إستراتيجيات عسكريةتقدير موقف

قراءة في حرب الأعصاب بين موسكو والناتو.. بلا نار لكنها لا تخلو من خطر

بوتين يختبر الغرب.. فهل انتهي مفعول المادة الخامسة للناتو؟


  • 11 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: france24

يبدو أن المواجهة بين روسيا والغرب دخلت مع بداية خريف 2025 مرحلة جديدة، وهذه المرة خارج حدود ميادين القتال المباشر في أوكرانيا، لأنها -حسبما نتابع منذ منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي- باتت في فضاء أوسع، يمتد من بحر البلطيق حتى شمال الأطلسي.

فبعد ثلاث سنوات ونصف السنة ويزيد على اشتعال شرارة حرب أوكرانيا، وبعد لقاء أنكوريدج بين بوتين وترمب، وظهور بوادر تفاؤل لدى أنصار الحل الدبلوماسي والمؤمنين به، انقلبت الحال وتراجعت الآمال، وتحول التفاؤل إلى إحباط، فجاءت تصريحات سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، الأربعاء 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، التي قال فيها إن: “الزخم الذي أحدثته قمة أنكوريدج في ألاسكا قد استُنفد.. وتلاشى” لتكون العبارة التي تسدل الستار على آمال أنكوريدج.. على الأقل هذه هي قراءتي لها.

“الجهود التخريبية، خصوصًا من جانب الأوروبيين، هي التي أفقدت قمة ألاسكا زخمها”، هكذا يقول ريابكوف. ومن فهمي للأدبيات الدبلوماسية الروسية، فإن توجيه الاتهامات إلى “الأوروبيين” دون ذكر واشنطن يعني أن موسكو لا تزال تميز بين الولايات المتحدة تحت قيادة ترمب بوصفها محاورًا محتملًا.. وإن تضاءلت الاحتمالات وبين أوروبا بوصفها في أغلبها طرفًا تابعًا لقوى دعاة الحرب، وهذه على العموم هي مقاربة موسكو منذ 2022. ما أقصده أن بوتين والكرملين يعتقدان اعتقادًا راسخًا أن أي اختراق في الملف الأوكراني لا يمكن أن يأتي من بروكسل، أو برلين، أو باريس، دعك من لندن تماما، بل من تفاهم مباشر مع واشنطن.

ويبدو أن هذا السلوك الأوروبي المعاند، الذي قوّض آمال أنكوريدج -بحسب الرواية الروسية طبعًا- قد عزز تصور موسكو أن الحرب الإقليمية المحدودة مرشحة للانتقال إلى صراع أوسع، لا بد لها أن تستعد له بضربات رمزية استباقية تهدف إلى تقويض مصداقية الناتو، وإظهار عجزه عن الدفاع الجماعي.

هذا التحول في الفعل الروسي عبّر عنه بوتين بوضوح في منتدى فالداي، وهو ما تناولناه في مقال سابق، يعكس رغبة الكرملين في تحقيق ما يمكن وصفه بـ”نصر بديل” على الغرب، الذي يعوقه عن تحقيق النصر الحاسم في أوكرانيا، بل يجعله هدفًا مؤجلًا، أو مستحيلًا.

من تصريحات بوتين، الثلاثاء 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، الذي يصادف يوم عيد ميلاده الـ73، والذي اختار أن يظهر احتفاله به على شكل لقاء مع القادة العسكريين والأمنيين حصرًا، يمكن أن نفهم بوضوح أن القيادة الروسية باتت ترى أن الساحة الأوكرانية مشبعة من حيث الجدوى السياسية والعسكرية، بمعنى أن المكاسب الميدانية البطيئة لم تعد قادرة على إحداث تحول إستراتيجي، كما أن القتال لا يضيف سوى استنزاف طويل الأمد.

وإذا انتقلنا -في  السياق نفسه- إلى الجهة المقابلة من الجبهة، ونظرنا إلى التقارير الغربية التي تحدثت عن اختراق المسيرات الروسية لأجواء بولندا وألمانيا والدنمارك ورومانيا، حتى دون وقوع ضحايا، سنرى أنها كانت كافية لتوليد نقاش داخل أوروبا بشأن مدى جدية التهديد الروسي “المفترض”، والأهم هنا أنه إن صدقت هذه الاتهامات فهي تطرح سؤالًا عن عجز منظومات الدفاع الناتوية عن رصد الأهداف الجوية المنخفضة الارتفاع، وهذه بتلك.. سخرية الأوروبيين من عجز دفاعات روسيا رُدت إليهم. والرسالة هنا: إذا كانت أوكرانيا تحارب منذ أربع سنوات، فأنتم في أوروبا لم تشعروا بعد بما تعنيه الحرب.

بالطبع، إن افترضنا صدق الرواية الأوروبية، فهذا معناه أن هناك قرارًا روسيًّا بنقل مركز الثقل إلى أوروبا نفسها، من خلال سلسلة من العمليات “الرمزية” التي تمزج بين المسيرات والهجمات السيبرانية والاختراقات الإلكترونية لمنشآت مدنية حساسة. ومن الواضح أن الهدف -على الأقل حتى الآن- ليس تدمير البنية التحتية بقدر ما هو إحداث صدمة سياسية ونفسية في المجتمعات الأوروبية، وكسر شعور الأمان الذي كانت الحرب في أوكرانيا تدار بعيدًا عنه.

ما تفعله روسيا ليس سعيًا إلى حرب شاملة؛ بل عملية تهدف إلى اختبار أعصاب الغرب، وإرسال رسالة جدية للمجتمعات الأوروبية لتستفيق وتضغط على نخبها السياسية والعسكرية، التي يراها الكرملين بتصرفاتها المؤججة للصراع مع روسيا خائنة لمصالح دولها الوطنية والقومية، ومنساقة وراء أهداف الدولة العميقة في الولايات المتحدة.

بوتين يدرك جيدًا أن أي هجوم صريح على دولة عضو في الناتو سيفتح الباب لتفعيل المادة الخامسة الخاصة بالدفاع الجماعي، لكنه -بذكاء- يراهن في الوقت نفسه على أن الحلف لن يغامر بتصعيد شامل من أجل “حادثة رمادية” يصعب إثباتها، هذا أولًا، وثانيًا وهذا مهم، أن موسكو لا تزال تنفي وتنكر رسميًّا أن تكون وراء هذه الحوادث.

هذا النمط مما يمكن تسميته بالحرب الرمادية يمنح روسيا هامشًا للمناورة، ويكشف في الوقت نفسه هشاشة الموقف الأوروبي الموحد، والتناقض الواضح داخل المعسكر الغربي بين من يرى ضرورة الرد الصارم على بوتين ومن يدعو إلى ضبط النفس لتفادي الانجرار إلى مواجهة مباشرة لا يستطيع أحد التكهن بمسارها وما ستؤول إليه.

بالطبع، نجاح هذا التكتيك ليس مضمونًا، فبينما تسعى موسكو إلى خلق انقسام داخل الناتو، رأينا قممًا متتالية داخل العواصم الأوروبية تحت ذريعة هذه الهجمات، والهدف المعلن من هذه اللقاءات الأوروبية كان الإسراع إلى تبني مشروعات دفاع مشتركة. ومؤتمر كوبنهاغن الأخير، بعد لقاء وارسو الأمني، بشان الأمن الأوروبي، أقر عمليًّا فكرة “جدار المسيرات” على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي لصد التهديد الروسي. والهدف الثاني هو استغلال هذه الذريعة لتعبئة الأوروبيين أنفسهم من أجل تقليل الاعتماد البيروقراطي على واشنطن، وهو  ما يمكن أن نستخلص منه أن موسكو وهي تسعى إلى تفكيك الناتو من الداخل، قد تكون أسهمت في تسريع إعادة تسليحه.

لقد شكل لقاء بوتين وترمب في أنكوريج -بحسب التحليلات الروسية والغربية- نقطة انعطاف نفسية أكثر منها سياسية؛ فبوتين خرج بانطباع أن ترمب لا يعتزم خوض صراع مباشر مع روسيا، وينظر إلى أوكرانيا بوصفها عبئًا. وقد يكون هذا الاستنتاج قد فتح أمام موسكو مساحة للتجريب في السياسة الخارجية، وخصوصًا في أوروبا.

لكن هذا التجريب، إن كان تحليلنا صحيحًا، محفوف بالمخاطر؛ فالرغبة الروسية في اختبار مدى صلابة الناتو قد تؤدي من خلال حادث غير مقصود، نتيجة خطأ في التقدير، أو انحراف مسيرة، أو طائرة، أو صاروخ طائش، إلى تطورات يصعب فيما بعد التحكم فيها، ولنا في سبب اندلاع الحرب العالمية الأولى خير مثال.

من منظور موسكو، حسبما أفهم بالطبع، تسبب الأوروبيون تحديدًا في عرقلة الهدف الرئيس للعملية العسكرية الخاصة؛ لذلك أصبح الهدف الروسي الآن كسر ما تسميه بالأسطورة الأطلسية، بمعنى أن أوروبا، برغم ضعفها العسكري، واستقلالها المحدود عن واشنطن، ما زالت تتكئ على ضمانة أمريكية لا يمكن اختبارها إلا عمليًّا، وهنا بالضبط يمكن أن نفهم لماذا تدخل المسيرات والاختراقات الإلكترونية كأدوات لتقويض هذه الثقة الأوروبية، فإذا لم يتحرك الناتو، رغم اتهامه لروسيا باختراق أجواء بولندا وإستوينا، فكيف سوف يقنع الرأي العام بأنه قادر على حماية الآخرين.

في هذا المناخ المشحون، جاءت تصريحات ترمب الأخيرة بأنه تقريبًا اتخذ قرار تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك لتزيد الطين بلة؛ فهذه الصواريخ بمدى يصل إلى 2500 كم، قادرة -نظريًّا- على إلحاق ضرر موجع بالعمق الروسي، مقارنة بالمسيرات طبعًا، وذلك حتى قلب موسكو وبطرسبورغ، وهذا إن حدث فلن تتبقى هناك أي خطوط حمراء؛ لذلك كانت رسالة بوتين التحذيرية واضحة في منتدى فالداي، ثم كررها خلال لقاء القادة العسكريين: أي ضربة ستُنفَّذ بهذه الصواريخ سنعتبرها هجومًا مباشرًا من دولة الناتو التي قدمتها، أي من الولايات المتحدة نفسها.

هنا المعادلة تضع واشنطن أمام معضلة كلاسيكية، فمن المفهوم أن ترمب -هكذا نأمل طبعًا- يريد استخدام توماهوك فقط كورقة للضغط على موسكو دون الانخراط المباشر في المواجهة، لكنه من جهة أخرى، ومن نص تصريحاته شخصيًّا، يخشى أن يفقد السيطرة على استخدام كييف لهذه الصواريخ؛ ولذلك ربما تبدو تصريحات ترمب المتناقضة مقصودة، فهو يهدد بالتصعيد نعم، لكنه مع ذلك يترك هامشًا للعودة إلى التفاوض، وكأنه يحاول إبقاء موسكو في حالة توتر، دون الوصول إلى الصدام المباشر.

ومع ذلك، يدرك صانع القرار في الكرملين أن الحروب الرمزية لا تقل خطورة عن الحروب الفعلية؛ لأنها قد تخلق تصورات وهمية عن موازين القوى، ولأن الشعور الزائف بالقوة قد يدفع -في لحظة معينة- إلى قرارات لا رجعة فيها.

من كل هذا المشهد التصعيدي في الفضاء الأوروبي المجاور لأوكرانيا، نستخلص أن رد الفعل الأوروبي -حتى الآن- يجمع بين الخوف والبرود، فالعواصم الأوروبية -من قراءة سلوكها وتصريحاتها- باتت تدرك محدودية اعتمادها على واشنطن في ظل سياسات ترمب؛ ولذلك بدأت تبحث عن استقلال دفاعي، لكن هذه العملية ستكون عملية طويلة ومكلفة ماليًّا واجتماعيًّا، وعلى الاغلب سياسيًّا، للنخب الحالية.

في المقابل، يبدو أن الكرملين -بسبب تعطيل الأوروبيين نصره في أوكرانيا- يبحث عن صيغة بديلة تقدم داخليًّا على أنها نصر سياسي على الغرب المعادي لروسيا.

من منظور التحليل الروسي الواقعي، تمثل مرحلة خريف 2025 لحظة دقيقة في معادلة المواجهة والردع المتبادل مع الغرب، وخصوصًا الأوروبيين، فموسكو لا تزال -في حدود فهمي لموقفها- تضع الرهان على أن ترمب لن يغامر بمواجهة مباشرة معها، وأن أوروبا في ضوء هذه المستجدات ستسعى إلى حماية نفسها بعيدًا عن أوكرانيا. وأوروبا نفسها تراهن على أن روسيا لن تتجاوز الحرب الرمزية معها إلى مواجهة مفتوحة، وهنا نجد أنفسنا -نحن المراقبين- في حيرة؛ فنحن أمام حالة، لا هي حرب، ولا هي سلام.

ختامًا، تؤكد التطورات الراهنة أن موسكو تنتقل من الحرب الميدانية مع أوكرانيا إلى حرب “رمزية” ضد الغرب، الذي فرضها هو نفسه بسلوكه، وعناده، لكن هذه الحرب الجديدة -مثل كل الحروب الرمزية- لا يمكن الفوز فيها إلا بخطأ يرتكبه الخصم، أو بخطأ قاتل يرتكبه صاحبها، وهنا مكمن الخطر في كل ما نراقبه من تصعيد ناتوي- روسي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع