناطق خفض التصعيد على ما هي عليه، خاصة أنهم لم يكونوا مستعدين لخوض حرب موسعة، تفضي إلى احتلال حلب من جانب قوى أصولية متطرفة.
ومع استثنائية الإشكالية التي يطرحها الحدث السوري على المسرح العالمي، حيث الأحوال في الحقل الدولي يحسمها التفاعل الحر للقوى المشاركة، ما دام المجال بين الدول مفتقرًا إلى سلطان مشترك، فثمة سؤال مفتاحي بشأن مستقبل السمت الاستقطابي، الذي خيم على النظام العربي، ومن ضمنه سوريا، طيلة عقود بصيغ مختلفة.
هذا السمت، الذي تعود سني تأسيسه الأولى إلى خمسينيات القرن الماضي وستينياته وأوائل سبعينياته، بين ما كان يسمى حينذاك “الأنظمة المحافظة” و”الأنظمة الثورية”، سيشكل نشوء محوري “الاعتدال” و”الممانعة” موجته الثانية، وستكون “حرب الوكالة” وما صحبها من تغير ملحوظ في هياكل القوة بمنطقة شرق المتوسط ذات الميكانيكية المفرطة، موجته الثالثة، بما يمهد لسياق إستراتيجي ستدور في ظله التفاعلات الراهنة، التي تعمل على تفكيك خريطة صعوبات الحل السوري، وإعادة تشكيلها.
فروسيا التي دخلت في قلب الشرق الأوسط الملتهب عبر الولوج من سوريا، البوابة الشمالية للشرق العربي، يسايرها القلق من المباحثات التركية- الأمريكية، التي تحاول من خلالها أنقرة تقديم صكوك من الضمانات لإدارة الرئيس المنتخب ترمب، تؤكد فيها قدرتها على ملء فراغ القوات الأمريكية، إذا قرر البنتاغون -بتوجيه من البيت الأبيض- المضي قدمًا في إعادة انتشار تلك القوات على الأرض السورية.
توازيًا، تعمل الدبلوماسية الروسية على تدشين نظام إقليمي جديد، ربما يختلف في الهيكل والأهداف، فهناك نقاش روسي قائم، تقابله خشية تركية حيال الانفتاح الروسي الأخير على تل أبيب في الموضوع السوري، حيث يجري الحديث بتؤدة عن حصول تفاهمات (روسية – إسرائيلية) بشأن سورية، هدفها (إشراك) واشنطن على الطاولة الجديدة، ضمن مشروع تسوية سياسية، يحافظ على شخصية سورية الحضارية المتمدنة، الواحدة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، كي تصبح بذلك “هندسة شرق المتوسط” أمرًا يتجاوز قدرة أنقرة و(غيرها) على الرد، خاصة أن النظام التركي -وفق قواعد استنباط المنطق الروسي- يقوم سلوكيًّا على مفهوم “ساوم وقايض”، ولربما هذا ما يفسر أن الكرملين جعل مؤخرًا الرئيس التركي أردوغان يقف على باب مؤتمر مجموعة الـ”بريكس” في مدينة قازان الروسية، ولم يسمح له بالدخول كعضو جديد.
ومع ما يشهده الشرق الأوسط أخيرًا من اضطراب نوعي من مختلف فواعله، خاصة تركيا التي تسعى من خلال تحركاتها الحالية في المنطقة (سوريا والعراق تحديدًا) إلى توظيف ما يعرف بـ”مهددات الضرورة”، وذلك من خلال إعادة انتاج الأزمات (حلب نموذجًا)، بما يتوافق والتغير في المقدرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وفقًا لعدد من الخطوات التصعيدية بما يخدم أجندتها الخاصة؛ فإن التخوف الآن من سيطرة أفواج الأصولية الجهادية، وهو ما استدعى استنفار دول المنطقة وروسيا، وأيضًا قد لا تستسيغه (واشنطن ترامب)، يشكل معطى جديًّا عن الخطر واللا يقين في الشرق الأوسط.
في خلاصة مرحلية، وفي إطار نظرية التحدي والاستجابة، لربما تذهب الأوضاع الحالية إلى صيغة تحالف (عربي روسي) على النحو الذي برز فيه التحالف الدولي لمحاربة “داعش” (الدولة الإسلامية في العراق والشام) للتخلص من فالق جهادي يسهم في تصدع صيغة الاستقرار وعتبته، التي تسعى إليها كثير من الأطراف، لا سيما أن (موسكو) قد تمسك بزمام المبادرة مجددًا، وإن عرقلتها حرب 2022، وقد تعود إلى ممارسة أدوارها العسكرية بلياقة أعلى، حال تفرغها من العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا على ما تشير إليه صيغة انسجام (بوتين- ترامب)؛ لذا يمكن توقع عودة موسكو بفاعلية أظهرتها عام 2015، وتم تعريفها وتداولها إعلاميًّا باسم “عاصفة السوخوي”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.