شهد إقليما البنجاب والبنغال -المقاطعات التي يقطنها عدد متساوٍ نسبيًّا من الهندوس والمسلمين في جنوب آسيا- أعمال عنف جماعية استمرت آثارها حتى الوقت الحاضر، ونتج عنها تقسيمات قومية عُرفت بـ”تقسيم القلوب”، أعطت الأولوية للتوترات الطائفية على حساب الروابط الثقافية المشتركة. وقد قُسِّم إقليم البنجاب عام 1947، وتشكلت دولتان قوميتان هما الهند وباكستان، في حين شهد إقليم البنغال تقسيمات متكررة طوال تاريخه خلال أعوام (1905 و1947 و1971)، انتهت مع ظهور دولة بنغلاديش.
لقد عززت سياسات ما قبل الاستعمار فكرة “الآخر” في إقليم البنغال، بالإضافة إلى فشل وضع حلول لمسألة “المواطنة” للمسلمين البنغاليين في الهند، والعنف ضد المؤسسات الهندوسية في بنغلاديش. ولقد فرقت هذه العملية من صناعة “الآخر” بين البنغاليين الذين يشتركون في اللغة والثقافة والعادات على أساس الدين؛ مما أدى إلى تعثر عملية صنع الدولة في المنطقة، ولم تُرسَّم الحدود رسميًّا بين الهند وبنغلاديش إلا في عام 2015.
تاريخيًّا، خضعت أراضي البنغال للتاج البريطاني عام 1858. وخلال الحكم الإمبراطوري البريطاني الذي استمر قرابة قرن من الزمان (1858- 1947) في شبه القارة الهندية، اكتسبت البنغال صعودًا سياسيًّا، حيث أصبحت كلكتا عاصمة الإمبراطورية البريطانية في الهند، وظلت كذلك حتى عام 1911. قبلت النُخبة البنغالية المُتعلمة في إنجلترا، أو المتأثرة بنمط الحياة الإنجليزي، بالاستعمار، لكن سرعان ما أدى العنف الطائفي بين المسلمين والهندوس إلى أول تقسيم لإقليم البنغال عام 1905، وكان النصف الغربي يضم سكانًا هندوسًا، في حين كان الجناح الشرقي للمُسلمين. وبينما ادعت السلطات الاستعمارية البريطانية أن التقسيم كان ضروريًّا “للإصلاح الإداري”، عارض البنغاليون القوميون التقسيم، واعتبروا أنفسهم متحدين في المقام الأول من خلال ثقافتهم، وليسوا منقسمين بسبب الدين.
شهد عام 1906 صعود المثقفين المسلمين في البنغال مع تأسيس الرابطة الإسلامية، وكانوا مِن دعاة “الانفصال”. وقد تنافس المثقفون المسلمون تاريخيًّا مع البنغاليين الهندوس على النفوذ السياسي والاقتصادي، وقد وجدوا في التقسيم فرصتهم في التغلب على التفاوت الاقتصادي في النمو بين الأرستقراطية الهندوسية والفلاحين ذوي الأغلبية المسلمة. وقد أسهم الصراع بين النخبتين المسلمة والهندوسية في تأجيج التوترات الدينية التي بلغت ذروتها عام 1946، وشهد الإقليم مذابح بشعة في الشوارع، أقنعت الزعماء السياسيين بأن تقسيم الهند البريطانية أمر لا مفر منه.
ومع أن تقسيم عام 1947 تم بذريعة الاختلافات الدينية، فإن أسبابه الكامنة كانت الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية بين المجتمعات، وسرعان ما أدت الخلافات المتنامية بين غرب باكستان، حيث يسكن أغلب ملاك الأراضي الناطقين بالأردية، وشرقها، حيث يسكن الفلاحون الأفقر والناطقون بالبنغالية، إلى نشوء توترات عرقية- لغوية ذات بُعد اقتصادي. وعندما رفضت غرب باكستان تقاسم السلطة مع جناحها الشرقي، قُسِّم إقليم البنغال للمرة الثالثة، حيث اختار المسلمون البنغاليون الانفصال عن نظرائهم المُسلمين الناطقين بالأردية في الغرب، فأسسوا دولة بنغلاديش عام 1971.
لقد أثبت تقسيم شبه القارة الهندية إلى الهند، وباكستان، وبنغلاديش، فشل نظرية الأمتين، حيث صُوِّر أن الفصل بين الهندوس والمسلمين يساعد على إنهاء التوترات داخل المنطقة، وبالرغم من أن الهند قدمت المساعدة في تأسيس بنغلاديش إلا أن المخاوف بين المسلمين والهندوس البنغاليين مازالت مُستمرة، ويوجد انعدام ثقة في “الآخر” إلى الوقت الحاضر، وتنظر المجتمعات بعضها إلى بعض بوصفها “عدوًّ” يشكل تهديدًا محتملًا.
إن انعدام الثقة بـ”الآخر” داخل المجتمع الهندي والبنغلاديشي هو إرث دائم للتقسيم، وقد أثر سلبًا في العلاقات الثنائية بين الهند وبنغلاديش. وعلى الرغم من الخطوات الكبيرة التي قطعتها العلاقات بين الهند وبنغلاديش في السنوات الأخيرة، فإن استمرار حزب بهاراتيا جاناتا القومي بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، والإطاحة برئيسة الوزراء البنغلاديشية الشيخة حسينة، جعل العلاقات بين البلدين عرضة لتدهور نتيجة تصاعد التوتر الديني، والنزاع المستمر بشأن تقاسم المياه والحركة بين جانبي الحدود.
حاول حزب بهاراتيا جاناتا القومي إعادة تعريف أقليات الهند، وخاصة المسلمين، على أنهم “عملاء أجانب” ليسوا جزءًا من الهند “الهندوسية”؛ مما أدى إلى تدهور العلاقات الاجتماعية بين الأغلبية الهندوسية والأقلية المسلمة في الهند. وقد وصف وزير الداخلية أميت شاه المسلمين البنغاليين الأصليين بـ”النمل الأبيض”، وأنهم دخلوا البلاد دخولًا غير قانوني من بنغلاديش، وتعدوا على الأراضي والأصول المملوكة للهندوس البنغاليين. كما شهدت بنغلاديش أعمال عنف طائفية، حيث أدى الاستهداف المنهجي للهندوس البنغاليين إلى هجرة جماعية، ونزوح إلى الهند.
كما تسببت القوانين الهندية الجديدة، مثل تعديل الجنسية، والسجل الوطني للمواطنين، في توتر العلاقات مع بنغلاديش، وهذا الاستقطاب يعزز فكرة “إقصاء” الأقلية في أي من البلدين؛ ومن ثم يؤدي إلى إشعال فتيل كارثة إنسانية أخرى بحجم التقسيم؛ مما قد يؤثر في الأمن الإقليمي الجماعي في جنوب آسيا. وقد بدأت هذه العملية بالفعل مع اعتبار المسلمين البنغاليين في الهند مواطنين بنغاليين، في حين يواجه الهندوس البنغاليون التمييز الصريح في بنغلاديش بسبب الآثار الجانبية للأغلبية الهندوسية في الهند.
إذا كانت الهند وبنغلاديش راغبتين في تطوير علاقات دائمة دون الخضوع للتوترات الطائفية، فيتعين على الدولتين زيادة التفاعل بين شعبيهما، والتصدي للخطاب المتطرف من جانب الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية. وسوف يستفيد البنغاليون على جانبي الحدود -إلى حد كبير- من الحد من العنف الديني، وزيادة التعاون الاقتصادي والسياسي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.