
في سياق التوترات المستمرة بين الهند وباكستان، يُعد الصراع الجوي أحد أبرز العناصر التي تشكل موازين القوة في شبه الجزيرة الهندية. منذ استقلال الدولتين عام 1947، شهدت المنطقة أربع حروب كبرى، بالإضافة إلى مواجهات محدودة أخرى، حيث كان الدور الجوي حاسمًا في تحديد النتائج. ومع ذلك، أظهرت القوة الجوية الهندية (IAF)، في السنوات الأخيرة، علامات ضعف واضحة، خاصة بعد الخسائر التي تكبدتها في مواجهات مع باكستان، وأحدثها في عملية “سندور” عام 2025، تلاها سقوط طائرة “تيجاس” في عرض جوي بدولة الإمارات العربية المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025. هذه الأحداث لا تعكس فقط مشكلات فنية وتشغيلية؛ بل تكشف عن تحديات هيكلية أعمق تتعلق بالتخطيط، والتمويل، والتدريب.
بدأ الصراع الجوي بين الهند وباكستان مع اندلاع الحرب الأولى في كشمير عام 1947- 1948، حيث كانت القوات الجوية في مراحلها التأسيسية. استخدمت القوة الجوية الهندية طائرات “هارفارد” و”دكوتا” لدعم القوات البرية، في حين اعتمدت باكستان على “تيمبست” البريطانية. كانت المواجهات محدودة، لكنها أسست لدور الجو في الدعم اللوجستي. في حرب 1965، شهدت المواجهة تصعيدًا جويًا كبيرًا، حيث خسرت الهند نحو 35 طائرة مقابل 20 باكستانية، وأظهرت باكستان تفوقًا في القتال الجوي بفضل طائرات “إف- 86 سيبر” الأمريكية، مما أجبر الهند على الاعتماد على الدفاع الجوي الأرضي.
أما حرب 1971، التي أدت إلى استقلال بنغلاديش، فكانت انتصارًا هنديًا ساحقًا، حيث دمرت القوة الجوية الهندية 94 طائرة باكستانية مقابل خسائرها البالغة 45 طائرة فقط. استخدمت الهند طائرات “هانتر” و”سوجوي- 7″ بفاعلية، مما أسهم في تفكيك القوة الجوية الباكستانية في الشرق. ومع ذلك، كانت الخسائر في الغرب متكافئة نسبيًا، مما يشير إلى أن التوازن الجوي كان دائمًا هشّا. بعد ذلك، شهدت المنطقة مواجهات محدودة، مثل حرب كارجيل عام 1999، حيث لم تسمح الهند بتجاوز خط السيطرة (LoC)، لكن الدعم الجوي كان حاسمًا في طرد القوات الباكستانية.
في العقود الأخيرة، تحول الصراع نحو العمليات المحدودة. في عام 2016، نفذت الهند “ضربات جراحية” برية عن طريق خط السيطرة، ردًا على هجوم أوري، لكن الدور الجوي كان محدودًا، ثم جاءت أزمة 2019 بعد هجوم بلومة الذي قتل 40 جنديًا، مما دفع الهند إلى إجراء غارة بالاكوت في 26 فبراير (شباط) 2019، استخدمت 12 طائرة “ميراج 2000” لإلقاء قنابل “سبيس 2000” على معسكر “جيش محمد” في بالاكوت، داخل باكستان. ادعت الهند قتل 350 إرهابيًا، لكن صور الأقمار الصناعية أظهرت عدم وجود أضرار كبيرة. ردت باكستان بعملية “سويفت ريتورت” في 27 فبراير (شباط)، حيث أسقطت طائرة “ميغ-21” هندية، وأسر الطيار أبهي ناندان فارتامان. هذه الأزمة أبرزت ضعف الاستخبارات الهندية، وصعوبة الضربات الجوية عبر الحدود.
عام 2025، تصاعد التوتر مع هجوم في ماهالغام بكشمير في أبريل (نيسان)، مما أدى إلى عملية “سندور” في مايو (أيار). أطلقت الهند غارات على تسعة معسكرات إرهابية، لكنها اعترفت بخسائر في خمس طائرات، منها ثلاث من طراز “رافال”، مقابل عدم خسائر باكستانية. استخدمت باكستان طائرات “جيه- 10 سي” الصينية مع صواريخ “بي إل- 15” لتحقيق تفوق في القتال خارج نطاق الرؤية (BVR). هذه الأحداث تُظهر تحولًا من القتال التقليدي إلى حرب صواريخ وطائرات بدون طيار، حيث أصبح التوازن الجوي أكثر تعقيدًا بسبب التدخل الصيني في تسليح باكستان.
عملية “سندور” في مايو (أيار) 2025 تمثل ذروة الخسائر الجوية الهندية في السنوات الأخيرة. هذه الخسائر، التي أكدتها تقارير أمريكية وفرنسية، أثارت جدلًا داخليًا في الهند. أقر الجنرال أنيل تشوهان، رئيس هيئة الأركان المشتركة، بـ”خسائر حتمية في القتال”، لكنه رفض التفاصيل. مقارنة بعام 2019، حيث خسرت الهند طائرة واحدة مقابل ادعاء إسقاط “إف- 16” باكستانية (نفته باكستان)، يُظهر عام 2025 تدهورًا واضحًا. في عام 2019، كانت الخسائر ناتجة عن اشتباكات قريبة، أما في عام 2025 فكان (BVR)، مما يشير إلى تفوق باكستاني في الرادار والصواريخ. أدت هذه الخسائر إلى انخفاض معنويات القوة الجوية الهندية، وشكلت “أكبر أزمة منذ 1999″، كما أثرت في الرأي العام، مع انتقادات للحكومة بسبب “التفاخر غير المدعوم” بالقدرات الجوية. استخدمت باكستان الدعاية لتعزيز صورتها بوصفها قوة ردعية، مما غيّر التصور الإقليمي للتوازن.
في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، خلال معرض دبي الجوي، سقطت طائرة “تيجاس” الهندية في أثناء عرض جوي، مما أسفر عن مقتل الطيار. حدث السقوط بعد مناورة لفة منخفضة، حيث انفجرت الطائرة في كرة نارية على بعد ميل من الموقع، وفقًا لصور نشرتها وسائل إعلام هندية ودولية. أعلنت القوة الجوية الهندية تشكيل لجنة تحقيق، مشيرة إلى أن هذا الحادث الثاني لـ”تيجاس” منذ إدخالها الخدمة عام 2015. ويأتي هذا السقوط بعد أشهر من خسائر 2025، مما يعزز الشكوك بشأن موثوقية الطائرة المحلية الصنع، التي كانت رمزًا لبرنامج “أتمانيربهار بهارات” (الهند المُكتفية/ دلالة على صنع في الهند). على الرغم من توقيع عقد لشراء 97 وحدة في سبتمبر (أيلول) 2025، أظهرت التحقيقات الأولية مشكلات في المحركات والإلكترونيات، مشابهة للحوادث السابقة.
عبّرت الإمارات عن تضامنها، لكن الحادث أحرج الهند دوليًا، خاصة أمام شركاء مثل الإمارات التي تسعى إلى التعاون العسكري. هذا الحدث ليس معزولًا؛ فقد سجلت “تيجاس” حوادث سابقة بسبب عيوب تصميمية، مما يعكس فشلًا في الاختبارات الشاملة قبل الإنتاج الضخم. في سياق الصراع مع باكستان، تُضعف هذه الحوادث الثقة بالقدرات المحلية، حيث تعتمد الهند على “تيجاس” لتعويض نقص الأسراب.
تتعدد أسباب التدهور في القوات الجوية الهندية، ويمكن تصنيفها إلى فنية، وإدارية، ومالية، مع ترابط وثيق.
أولًا: نقص الأسراب القتالية: في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، كانت القوات تمتلك 29 سربًا قتاليًا مقابل الـ42 المطلوبة، وهو انخفاض تاريخي يعود إلى تقاعس في الاستبدال بعد سحب “ميغ- 21″ و”جاغوار”. يتوقع الوصول إلى 35-36 سربًا بحلول عام 2035 فقط، حتى مع نجاح “تيجاس مك 1 إيه”، و”مك 2”. هذا النقص يحد من القدرة على تغطية الجبهتين (باكستان والصين)، مما يجعل الدفاع الجوي عرضة للاختراق.
ثانيًا: مشكلات التدريب والطيارين: تعاني القوات الجوية نقص 405 طيارين، حيث يغادر 30% سنويًا إلى الخطوط المدنية بسبب رواتب أعلى (أربعة أضعاف) وأقل ضغطًا. ساعات الطيران السنوية انخفضت إلى 150 ساعة مقابل 200 في الناتو، بسبب نقص الوقود والمعدات. كما أن تدريباتها تعتمد على منصات قديمة، مثل “بيلاتوس بي سي-7 مك 2″، التي سجلت تسرب زيت في 40% من الوحدات، وفقًا لتقرير المراجع العام (CAG) لـ2016- 2021. هذا يؤثر في المهارات بالقتال، كما حدث عام 2025.
ثالثًا: التأخيرات في التوريد والإنتاج: برنامج “تيجاس” استغرق 30 عامًا بسبب مشكلات هندسية وإدارية، مع تأخير 83 طائرة “مك 1 إيه” حتى 2026. صفقة “ميغ- 35” الروسية متوقفة بسبب عقوبات، في حين أن “رافال” (36 وحدة) تغطي 10% فقط من الاحتياجات. رئيس الأركان أ. بي. سينغ انتقد في فبراير (شباط) 2025 “عدم التسليم في الوقت المحدد”.
رابعًا: الاعتماد على الاستيراد: 65% من الأسلحة مستوردة (روسيا، وفرنسا، وإسرائيل)، مما يعرض لعقوبات الأمريكية (CAATSA)، ويحد من التكامل مع الأنظمة المحلية، مثل (Akash SAM).
خامسًا: الضغط الإستراتيجي الثنائي: يُجبر التهديد الصيني (مع 3000 طائرة) على توزيع الموارد والجهد العسكري، مما يضعف التركيز على باكستان. كما أن الميزانية (81 مليار دولار) تُخصص 60% للجيش، تاركة 25% للجو. هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى أداء ضعيف عام 2025، حيث فشلت “رافال” في مواجهة صواريخ (PL-15) الصينية، مما يتطلب إصلاحات جذرية، مثل زيادة التمويل، وتسريع التحديث.
يُعد الصراع الجوي عمودًا فقريًا لموازين القوة بين الهند وباكستان، حيث يحدد القدرة على الردع والضرب الوقائي. عالميًا، تحتل الهند المرتبة الرابعة بـ2229 طائرة (منها 721 قتالية)، في حين تحتل باكستان المرتبة الثانية عشرة بـ1399 طائرة، لكن الجودة أهم: باكستان تمتلك 150 “جيه- 10 سي”، و”جيه إف- 17″، مع رادارات (AESA)، وصواريخ (PL-15) (مدى 200 كم)، مما منحها تفوقًا عام 2025، حيث أسقطت ست طائرات هندية (ثلاث رافال، سو- 30، ميغ- 29، هيرون) دون خسائر. في السياق الإقليمي، يعزز الدعم الصيني (معدات بـ10 مليارات دولار سنويًا) التوازن، حيث زودت باكستان بأنظمة دفاع جوي، مثل (HQ-9)، مما يجعل أي تصعيد هندي مكلفًا.
كما أن الاعتماد على القتال خارج نطاق الرؤية (4 للهند مقابل 6 لباكستان) يغير الديناميكية، حيث يمكن لباكستان الدفاع عن مجالها دون عبور الحدود، كما في “سندور”. أما الهند، فيُضعف النقص الجوي (31 سربًا) قدرتها على السيطرة الجوية، خاصة مع التهديد الصيني، مما يجعل شبه الجزيرة منطقة غير مستقرة. ومع أن الهند تتفوق بحريًا (293 سفينة مقابل 121)، فإن الجو يبقى حاسمًا في كشمير. ولاستعادة التوازن، تحتاج الهند إلى تسريع الإنتاج المحلي (بحلول 2030)، وتعزيز التدريب المشترك مع الناتو، وزيادة الاستثمار في الطائرات بدون طيار (30-50 وحدة بحلول 2028)، وإلا فستبقى باكستان قوة ردعية فعالة، محطمة التوازن الهش في جنوب القارة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير