من أروع ما قاله المسرحي والروائي الروسي أنطون تشيخوف، عام 1889: “لا ينبغي للمرء وضع بندقية محشوة بالرصاص على المسرح إذا لم يكن ينوي إطلاق النار في الفصول التالية من المسرحية”.
ومن يدّقق في الخطاب السياسي والعسكري الألماني يكتشف أن هناك بنادق كثيرة تُوزَّع هنا وهناك، بل وصل الأمر بوزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس إلى القول في شهر مارس (آذار) الماضي: “إن ألمانيا يجب أن تستعد لسيناريو حرب محتملة مع روسيا بحلول عام 2029”.
ووفق عدد من الصحف الألمانية، ومنها صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ”، والمتحدث باسم وزارة الدفاع ميتكو مولر، هناك “خطة حرب” سُميت “الخطة العملياتية”، تحدد الدور الذي سوف تقوم به القوات الألمانية في حالة نشوب صراع مع روسيا. ورغم كل ما قيل عن أن هذه الخطة سرية، فإن معالمها باتت مكشوفة ومعروفة، وتحدد دورًا ألمانيًّا في نقل عشرات الآلاف من القوات من الغرب إلى الجناح الشرقي في حلف دول شمال الأطلسي (الناتو). وتشرح هذه الخطة، التي تقع في 1000 صفحة، الإجراءات التي يمكن من خلالها “احتواء روسيا”، وهنا سوف تكون ألمانيا هي مركز توزيع الجنود والسلاح والذخيرة والغذاء على الجيوش الأوروبية والغربية التي تتحرك ناحية الحدود الروسية. والأكثر أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الألمانية تحدث كثيرًا عن هذه الخطة وقال: “إن التدريب على المرحلة الأولى منها بدأ بالفعل”.
يتزامن مع ذلك سباق محموم لشراء السلاح والذخيرة للجيش الألماني منذ وضع 100 مليار يورو في صندوق خصصه المستشار الألماني المنتهية ولايته أولاف شولتز في فبراير (شباط) 2022 لإعادة تأهيل الجيش الألماني وتحديثه، وأولى خطوات هذا الصندوق كانت اتفاق برلين مع واشنطن على نشر “صواريخ توماهوك” على الأراضي الألمانية عام 2026، وهي صواريخ يمكن أن تصل إلى عمق الأراضي الروسية.
ليس هذا فقط؛ فألمانيا، التي كانت تبتعد عن “عسكرة الأحداث”، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية باتت صاحبة كثير من المبادرات العسكرية في أوروبا، مثل اقتراح برلين تأسيس درع صاروخية أوروبية موحدة لحماية أوروبا، أطلق عليها “درع السماء”. كما أن ألمانيا اليوم مع فرنسا تقود الدول الأوروبية لإرسال السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا للتعويض عن نقص السلاح الأمريكي الذي تراجعت نسب توريده إلى أوكرانيا منذ عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي. وكل هذا يطرح مجموعة من الأسئلة، منها: هل “عسكرة ألمانيا” تتفق مع حماية الأمن الأوروبي على المدى البعيد؟ وهل انتهت المخاوف الأوروبية من تحول ألمانيا إلى “قوة عسكرية عظمى”؟ وماذا عن فرنسا وألمانيا، وصراعهما التاريخي مع الرايخ الألماني الأول والثاني والثالث؟ وإلى أي مدى سوف تكون خطوات “الحشد العسكري” الألماني الجديدة مقدمة لإعلان “الرايخ الرابع”؟
تقول الحكومة الألمانية إنها تخلت عن الحذر في تسليح الجيش الألماني، وهو الحذر الذي رافق جميع الحكومات الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لسببين: الأول هو تقدير الحكومة الألمانية باحتمال شن روسيا حربًا جديدة على دول “الناتو” -ومنها ألمانيا- خلال السنوات الأربع المقبلة رغم النفي الروسي الكامل لوجود هذا التوجه أو تلك الخطط. والسبب الثاني هو تبني الرئيس الأمريكي دونالد ترمب “خطابًا انعزاليًّا”، وتهديده بسحب نحو 100 ألف جندي أمريكي من أوروبا، منهم نحو 50 ألف في ألمانيا، وهو ما يفرض على الحكومة الألمانية العمل على توفير البديل لحماية أراضيها حال تفكك حلف “الناتو”، أو سحب ترمب قواته من ألمانيا. ويتذكر القادة الألمان خطة ترمب لنقل 9500 جندي أمريكي من ألمانيا في أثناء ولايته الأولى.
الحقيقة المؤكدة لدى الأوروبيين أن القوة العسكرية لألمانيا دمرت أوروبا مرتين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأزهقت أرواح نحو 100 مليون من البشر؛ ولهذا لم تكن مهمة “الناتو” مواجهة “حلف وارسو”، بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، فحسب؛ بل “احتواء ألمانيا”، وعدم عودة الجيش الألماني مرة أخرى إلى المستويات التي كان عليها منذ تأسيسه عام 1871. ويعود خوف الأوروبيين من تسليح ألمانيا إلى عدد من الخطوات التي باتت تقلقهم، ومنها:
1- صعود التيارات المتطرفة
تزامن تسليح الجيش الألماني مع صعود التيارات اليمينية المتطرفة في الحياة السياسية الألمانية والأوروبية، خاصةً حصول حزب “البديل من أجل ألمانيا” على المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتزايد الإعجاب الأمريكي بحزب البديل، حيث التقى نائب الرئيس الأمريكي “جي. دي. فانس” بـ”أليس فايدل”، زعيمة حزب البديل، في فبراير (شباط) الماضي، وطالب ترمب الأحزاب الألمانية بمشاركة حزب البديل من أجل ألمانيا في الحكومات المقبلة.
2- زيادة الإنفاق العسكري
بهدف تحديث الجيش الألماني، تضاعفت الميزانية العسكرية من 37 مليار يورو عام 2017 إلى 75 مليارًا عام 2024، وتأكيد المستشار الألماني في سبتمبر (أيلول) الماضي أن هدف برلين هو جعل الجيش الألماني هو الجيش “الأول” في أوروبا؛ بما يعني أنهم يخططون للتفوق على الجيوش الفرنسية والبريطانية والإيطالية، وهي أكبر 3 جيوش وأفضلها تجهيزًا في أوروبا. وينوي المستشار الألماني الجديد إنفاق مزيد من الأموال على تحديث الجيش الألماني، في ظل الخطة التي أعلنها بتوفير نحو تريليون يورو في السنوات المقبلة، والتخلي عمليًّا عن سقف العجز في الميزانية، وهو 3% من الناتج القومي، وهو الشرط الذي كانت المفوضية الأوروبية تشترطه في السابق. وهذا القرار سوف يمنح الجيش الألماني “خطًا ثابتًا للتمويل”. ونتيجة لهذا كله، فإن الإنفاق على الشؤون الدفاعية الألمانية سوف يتجاوز 2% من الناتج القومي، وهي النسبة التي حددتها قمة حلف “الناتو” في ويلز عام 2014؛ لأن الـ100 مليار يورو لشراء معدات وذخيرة حديثة للجيش الألماني، التي خصصتها برلين في فبراير (شباط) 2022 سوف تُنفَق كلها نهاية عام 2028.
3- العودة إلى التجنيد الإجباري
توقف التجنيد الإجباري منذ عام 2011، فخلال الحرب الباردة كان عدد الجيش الألماني يصل إلى نحو 500 ألف جندي، وبعد توحيد ألمانيا عام 1989 تراجع عدد الجيش إلى نحو 200 ألف. واليوم هناك خطة للعودة إلى 460 ألف مقاتل قبل عام 2030. فمن وجهة نظر مخططي الإستراتيجية الألمانية، فإن الجيش يحتاج إلى نحو 100 ألف جندي إضافي للدفاع عن الأراضي الألمانية، والجناح الشرقي لحلف الناتو، أي الوصول إلى 460 ألف جندي، بما في ذلك قوات الاحتياط. لكن هذا الأمر ليس سهلًا، ويحتاج إلى ما يسمى بنموذج تجنيد جديد، فيه مزايا مالية تفوق العمل في القطاع المدني الألماني الذي يقدم أعلى المرتبات والمزايا المالية في أوروبا. والهدف أن يكون نموذج التجنيد الجديد مكملًا للتجنيد الإجباري الذي تنوي ألمانيا العودة إليه والعمل به. ولدى ألمانيا في الوقت الحالي نحو 360 ألف عنصر في الجيش، لكن 181 ألف عنصر فقط يرتدون الزي العسكري، أما البقية فمتوزعون على الوظائف المدنية. وهناك نحو 64 ألفًا ينتمون إلى القوات البرية، و30 ألفًا في القوات الجوية، و17 ألفًا يتبعون القوات البحرية. واشترطت اتفاقية “2+4″، التي وضعت الأساس لإعادة توحيد ألمانيا، ألا يزيد الحد الأقصى على 370 ألف جندي، لكن الحكومات الألمانية تقول إن سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، والحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، غيرت كل المعادلات التي تتعلق بالجيش الألماني.
4- طائرات أمريكية بدلًا من الأوروبية
تحديث “الطائرات” بالكامل في سلاح الجو الألماني، من خلال شراء طائرات الشبح الأمريكية “إف- 35” لتحل محل الطائرة “تورنيدو” الأوروبية. وخلال زيارة وزير الدفاع الألماني الأخيرة لواشنطن وقع اتفاقيات لشراء سلاح وذخيرة أمريكية بـ23 مليارًا، من خلال التعاقد على 380 عقدًا مع شركات أمريكية، وكان هذا استجابة لتقارير من البرلمان الألماني تقول إن الجيش الألماني “لديه القليل جدًّا من كل شيء”، وإن هناك نقصًا حادًّا في الذخيرة والجنود، وإن ثكنات الجنود متهالكة. ويعاني نحو 60% من طائرات الهليكوبتر العسكرية الألمانية مشكلات فنية، ولا تستطيع الطيران؛ ولهذا اتُّفِق على شراء طائرات “بلاك هوك” الأمريكية، التي لها شهرة كبيرة في سوق طائرات الهليكوبتر العسكرية. ومع أن ألمانيا تعد أحد أكبر مصدري السلاح في العالم، إذ تحتل المركز الخامس بنسبة 4.2% من التصدير العالمي بين عامي 2018 و2022، فإن تطور مبيعات الشركات الألمانية لم ينعكس إيجابًا على الجيش.
5- تنامي الأنانية العسكرية الأوروبية
البعض في أوروبا يقرأ إعادة تسليح ألمانيا على أنه دعم وتحفيز للنزعة الأحادية داخل التكتل الأوروبي، وهو ما يدفع كل دولة إلى أن يكون لها جيش فعال على نحو منفرد؛ لتأمين مصالحها الخاصة بعيدًا عن الأمن الأوروبي الجماعي. وهذه النزعة الأنانية يمكن أن تعود بأوروبا من جديد إلى حالة الصراع والتفكك التي كانت عليها في النصف الأول من القرن العشرين.
6- السلاح النووي مجرد وقت
يخشى كثير من الأوروبيين أن تتحول إعادة تسليح الجيش الألماني إلى “كابوس جديد” لأوروبا كما جرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن ألمانيا، التي لديها كبار العلماء في الطاقة النووية، قادرة على امتلاك السلاح النووي خلال 6 أشهر فقط، وأن تفكك الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” يمكن أن يقود ألمانيا في نهاية المطاف إلى امتلاك السلاح النووي، والعمل على تأسيس “الرايخ الرابع” على حساب جيرانها الأوروبيين.
رغم القلق الأوروبي من خطوات إعادة تسليح الجيش الألماني، فإن السكوت الأوروبي الحالي ينبع من القلق حيال خطوات الرئيس الأمريكي تجاه أوروبا و”حلف الناتو”، والخوف من أن تسهم المعارضة الأوروبية لخطوات التسليح الألمانية في تقارب جديد بين روسيا وألمانيا، على غرار التقارب الذي حدث بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا عقب “اتفاقية فرساي”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.