إن حقائق السياسة الدولية المحيطة بإنشاء دولة إسرائيل منسية، أو غير معروفة على الإطلاق في الخطاب العام العربي، حيث واجه المشروع الصهيوني رفضًا بين قادة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والبنتاغون ووزارة الخارجية، وقد كانت تقديراتهم بأن إنشاء دولة “لليهود” على أرض فلسطين العربية من شأنه أن يقوض قدرة أوروبا الغربية والولايات المتحدة على الوصول إلى النفط العربي، وأن يسهل التوسع السوفيتي والشيوعي في الشرق الأوسط، وبقى هذا الموقف الأمريكي ضد إسرائيل إلى ما بعد حرب الأيام الستة 1967، أو ما يُعرف مصريًّا وعربيًّا “بالنكسة”، ليتحول موقف واشنطن من تل أبيب، ويصبح تحالفًا حيويًّا وأساسيًّا في أدبيات الأمن للشرق الأوسط.
يوفر التاريخ “القائم على الوثائق -التي قد تشهد تحريفًا وتزييفًا، لكنها تبقى مصدرًا أكثر موثوقيةً من التاريخ الشفهي والشعبي القائم على العواطف- درسًا مُهمًّا الآن لكل بلدان الشرق الأوسط، التي بحاجة ماسة إلى إعادة تقييم سياستها تجاه التوسع العنيف والاستخدام المفرط للقوة من إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ومهاجمة بلدان عربية مثل لبنان، ويسهم فهم الموقف الحقيقي الأمريكي القائم على المصلحة والجدارة والمنفعة في بناء تصور لسياسات العربية لإعادة اختراق العقل الأمريكي، لا سيما أن الأخير هوجم خلال أواخر الأربعينيات بأنه “مُنحاز إلى العرب” ضد اليهود، ويعمل لمصالحهم؛ ما يعني أن مساحة العمل السياسي الواعي تسمح دائمًا بخلق الفرص وتحقيق المكاسب بدلًا من الاكتفاء باتباع نظرية المؤامرة أن الغرب يتآمر على الشرق الأوسط، لا سيما أن فشل الأنظمة الشرق أوسطية في طرح الحقائق والتعامل بما يلزم مع الملفات في ضوء التاريخ والسياسة الجادة يُغذي جماعات العنف والإرهاب والميليشيات التي تستغل الجهل والشعور بالاضطهاد لحشد مقاتليها.
“استسلام واضح لا لبس فيه لتهديد القوة. إن التعنت العربي أجبر الحكومة الأمريكية على تغيير سياستها والخضوع للتهديدات العربية، وتتراجع الأمم المتحدة بكاملها في مواجهة الغضب العربي”، هكذا كانت افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز في 20 مارس (آذار) 1948، في حين وصفت عناوين صحيفة “بي إم” اليسارية ذلك اليوم بأنه “الجمعة السوداء”، وكان عنوان صحيفة نيويورك بوست “خيانة مخزية ونفاق في فلسطين”، وكان هذا تعليقًا على خبر أن السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة وارن أوستن أبلغ مجلس الأمن أن واشنطن غيرت سياستها، وأصبحت تعارض الآن فرض قرار التقسيم، وأن الوصاية المؤقتة لفلسطين لا بد أن تنشأ تحت إشراف مجلس تابع للأمم المتحدة للحفاظ على السلام. وكان من الضروري عقد جلسة فورية للجمعية العامة للنظر في الاقتراح، ويتعين على مجلس الأمن أن يصدر تعليماته للجنة فلسطين بتعليق جهودها الرامية إلى تنفيذ خطة التقسيم المقترحة.
لقد بدأت ملامح الخلاف بين الصهاينة والأمريكيين، لا سيما في وزارة الخارجية والبيت الأبيض، في عهد هاري ترومان عام 1947؛ ففي شهر مارس (آذار)، أعلن ترومان ما أصبح يعرف باسم مبدأ ترومان، الذي يقضي بتقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى بلدان، على رأسها اليونان وتركيا، لمقاومة الشيوعية. وفي شهر يونيو (حزيران) أعلن وزير الخارجية جورج مارشال، في خطاب ألقاه في احتفالات التخرج في جامعة هارفارد، خططًا لتقديم القروض والمساعدات إلى اقتصادات أوروبا الغربية، أصبحت تعرف باسم خطة مارشال. وكان هذا هو الجانب الاقتصادي من السياسة الأمريكية الناشئة لاحتواء الشيوعية، ولكن في شهر مايو (أيار) من ذلك العام، عقدت الأمم المتحدة جلسة خاصة بشأن “قضية فلسطين”، وهناك فاجأ الممثل السوفيتي أندريه جروميكو المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين بإعلانه أنه إذا لم يتمكن اليهود والعرب من الاتفاق على العيش معًا في دولة ثنائية القومية، فإن الاتحاد السوفيتي سوف يدعم “خطة تقسيم” وإنشاء دولة يهودية على أراضي فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني سابقًا.
وعندما قررت الحكومة البريطانية تسليم قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة في يناير (كانون الثاني) 1947، افترضت أن الأغلبية الساحقة سوف ترفض إقامة دولة يهودية، ولكن دعم الاتحاد السوفيتي، فضلًا عن الحكومات الشيوعية في بولندا وتشيكوسلوفاكيا، كان بمنزلة المفاجأة. وفي سبتمبر (أيلول) 1947، حظيت التطلعات الصهيونية بدعم أوسع نطاقًا عندما أيدت أغلبية من سبعة أعضاء في لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (UNSCOP)، التي تتألف من ممثلين من كندا، وتشيكوسلوفاكيا، وغواتيمالا، وهولندا، وبيرو، والسويد، وأوروغواي، إنشاء دولتين عربية ويهودية منفصلتين فيما كان يُعرف بالانتداب البريطاني في فلسطين. وكان تدويل الصراع الصهيوني العربي في فلسطين في الأمم المتحدة يؤدي إلى إضفاء الشرعية على الآمال الصهيونية من جانب الأمم المتحدة. وقد نظر المسؤولون في وزارة الخارجية البريطانية ووزارة الخارجية الأمريكية إلى هذا الاتجاه بقلق.
في سبتمبر (أيلول) 1947، أعربت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بقيادة الأدميرال روسكو هيلينكوتر، عن مخاوفها. وفي مذكرة بعنوان “ردود الفعل العربية المحتملة على تقسيم فلسطين من جانب الأمم المتحدة”، زعم ثيودور بابيت، مساعد مدير الوكالة للتقارير والتقديرات، أن رد فعل العرب كان “العامل الأكثر أهمية في تحديد الاستقرار المستقبلي في الشرق الأدنى”. وسوف يعارض العرب بشدة التقسيم، وربما يتبنون مقاطعة اقتصادية للولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ويعيدون توجيه سياستهم الخارجية نحو الاتحاد السوفيتي؛ لذا فإن التطور المؤيد للصهيونية في فلسطين من شأنه أن يعرض المصالح الإستراتيجية والتجارية الأمريكية للخطر على نحو كبير، وسوف يزداد النشاط الشيوعي، ومعه النفوذ السوفيتي. وسوف تتعرض المصالح الإستراتيجية والاقتصادية الغربية لخطر شديد”؛ ومن ثم، فإن “السياسة الأمريكية المؤيدة للصهيونية سوف تجعل من الصعب جدًّا بناء السلام في الشرق الأدنى”.
وكتب ويليام إيدي، الذي عيّنه وزير الخارجية مارشال مساعدًا خاصًا له، وكان سفيرًا للولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية، من عام 1944 إلى عام 1946، وقبل انضمامه إلى وزارة الخارجية مباشرة، عمل مستشارًا لشركة النفط العربية الأمريكية “أرامكو”، كتب: “إن تبني الولايات المتحدة تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين من شأنه أن يلحق الضرر بالمصالح الأمريكية، لا سيما أن المشروع الصهيوني المقترح هو (دولة ذات سيادة ثيوقراطية من سمات العصور المظلمة)، وهذا لا يتوافق مع المبادئ الأمريكية للعالم الحُر”.
كما أرسل لوي هندرسون، مدير قسم شؤون الشرق الأدنى وإفريقيا، وأحد أبرز المعارضين لإقامة دولة يهودية في فلسطين، مذكرة مفصلة إلى وزير الخارجية مارشال، يعارض فيها توصيات تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين. وكتب هندرسون أن “الآراء الواردة في هذه المذكرة فيما يتصل بتقسيم فلسطين، وإقامة دولة يهودية، يشترك فيها تقريبًا كل عضو في الخدمة الخارجية والوزارة ممن انخرطوا في عمل وثيق الصلة بالشرق الأدنى والأوسط”. إن دعم تقسيم فلسطين، أو إقامة دولة يهودية هناك، “من شأنه أن يقوض علاقاتنا مع العرب والمسلمين. إن الدولة اليهودية في فلسطين من شأنها أن تدفع العرب إلى المعسكر السوفيتي، وتعزز من قوة (المتطرفين)”. وأكد هندرسون أن المشروع الصهيوني يقوم على “مبدأ الدولة العنصرية الثيوقراطية”، ويتعارض مع المبادئ الأمريكية في التعامل مع المواطنين “بغض النظر عن العرق أو الدين”. ووفقًا لتعليمات نائب وزير الخارجية روبرت لوفيت، تبنى الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة موقفًا متحفظًا من خطة التقسيم.
في اجتماع عقد في الأسبوعين الأخيرين من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1947 في واشنطن، اجتمع مسؤولون عسكريون ودبلوماسيون أمريكيون وبريطانيون لمناقشة تداعيات الحرب الباردة المتصاعدة مع الاتحاد السوفيتي على السياسة الأمنية في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط. وكانت “محادثات البنتاغون”، كما أطلق عليها، حدثًا حاسمًا في الهجوم المضاد السياسي والدبلوماسي الأنجلو أمريكي ضد المشروع الصهيوني. وكان جورج كينان أحد المشاركين الرئيسين في محادثات البنتاغون، وكان معروفًا آنذاك بأنه مؤلف “البرقية الطويلة” في فبراير (شباط) 1946 بشأن احتواء السلوك السوفيتي. وفي الرابع والعشرين من يناير (كانون الثاني) 1947، بعد ثلاثة أيام من تعيين ترومان لجورج مارشال وزيرًا للخارجية، استحدث مارشال لكينان منصب مدير هيئة تخطيط السياسات، وهي وحدة جديدة داخل وزارة الخارجية لمراجعة وتخطيط سياسة وإستراتيجية الأمن القومي.
سريعًا، أصدرت الوحدة الجديدة تقريرًا في ضوء محادثات البنتاغون، يُشير إلى أن أي خطة تقسيم لفلسطين قد تمنح الروس فرصة توسع في تلك المنطقة؛ لذا يجب رفض خطة الأمم المتحدة. وقد وافق على هذا التقرير قائمة من الدبلوماسيين والقادة العسكريين البريطانيين والأمريكيين، مثل كينان، وهندرسون، وروبرت أ. لوفيت، نائب وزير الخارجية، واللورد إنفر تشابل، السفير البريطاني في واشنطن. وفي ضوء التهديد السوفيتي وحدود القدرات البريطانية، خلص المشاركون الأمريكيون إلى ضرورة توسيع النشاط الأمريكي في الشرق الأوسط. وكان هذا الدور التوسعي يتطلب من بريطانيا الاحتفاظ “بموقعها الإستراتيجي والسياسي والاقتصادي القوي الحالي في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط”. وكان المضمون السياسي يتطلب سياسات “موازية” مع بريطانيا لمواجهة الجهود السوفيتية في المنطقة، منها دعم معارضة لندن للمشروع الصهيوني في فلسطين.
في الخامس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني)، وبينما كانت الأمم المتحدة تقترب من التصويت الحاسم على خطة التقسيم، وعندما أعلن الاتحاد السوفيتي علنًا دعمه لها، أصدر وزير الخارجية مارشال تعليماته إلى الوفد الأمريكي لدى الأمم المتحدة بضرورة ضمان أن يكون أي قرار بشأن “مشكلة فلسطين” لم يأتِ برغبة أمريكية، وفي التاسع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، صوتت الولايات المتحدة لصالح قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة؛ وبذلك أسهمت في أغلبية الثلثين في الجمعية العامة المؤيدة. ولكن في الأمم المتحدة، جاء الدعم الأكثر تأكيدًا لتقسيم فلسطين؛ ومن ثم إقامة دولة يهودية على جزء منها، من الاتحاد السوفيتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. وقال أندريه جروميكو، السفير السوفيتي لدى الأمم المتحدة، إن خطة التقسيم كانت ذات “أهمية تاريخية عميقة؛ لأن هذا القرار سوف يلبي المطالب المشروعة للشعب اليهودي، الذي لا يزال مئات الآلاف منهم -كما تعلمون- بلا وطن، وبلا منازل، ولم يجدوا مأوى مؤقتًا إلا في معسكرات خاصة في بعض الدول الغربية”.
في اليوم السابق لتصويت الأمم المتحدة، أصدرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تقريرًا من سبع عشرة صفحة بعنوان “عواقب تقسيم فلسطين”، وخلص التقرير إلى أن “الولايات المتحدة، بدعمها للتقسيم، فقدت بالفعل قدرًا كبيرًا من هيبتها في الشرق الأدنى”. ومن الممكن أن “ترفض الحكومات المسؤولة التوقيع على اتفاقيات خطوط الأنابيب، وامتيازات النفط، واتفاقيات الطيران المدني، والمعاهدات التجارية”. وسوف “تؤجل المشروعات الأمريكية، التي كانت “ضرورية لرفع مستوى المعيشة”، إلى أجل غير مسمى، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم “الفقر والاضطرابات واليأس الذي تزدهر عليه الدعاية الشيوعية، وسوف ينتشر العملاء السوفيت (الذين هُرِّبَ بعضهم بالفعل إلى فلسطين كنازحين يهود) في الدول العربية الأخرى”، وسوف تتفاقم القومية العربية و”التعصب الديني” في جماعات مثل جماعة الإخوان المسلمين.
وقد وصف محللو وكالة الاستخبارات المركزية الأهداف الرئيسة الثلاثة للاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط بأنها إنهاء الانتداب البريطاني، والتسبب في إزالة القوات البريطانية من المنطقة، وإبقاء الوضع غير مستقر؛ ومن ثم إيجاد ذرائع لإدخال قوات إلى المنطقة، ثم الحصول على “قاعدة في قلب الشرق الأدنى لنشر الدعاية، والقيام بأنشطة تخريبية، ومحاولة تنظيم “حركات شيوعية” في الدول العربية”، وكان الاتحاد السوفيتي “يساعد اليهود بنشاط ولكن سرًّا”. وبالإضافة إلى مساعدة “العملاء اليهود السريين في أوروبا، كانت السفن الكبيرة الملأى بالمهاجرين غير الشرعيين “تغادر ميناء كونستانزا الروماني”. وقد نظر تقرير وكالة الاستخبارات المركزية إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين باعتبارها غطاءً فعالًا للتسلل والتخريب الشيوعي في الشرق الأوسط. واستنادًا إلى تقارير سابقة لوكالة الاستخبارات المركزية والاستخبارات العسكرية البريطانية والأمريكية، لاحظ التقرير أنه “كان هناك بالفعل نظامًا فعالًا لنقل النازحين اليهود من أوروبا الشرقية جنوبًا، وخاصة عبر البلقان، إلى فلسطين. وفي حالة نشوب صراع عربي يهودي، فسوف يُستخدَم هذا النظام لتزويد القوات اليهودية في فلسطين بالقوة العسكرية اللازمة”.
وكان المضمون السياسي الواضح للتقييم الاستخباراتي الذي أجرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ومحادثات البنتاغون وتوصيات مجلس الأمن القومي في ذلك الوقت هو إلغاء قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة بوصفه مثالًا نموذجيًّا للسياسة الخارجية التي تحركها العاطفة في الرأي العام بدلاً من التقييم الرصين لمتطلبات الأمن القومي الأمريكي. وبحلول خريف عام 1947، بات من الواضح أن السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني تسير على مسارين متناقضين. المسار الأول، الذي حددته قرارات الرئيس ترومان، وأدى إلى دعم الولايات المتحدة لقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 1947. أما المسار الثاني، الذي حددته وزارة الخارجية في عهد مارشال بالتعاون مع البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية، فقد سعى إلى تقويض هذا القرار وتجريده من الصلاحيات التنفيذية اللازمة لتنفيذه، على أمل منع إقامة دولة يهودية في فلسطين. والأمر الأكثر أهمية أن هذا القرار تضمن فرض حظر على الأسلحة على الوكالة اليهودية، وعمل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الخزانة لوقف أنصار إسرائيل الأمريكيين عن مساعدة الهجرة اليهودية السرية. وفي الأمم المتحدة، تضمن المسار الثاني بذل جهود دبلوماسية لاستبدال قرار التقسيم بمقترحات “الوصاية” على فلسطين، التي من شأنها أن تمنع قيام دولة يهودية.
في سلسلة من التقارير التي أُعدت في أوائل عام 1948، أشار جورج كينان، أن المشروع الصهيوني لا يمكن التوفيق بينه وبين سياسة احتواء الشيوعية. وخلص إلى أن دعم الولايات المتحدة خطة التقسيم من شأنه أن يلحق الضرر بالمصالح الأمنية الوطنية الأمريكية الحيوية في الشرق الأوسط، وفي منطقة الحرب الباردة الأساسية: أوروبا. وأسوأ من ذلك أن إنشاء دولة يهودية في فلسطين كان أيضًا بمنزلة نعمة للاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط، ومن شأن العداء مع العرب والاختراق السياسي والعسكري السوفيتي أن يؤديا إلى تفكيك بنية السلام والأمن في الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط؛ ومن ثم، ولهذه الأسباب أيضًا، فإن التقسيم وإقامة دولة يهودية في فلسطين من شأنه أن “يلحق الضرر بالتأكيد بمصالح الولايات المتحدة”. وخلص كينان إلى أن المهمة الآن تتلخص في الحد من الأضرار التي أحدثها بالفعل دعم الولايات المتحدة خطة التقسيم، فقد “تعرضت المصالح الإستراتيجية الأمريكية في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى لضرر بالغ، وسوف تستمر مصالحنا الحيوية في تلك المناطق في التأثر سلبًا إلى الحد الذي نستمر فيه في دعم التقسيم”.
في التاسع عشر من يناير (كانون الثاني) 1948، خلص كينان إلى أن الولايات المتحدة “لا ينبغي لها أن تتخذ أي مبادرة أخرى في تنفيذ التقسيم أو مساعدته”. ولا ينبغي لها أن ترسل قوات، ولا بد أن تعارض تجنيد المتطوعين، ولا بد أن تحافظ على الحظر المفروض على الأسلحة إلى فلسطين والدول المجاورة، وتنتظر لتُثبت الأحداث أن خطة الأمم المتحدة للتقسيم لا يمكن تنفيذها “من دون استخدام القوة المسلحة الخارجية”؛ وحينئذ يتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفًا مفاده أن “من غير العملي وغير المرغوب فيه أن يحاول المجتمع الدولي فرض أي شكل من أشكال التقسيم في غياب اتفاق بين الطرفين، وأن الأمر ينبغي أن يعود إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة”. وفور وصولها إلى هناك، فإن موقف الولايات المتحدة سيكون تشجيع التوصل إلى تسوية سلمية بين “عرب فلسطين ويهود فلسطين” والتحقيق في إمكانية إنشاء “دولة فيدرالية أو وصاية، وهو ما لن يتطلب استخدام القوة المسلحة الخارجية لتنفيذه”.
فشلت قراءة كينان، خسر العرب محاولتهم العسكرية فيما عُرف بنكبة عام 1948، وفاجأ الإسرائيليون العالم بقدرتهم على الاستيلاء على الأرض، وكانت المساعدات العسكرية السوفيتية حاسمة، بالإضافة إلى أن فرنسا هي الحليف الأكثر أهمية لإسرائيل، ومصدر أسلحتها الأكثر موثوقية آنذاك، حيث أدى إرث المقاومة الفرنسية ضد النازيين إلى دفع الديغوليين والليبراليين واليساريين غير الشيوعيين إلى دعم إسرائيل، وفشلت كُل القراءات الأمريكية التي أعطت للعرب إمكانات كبيرة لم يجدوها في اللحظات الحاسمة.
لقد شعر ترومان بالحرج والغضب إزاء التراجع الذي شهدته سياسة وزارة الخارجية، فنقل السياسة الخاصة بفلسطين إلى البيت الأبيض. ولكن خلال الأشهر الستة الحاسمة التي أعقبت الأعمال العسكرية التي اندلعت بعد الخامس عشر من مايو (أيار) 1948، كانت هناك حدود لما كان الرئيس على استعداد للقيام به. ورغم أنه اعترف على الفور بدولة إسرائيل عندما أُعلنت في الرابع عشر من مايو (أيار)، فإنه لم يرفع الحظر الأمريكي على توريد الأسلحة إلى إسرائيل، عندما كانت نتيجة الحرب معلقة في الميزان، وفي سياق المفاوضات المعقدة بشأن ترتيبات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة تبنت الولايات المتحدة مواقف، وخاصة “خطط برنادوت”، التي قيدت مكاسب إسرائيل في ساحة المعركة، أو سعت إلى دفعها إلى الوراء، وكانت تحرم الدولة اليهودية الجديدة من صحراء النقب، التي خصصت لها في قرار التقسيم. ولقد استمرت السياسات التي صاغتها وزارة الخارجية في خريف عام 1947 وشتاء عام 1948، والتي أدت إلى فرض حظر الأسلحة والجهود الرامية إلى تقييد الهجرة اليهودية، طيلة فترة حرب عام 1948، لكن الأسلحة التي احتاج إليها الصهاينة جاءت بدلاً من ذلك من تشيكوسلوفاكيا الشيوعية.
وانتقد كلارك كليفورد، الذي كان آنذاك مساعدًا خاصًا للرئيس ترومان، ما أسماه “الاسترضاء تجاه العرب”. وقال إن الولايات المتحدة “يتعين عليها أن ترفع على الفور الحظر الأحادي الجانب على الأسلحة المفروض على الشرق الأوسط”. إن القيام بذلك من شأنه أن “يمنح الميليشيات اليهودية والهاجاناه، التي تسعى جاهدة إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة، فرصة متساوية مع العرب للتسلح”. وينبغي للولايات المتحدة أن تساعد على تشكيل قوة أمنية دولية تُجنَّد من المتطوعين لمساعدة لجنة فلسطين التابعة للأمم المتحدة، ولكن لا ينبغي أن تشمل هذه القوات قوات من الولايات المتحدة، أو روسيا، أو بريطانيا العظمى. وفي مذكرة ثانية، ذكّر كليفورد ترومان بأن دعم إنشاء دولة يهودية في فلسطين كان “سياسة مستقرة للولايات المتحدة” منذ وافق الرئيس وودرو ويلسون على إعلان بلفور في عام 1917، وكان إجماعًا في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وفي أغلبية مجلسي الكونغرس. إن التخلي عن التقسيم الآن سيكون انحرافًا “عن السياسة الأمريكية الراسخة”.
ولقد زعم كليفورد أن التقسيم كان “المسار الوحيد للعمل فيما يتصل بفلسطين، ومن شأنه أن يعزز موقفنا في مواجهة روسيا”. وكان الدعم الأمريكي الواضح للتقسيم من شأنه أن يردع الدول العربية عن شن الحرب. كما تناول كليفورد المخاوف بشأن الوصول إلى النفط العربي، معتبرًا أن “الدول العربية لا بد أن تبيع النفط أو تفلس، وتعد الولايات المتحدة زبونًا رئيسًا، والنظام الاجتماعي والاقتصادي العربي سوف يتضرر ضررًا لا يمكن إصلاحه إذا ما تبنى توجهًا سوفيتيًّا، وسوف يكون دخول الطبقات الحاكمة في هذه الدول ضمن نطاق النفوذ السوفيتي بمنزلة انتحار”؛ لذا اعتبر كليفورد أن التنبؤ بأن التقسيم لن ينجح أبدًا كان وهمًا “من أولئك الذين لم يريدوا قط نجاح التقسيم، والذين كانوا عازمين على تخريبه”. وقد فرضت الولايات المتحدة حظرًا على الأسلحة على فلسطين، “في حين كانت بريطانيا تفي بـ(التزاماتها التعاقدية) بتزويد العرب بالأسلحة”، وهذا أظهر الولايات المتحدة في دور السخيف المتمثل في الارتعاش أمام تهديدات بعض القبائل البدوية الصحراوية، على حد وصف كليفورد للدول العربية.
وعلى النقيض من التقارير التي كان ترومان يتلقاها من وكالة الاستخبارات المركزية والحكومة البريطانية، آثر كليفورد أن “فلسطين اليهودية” كانت “موجهة بقوة نحو الولايات المتحدة، وبعيدة عن روسيا”، وسوف “تظل كذلك ما لم يتسبب الفراغ العسكري في فلسطين الناجم عن انهيار سلطة الأمم المتحدة في جلب تدخل روسي أحادي الجانب في فلسطين”. إن التراجع عن قرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة “بإصرار من الولايات المتحدة”، من شأنه أن يتسبب في “خسارة جسيمة لهيبة الولايات المتحدة وزعامتها في جميع أنحاء العالم”.
ورفض كليفورد التقارير الصادرة عن وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون، مُعتبرًا أن “المصلحة الذاتية الأمريكية، والأمن العسكري الأمريكي، والمصالح الأمريكية في نفط الشرق الأوسط، والهيبة الأمريكية في الشؤون الدولية، وكل ذلك يتطلب التنفيذ الفعال لقرار الأمم المتحدة بشأن فلسطين. والطريقة الأكثر فاعلية لمنع التغلغل الروسي في الشرق الأوسط وحماية المصالح النفطية الأمريكية الحيوية هناك هي أن تتخذ الولايات المتحدة المبادرة الفورية في مجلس الأمن لتنفيذ قرار الجمعية العامة بشأن فلسطين”. وقدم كليفورد لترومان الحجة القائلة بأن دعم التقسيم وإقامة دولة يهودية في فلسطين لم يكن فقط -أو حتى في المقام الأول- مسألة تعاطف مع ضحايا الهولوكوست اليهود؛ بل هي مصلحة الولايات المتحدة، وزعم أن الدولة اليهودية في فلسطين سوف تصبح عنصرًا مهمًّا وأكثر كفاءة من العرب في دعم سياسة ترومان الخاصة باحتواء الشيوعية.
خاتمة
في العقدين التاليين، حافظت الولايات المتحدة على مسافة بينها وبين إسرائيل، حتى قامت الأخيرة بضربة عسكرية كبيرة ضد مصر وسوريا (الحليفتين للاتحاد السوفيتي) عام 1967، وقد أدى هذا العمل العسكري إلى تغيير كبير في النظرة الأمريكية إلى تل أبيب، وقد اختفى أي وزن سياسي وعسكري عربي لدى دوائر القرار الأمريكي، وسارع الأمريكيون إلى الفوز بالعنصر الجديد في الشرق الأوسط، وهو قاعدة متقدمة في قلب العالم الآسيوي- الإفريقي، وتطل على البحر المتوسط وأوروبا، كان التحالف الأمريكي- الإسرائيلي نتاج العمل العسكري للأخيرة، حيث ترى واشنطن أن أي استثمار في إسرائيل يعزز قدرات الأمن الأمريكي في مناطق مضطربة وذات أهمية اقتصادية حيوية، مثل الشرق الأوسط. اليوم، وإن تلقت إسرائيل ضربة عسكرية لحظية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، فإن رد الفعل مكّن تل أبيب من استعراض كبير للقوى العسكرية والاستخباراتية، حيث قدم للأمريكيين أوراق اعتماد جديدة ضد خصوم وميليشيات تابعين -على نحو خاص- لإيران في الشرق الأوسط.
كما أن العلاقات الدبلوماسية السرية -أو العلنية- لإسرائيل أثبتت للولايات المتحدة أن تل أبيب قادرة على تحييد النفوذ الروسي في سوريا القريبة منها، وخلق تفاهمات تسمح للجيش الإسرائيلي بالعمل بحرية تامة في مجال وجود قواعد روسية، كما لم تتمكن الصين من ممارسة أي دور فعال في الصراع القائم؛ ما أكد لواشنطن أن قاعدتها الأمامية قوية بما يكفي في ترسيخ نفسها دوليًّا، في حين تبقى عمليات الدعم العسكري ليست أكثر من مجرد عقود عمل للمجمع العسكري الأمريكي، لا سيما أن العرض الإسرائيلي الدموي، الذي ينتهك كل القوانين الدولية، هو -في الوقت نفسه- إعلان دعائي عن كفاءة الأسلحة الأمريكية في الاغتيالات على أعماق سحيقة، ورصد الأهداف بدقة في الشقق السكنية، وحتى القتل بدون انفجار بالشفرات الحادة داخل السيارات، أو على الدراجات النارية.
يعيش العالم العربي لحظة قاتمة في ظل عدوان إسرائيلي منفلت، لكن هذا ليس لمؤامرة أمريكية فقط في اختذال مُخل؛ بل يطرح سؤالًا من الضروري إيجاد إجابة له: “هل يمكن أن تصل البلدان العربية إلى درجة من التعاون تحقق مصالح الولايات المتحدة لكي تحصل على دعمها؟” وحدها الكفاءة والقدرة -حتى في القتل بوصفه عملًا غير أخلاقي- توفر تحالفات سياسية واقتصادية. أضاع العالم العربي المتردد في مشروعاته، والبطئ في صياغة مواقفه، كثيرًا من الاختراقات في عالم لا يعترف إلا بالمصلحة. كان في لحظة ما -كما عرضنا- يُقال على العرب إنهم يقودون واشنطن، وهذا بسبب المصلحة، ويمكن دائمًا أن تحصل على مكاسبك إن تمكنت من استغلال قدراتك، واستغللت الفرص، بدلًا من الاكتفاء بترديد أن العالم يتآمر عليك. وإن كان هذا صحيحًا، “فماذا أنت فاعل لردع المؤامرة؟”. سؤال مفتوح قد يجد إجابة يومًا ما.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.