
من قلب المستشفى العسكري المركزي في موسكو جاء إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأربعاء 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، عن نجاح اختبار جديد لسلاح نووي بحري فائق القدرة، ولا مثيل له في العالم، بعد ثلاثة أيام فقط من إعلان مشابه عن سلاح نووي مشابه، لكنه جوي.
التوقيت والمكان وطبيعة الخطاب، جميعها أراد بها بوتين إرسال رسالة واضحة ومباشرة إلى أن التفوق الروسي العلمي والتقني جعل موسكو لا تزال قادرة على إنتاج معجزات علمية رغم سنوات الحرب والعقوبات.
والأهم أن هذه المعجزات جعلتها تتفوق في الردع غير المتماثل دون أن تقع في فخ سباق تسلح تقليدي، لو وقعت فيه لانهار اقتصادها وتفككت أوصالها كما حدث مع سلفها القوي الاتحاد السوفيتي، الذي قصمه الاقتصاد، فلم يكمل عامه السبعين سليمًا.
يعلن بوتين، وتقول موسكو لواشنطن قبل باقي التابعين في الناتو، والآخرين، إن قواعد الردع القديمة سقطت، وإن موسكو لم تعد في موقع الدفاع؛ بل في أصبحت في موقع المبادرة، وعلى الآخرين الجري لمحاولة اللحاق بها.
كان المشهد بالغ الرمزية -كيوم الأحد 26 أكتوبر (تشرين الأول) عند الإعلان عن بوريفيستنيك أمام كبار القادة العسكريين- فبوتين تحدث أمام جنود جرحى من جبهات أوكرانيا، ليعلن أن الغواصة النووية الروسية نجحت في إطلاق الطوربيد النووي بوسيدون (يصفه البعض بمسيرة الأعماق النووية)، وهو طوربيد نووي يتمتع بمحرك ذري مصغر، وقد تم تشغيل مفاعله بنجاح تام تحت الماء.
الرئيس الروسي كان حريصًا على إبراز القدرات “المرعبة” لهذا السلاح الجديد، بالتشديد على أن قدراته، من حيث طاقة التدمير والمدى، تتفوق حتى على الصاروخ المخيف العابر للقارات “سارمات”، الذي يسمى بـ”الشيطان”، ويؤكد الجنرالات الروس، أن صاروخًا واحدًا فقط من هذا النموذج قادر على “مسح لندن من على وجه الأرض”.
بوتين أكد كذلك أن قدرات “بوسيدون” على الغوص في الأعماق والسرعة لا نظير لها في العالم، بل زاد على ذلك بالتشديد على أنه “لا توجد أي وسيلة لاعتراضه في العالم حتى الآن”.
بوتين لم يكتفِ خلال اللقاء المشار اليه بالحديث عن “بوسيدون” فقط، بل أعاد التذكير مجددًا بالصاروخ النووي “بوريفيستنيك”، الذي اختُبِر منذ عدة أيام.
وكشف بوتين هذه المرة -على طريقة التشويق المقلق- عن بعض المعلومات والمواصفات الفنية لهذا الصاروخ الفريد، بالقول إن “مفاعله الذري أصغر بألف مرة من مفاعل الغواصات النووية”، وإنه “يمكن تشغيله خلال ثوانٍ معدودة”.
كما شدد على أن التكنولوجيا التي مكّنت من تصنيعه سوف تستخدم لاحقًا في البرنامج الفضائي القمري، وفي تطوير الطاقة المدنية.
وفي ختام حديثه، في الجزء المعلن طبعًا، لم يفوت الفرصة دون الإشارة إلى صاروخ “سارمات”، معلنًا أنه سيدخل الخدمة القتالية، ويوضع على أهبة الاستعداد القتالي خلال أسابيع؛ وبهذا يكتمل ما يمكن تسميته بـ”ثالوث الردع الروسي الجديد”، أي مزيج من البحر والجو والفضاء، يحاكي الماضي السوفيتي، لكنه بلا شك يتجاوزه، ويتفوق عليه تكنولوجيًّا.
من الناحية السياسية، لم يكن اختيار المكان عفويًّا -حسبما أرى- فالكلمة والاعلان جاءا من المستشفى العسكري المركزي، الذي يعالج فيه جرحى الحرب الأوكرانية، كما أشرت أعلاه، أي من قلب رمزية “التضحية الوطنية”، والتاريخ يعيد نفسه.
كما أن تزامن الإعلان مع تأكيد بوتين أن القوات الروسية تحاصر وتضيق الخناق على عدد كبير من الجنود الأوكرانيين، يقدر بما يزيد على 10 آلاف جندي، حسب الرواية الروسية الرسمية، في كوبيانسك كراسنوأرميسك (وهي ذاتها بوكروفسك في التسمية الأوكرانية)، يُظهر -في اعتقادي- رغبة موسكو والكرملين وبوتين في دمج النصر الميداني مع التفوق التقني في سردية واحدة.
بوتين عرض على الإعلام الغربي دخول هذه المناطق، أي كوبيانسك وبوكروفسك، للتحقق من الوضع، وقد اختار دعوة الإعلام الغربي تحديدًا؛ لأنه يشكك في الرواية الروسية، ولأنه لن يُستهدَف من الجيش الأوكراني، أو ممَن يوجهون المعارك من طرفه. وهذه بالطبع خطوة تعكس ثقة ميدانية نادرة، والأهم أنها تعكس توظيفًا ذكيًّا للأداة الإعلامية في الحرب النفسية.
لكن الرسائل الحقيقية من كل ما أعلنه بوتين تتجاوز أوكرانيا؛ فبوتين اختار لذلك يوم الأربعاء، أي عشية اللقاء المرتقب بين دونالد ترمب وشي جين بينغ، الخميس 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2025؛ ما يفتح الباب أمامنا -نحن المراقبين- للتساؤل عن البعد التزامني للحدث.
بالطبع بعض المراقبين يفضلون عدم الربط المباشر بين إعلان موسكو وموعد هذا اللقاء، لكن الرسالة -حسب اعتقادي- موجهة أساسًا إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو في إطار الصراع بشأن أوكرانيا، وتوازن القوى النووي. ومع ذلك، فبوتين مهتم -في رأيي- بأن يسمع شي جين بينغ ويرى ما تملكه موسكو وما تستطيع تقديمه، ليعيد حساباته مرة ومرات، فلا ينبغي أن نسقط من الحسبان مساعي ترمب لإغوائه بالابتعاد عن شراء النفط الروسي، وعن دعم روسيا مقابل تفاهمات بشأن التعريفات الجمركية والحرب التجارية.
لكن هذه الإعلان البوتيني -في اعتقادي- يُقرأ في بكين أيضًا جيدًا، ولكنه يقرأ كعنصر داعم لمعادلة التوازن العالمي، الذي تسعى موسكو مع بكين، ويسعى بوتين مع شي إلى تحقيقه، وليس كرسالة سلبية موجهة ضد الصين، بل كتأكيد على أن روسيا تُعيد تعريف الردع العالمي على أسس متعددة الأقطاب؛ لذلك اختار بوتين توقيت الإعلان ليرسل إشارات إلى الغرب بأن روسيا تمتلك قدرة ردع لا يمكن تحييدها حتى في ذروة العقوبات والتطويق العسكري، وأنها رغم حرب الاستنزاف في أوكرانيا ما زالت القطب النووي القادر على إملاء الإيقاع الإستراتيجي على خصومه.
في التحليل الواقعي، يعبر “بوسيدون” و”بوريفيستنيك” عن فلسفة روسية متجددة، مضمونها هو مواجهة التفوق الاقتصادي والتكنولوجي الغربي بأسلحة غير متماثلة تحيد ميزان القوة التقليدي.
فبينما تسعى الولايات المتحدة إلى تقويض القدرات الروسية عبر العقوبات والتطويق، تختار موسكو الرد عبر مجالات يصعب احتواؤها، مثل المجال النووي والفضائي، وتفرض بذلك ما يمكننا وصفه -إذا جاز التعبير طبعًا- معادلة “الردع بالاختراع”.
وفي ذلك استعادة لروح سباق التسلح الذي ميز الحقبة السوفيتية، لكن مع تلافي أخطاء الماضي، وبتوظيف اقتصادي أكثر حذرًا، وأقل كلفة.
بالطبع كانت الرسائل إلى الداخل الروسي أيضًا، وهي واضحة، وأراد بوتين أن يقول من خلاله لبني وطنه: لنرفع روحنا المعنوية، ففي الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد ضغوطًا غير مسبوقة، رفعت التضخم إلى 12.6% وفق بيانات البنك المركزي الأخيرة، لكن ما نقوم به يجعل الثقة بالدولة كبيرة، فهي قادرة على مواجهة الغرب بالعلم، وليس بالانعزال.
ورسالة أخرى إلى الغرب والأوروبيين تحديدًا هذه المرة؛ أن لا تسوية في أوكرانيا، ولا تفاوض على الأمن الأوروبي إلا بعد اعتراف صريح بعودة التوازن النووي على أسس روسية.
ففي موازاة تصريحات بوتين، أعلن المتحدث باسمه دميتري بيسكوف قرب نشر منظومة صواريخ “أوريشنيك” في بيلاروس، قائلًا إنها ستجعل “مينسك تشعر بالأمان غدًا”.
وهذه الخطوة هي أيضًا في السياق نفسه تعمق الطابع الإقليمي للتحالف العسكري الروسي البيلاروسي، والأهم أنها تكرس حدودًا ردعية جديدة على الجبهة الغربية “لدولة الاتحاد”، حيث تتقاطع، أو تتواجه، تحركات الناتو مع إستراتيجيات موسكو النووية المتجددة.
ومن هنا يمكن قراءة يوم 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 بوصفه منعطفًا في فلسفة الأمن والردع الروسي، إذ تنتقل موسكو بإعلان بوتين الأربعاء، بعد إعلان الاحد الماضي، من الدفاع إلى الردع الشامل، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها تنتقل من الحرب المحدودة في أوكرانيا إلى إعادة رسم ميزان القوى العالمي، بعدما سقطت أوراق ترمب -على ما يبدو- أو هكذا شعر بوتين، بعد تهديد الرئيس الأمريكي بتوريد توماهوك، بل صرح بإمكانية السماح لأوكرانيا باستخدامها لضرب مدن العمق الروسي.
هذا إعلان أن موسكو لم تعد تكتفي بصد العقوبات أو الرد على المناوشات الميدانية، بل قررت الانتقال إلى تثبيت شرعية القوة عبر التفوق العلمي في المجال العسكري، النووي تحديدًا.
وبقدر ما يبدو هذا التحول مقلقًا للغرب، فإنه يمثل للداخل الروسي نوعًا من “التعويض الرمزي” عن تكلفة الحرب الطويلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير