إستراتيجيات عسكريةتقدير موقف

قراءة في معادلة التصعيد الجديدة بين روسيا والناتو

بين السماء والبر.. روسيا والناتو واختبار التصعيد


  • 23 سبتمبر 2025

شارك الموضوع

في تعليقه على ظهور طائرات مسيرة في سماء الدنمارك والنرويج، وادعاء هاتين الدولتين تورط روسيا في هذه الحادثة، صرح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، خلال الإيجاز الصحفي اليومي، الثلاثاء 23 سبتمبر (أيلول) 2025، أن توالي توجيه اتهامات لا أساس لها من الصحة من جانب الدول الأوروبية، يدفع الكرملين إلى عدم أخذ هذه التصريحات والاتهامات في الحسبان.

يقول بيسكوف: “إننا في كل مرة نسمع اتهامات لا أساس لها من الصحة من هناك، ربما ينبغي للطرف الذي يتخذ موقفًا جادًّا ومسؤولًا ألا يكرر هذه الاتهامات الباطلة”.

وأمس، 22 سبتمبر (أيلول) 2025، أعلنت القوات المسلحة البولندية أن بولندا والسويد تجريان للمرة الأولى تدريبات عسكرية مشتركة في البلطيق تحت اسم “حارس غوتلاند”.

وقالت وزارة الدفاع البولندية، في بيان رسمي نُشر على موقعها، إن القيادة العملياتية للقوات المسلحة البولندية تُجري بالتعاون مع القيادة المشتركة السويدية للمرة الأولى تدريبات ثنائية من نوع “سنيكس” (تمارين الملاحظة القصيرة، وهي تدريبات تسبقها فترة استعداد قصيرة) تحت الاسم الرمزي “حارس غوتلاند”.

وأضاف البيان أن التدريبات تندرج في نمط تدريبات الاستجابة السريعة، وتُجرى في البحر والبر والجو، في حين لم يذكر بيان وزارة الدفاع البولندية عدد الوحدات المشاركة فيها. وسبق هذه التدريبات الثنائية بين هذين البلدين الناتويين إعلان الحلف عن تدريبات “الحارس الشرقي” بعد اتهام بولندا لروسيا يوم 10 سبتمبر (أيلول) الجاري بانتهاك مسيرات روسية أجواءها.

اللافت أن التدريبات البولندية السويدية المشتركة “حارس غوتلاند” تجرى للمرة الأولى على أساس اتفاقية وُقِّعت على عجل في بداية شهر سبتمبر (أيلول) بشأن التعاون العسكري بين الدولتين.

وإذا أضفنا إلى كل ما ذكرته أعلاه حادثتي اتهام إستونيا وبولندا لروسيا بانتهاك أجوائهما بالمقاتلات والمسيرات خلال الأيام الأخيرة، نرى أن ملف التصعيد الروسي الأطلسي يشهد -بلا جدال- تصعيدًا مريبًا ينتقل بين البر والسماء، من طرق الإمداد داخل أوكرانيا إلى أجواء بحر البلطيق. ومن مشروعات إعادة الإعمار في المدن “المحررة” إلى جلسات مجلس الأمن في نيويورك.

وإذا كانت العواصم الغربية تقدم هذه التحركات الروسية على أنها استفزازات روسية، فإن موسكو ترى الصورة من زاوية مختلفة تمامًا، حيث ترى نفسها في موقع الدفاع ضد تمدد الناتو العسكري واللوجستي على حدودها، وترى إجراءاتها دفاعية بحتة، تستجيب لهذا التمدد الناتوي شرقًا.

لكن إذا قرأنا التصريحات الروسية بقراءة نقدية، سنجد أنها تكشف أن الإستراتيجية الروسية -وإن بدت متماسكة على مستوى الخطاب الإعلامي- تعاني فجوات عملية، وتناقضات بين ما تطمح إلى تحقيقه والواقع الذي ينتج عنها.

فالطلعات الجوية الروسية فوق البلطيق تُقدَّم في الإعلام الغربي بوصفها خرقًا خطيرًا للأجواء، على الرغم من تأكيد موسكو أنها تصنفها نشاطًا طبيعيًّا تمارسه بوصفها قوة كبرى، وكما تفعل القوى الكبرى فوق المياه الدولية.

لكن تكرار الحوادث بهذه الوتيرة خلال الأسبوعين الأخيرين يفتح الباب أمام تصعيد قد يصعب التحكم في مساره، وهنا تتجلى -في رأيي- الازدواجية التي أقصدها في إستراتيجية الكرملين؛ فموسكو تنفي نفيًا قاطعًا -كما أشرت في مقالين سابقين بهذا الخصوص- أن تكون نيتها الاستفزاز، لكنها تستخدم في الوقت نفسه لغة المناورة التي تحمل -بالضرورة- دلالات استفزازية للآخر.

لكن لا بد أن نشير كذلك إلى أن الناتو، ودول الجناح الشرقي فيه تحديدًا، تبالغ في تصوير الطلعات الروسية على أنها تهديد وجودي، وهو ما يخالف الحقيقة في الواقع. وهذا الموقف الناتوي المستفز يوفر للكرملين -في رأيي- الذريعة لمزيد من التشدد.

في الوقت نفسه، وإذا انتقلنا إلى ميدان المواجهة العسكرية المباشرة بين روسيا والناتو، وإن كانت لا تزال بالأيدي الأوكرانية في مجملها، نرى أن الجيش الروسي يستمر في تكتيكه الجديد باستهداف طرق الإمداد الأوكرانية بوصفها نقطة ضعف إستراتيجية. ومن الواضح زيادة القدرات الإنتاجية الروسية على نحو لافت في تصنيع المسيرات خلال العام الجاري، حيث تشير بعض التقارير التي اطلعت عليها، والتي يمكن الاعتداد بمصداقيتها، أن روسيا باتت تنتج يوميًّا نحو 180 مسيرة، وهو ما بات يوفر للجيش الروسي الفرصة لشن هجمات مكثفة تنهك الدفاعات الأوكرانية وتستنزفها.

هذه الطائرات المسيرة والهجمات الروسية الدقيقة أربكت فعلًا اللوجستيات الأوكرانية، وأجبرت الجيش الأوكراني على البحث عن طرق أطول وأكثر خطورة لنقل السلاح والمؤن إلى جبهات القتال.

غير أن هذا النجاح -حسبما فهمته من تحليلات خبراء عسكريين محترمين- يخفي معضلة أعمق، وهي أن حرب الاستنزاف هذه وحدها قد تطيل أمد الصراع أكثر فأكثر، من دون أن تضمن حسمه، فالقدرة الروسية على إبطاء حركة الخصم لا تعني قدرتها على منعه بالكامل من تلقي الدعم. بعبارة أخرى، الحرب تتحول إلى حرب لإدارة الوقت أكثر من كونها حربًا لتحقيق إنجاز إستراتيجي نهائي.

وهنا تتصل الأجواء والبر بالمستوى الأعلى من الحسابات! ففي اجتماعه الأخير، غير المعلن مسبقًا، مع مجلس الأمن الروسي في الكرملين، يوم الاثنين 22 سبتمبر (أيلول) 2025، وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عدة رسائل مهمة؛ أولاها قوله إن الاستقرار الإستراتيجي العالمي يواصل التدهور، وأخطرها أن روسيا مستعدة للرد على أي تهديد بإجراءات عسكرية تقنية، والرسالة هنا كانت موجهة -بوضوح تام- إلى الناتو.

ومع ذلك، قدّم بوتين مبادرة (غير متفق عليها مسبقًا مع واشنطن حسب تأكيد بيسكوف اليوم 23 سبتمبر/ أيلول) بتمديد التزام موسكو بقيود معاهدة “ستارت الجديدة” عامًا إضافيًّا بعد انتهاء صلاحيتها المفترضة في فبراير (شباط) 2026، بشرط أن تقدم واشنطن بالمثل الالتزام نفسه.

وهذا المقترح البوتيني يبرز المزاوجة بين اليد الممدودة والمخلب المكشوف؛ فروسيا -على لسان بوتين- تعرض التهدئة، لكنها تجعلها مشروطة، وفي الوقت نفسه تلوح -في تصريحات بوتين نفسه- بردع نووي وعسكري تقني يشمل الفضاء والدفاع الصاروخي.

الكرملين وبوتين يستخدمان -في رأيي- هذه المعادلة من أجل تثبيت صورة مزدوجة. ما أقصده هو أنه يقدم روسيا بوصفها قوة مسؤولة تقدم مبادرات دبلوماسية من أجل تلافي التصعيد، لكنها في الوقت نفسه أيضًا، ومن واقع عبارات بوتين نفسه، قوة رادعة، لا ولن تتردد في التصعيد إذا تجاهلها الغرب، وتجاهل مقترحاتها ومصالحها.

وعلى هذا النحو يمنح هذا العرض الروسي الذي قدمه بوتين موسكو رصيدًا سياسيًّا إن قبله الطرف الآخر، وكذلك ذريعة قوية إن رُفض.

وختامًا أقول إن اتهامات الدنمارك والنرويج اليوم، واجتماع مجلس الأمن الروسي أمس، ورسائل بوتين خلاله، والطلعات الجوية الروسية فوق البلطيق، والهجمات على طرق إمداد أوكرانيا، كلها وجوه لعملة واحدة، هي سياسة روسية تمزج بين المبادرة والردع.. بين اليد الممدودة للاتفاق والقبضة المشدودة لتوجيه الضربة القاضية.

ونجاح هذه السياسة لن يُقاس -من وجهة نظري- بعدد طلعات المقاتلات، أو بمناورات المسيرات، ولا بمدى تعطيل الإمدادات؛ بل بقدرة الكرملين على ترجمة خطابه إلى إنجاز سياسي واقتصادي قوي ومتماسك في وجه محاولات الاستنزاف، يمكّنه من الصمود أمام اختبار الزمن.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع