تحول منتدى “الأسبوع الذري العالمي”، الذي انطلقت فعالياته، الخميس 25 سبتمبر (أيلول) 2025، بأرض المعارض المركزية، ذات الرمزية السوفيتية “VDNKHA”، إلى منصة دولية استعرضت روسيا، ممثلة في رئيسها ومسؤوليها المشرفين على ملفات النووي والذرة، لم تقدم من خلالها -أي المنصة- قدراتها في مجال الطاقة النووية فحسب، بل قدمت أيضًا رؤيتها لمستقبل النظام التكنولوجي العالمي لـ100 عام قادمة، وموقعها ودورها “الريادي” في هذا المستقبل.
تصريحات الرئيس بوتين، إلى جانب مداخلات كبار المسؤولين الأجانب والروس، وكذلك المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفائيل غروسي، كشفت عن مزيج من الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية، لكنها لم تستطع تجنب الظلال الجيوسياسية للمسألة، ما يجعل المنتدى حدثًا مهمًّا في رسم ملامح المرحلة المقبلة بكل نواحيها وأطرافها على الساحة الدولية في هذا المجال الحساس.
خطاب الرئيس الروسي خلال الجلسة العامة، وهي نفسها الجلسة الافتتاحية، شكّل الركيزة الأساسية للمنتدى، فبوتين أكد في تصريحاته أن العالم يدخل مرحلة جديدة من التطور تقوم على الذكاء الاصطناعي، ومعالجة البيانات الضخمة، وهذا الأمر سوف يحتاج إلى موارد طاقوية مستقرة وضخمة؛ ومن هنا جاء إعلانه إنشاء مراكز بيانات داخل محطات الطاقة النووية الروسية، وعددها 11 محطة تشغل 36 مفاعلًا حتى الآن، في إشارة واضحة إلى نية روسيا الربط المباشر بين الطاقة النووية والاقتصاد الرقمي، بعيدًا عن الاستمرار رهينة للتكنولوجيا الرقمية الغربية، أو حتى الصينية.
وإعلان بوتين هذا يعكس خطط روسيا لجعل الذرة في قلب الثورة التكنولوجية، لكن الأهم في خطابه كان إعلانه خطط روسيا لإطلاق أول منظومة نووية مغلقة للوقود بحلول 2030، ما يعني من الناحية التقنية إعادة تدوير الوقود النووي المستخدم، وبهذا يتم التخلص عمليًّا من مشكلة النفايات النووية.
وهذه الخطوة تمنح موسكو ميزة إستراتيجية فريدة؛ فهي بذلك تصبح الدولة الوحيدة في العالم التي تملك دورة نووية مكتملة ومستقلة عن أي تبعية خارجية في مجال اليورانيوم.
بوتين كان حريصًا على تنويع جغرافيا ضيوفه من القادة الذين جاورهم في الجلسة العامة، التي عقدت في شكل طاولة مستديرة، فعلى يمينه جلس حليفه الأقرب لوكاشنكو، وعلى يساره رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، والمفاجأة كانت حضور رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد؛ ما يعني أن خطط روسآتوم الدخول إلى إثيوبيا، التي كانت متعثرة سنوات طويلة، يبدو أنها ستجد طريقها إلى التحقق. كما حضر عدد من القادة الأفارقة والآسيويين.
وفي هذا السياق، شدد الرئيس الروسي على أن الطلب العالمي على الطاقة النووية سوف يتنامى في الجنوب والشرق، وهو ما يعكس -حسبما فهمت من تلميح بوتين- أن هناك توجهًا روسيًّا إستراتيجيًّا لتوسيع الحضور الروسي في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، بعيدًا عن الأسواق الغربية.
المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفائيل غروسي، الذي رغم الترحيب والحفاوة اللذين يلقاهما كلما زار روسيا، فإنه يُنظر إليه على أنه ممثل التوجه الغربي، كان حريصًا في كلمته على التذكير بضرورة حصر الطاقة النووية في مجالات الاستخدام السلمي، وذلك في حضور ممثل إيران خلف الطاولة نفسها، الذي لمح إلى دور غير محمود للوكالة في مساعي تقويض البرنامج النووي الإيراني، فجاءت رسالة غروسي، مع أنها بدت تقليدية من شخص في منصبه، في توقيتها ومكانها، لتعبر عن مخاوف الغرب، ومن ورائه إسرائيل من الطموحات النووية “لبعض القوى الإقليمية”، وخصوصًا في الشرق الأوسط، والمقصود بالطبع إيران.
ومع ذلك، وعلى الرغم من تصنيف الخبراء لغروسي على أنه ممثل الرؤية الغربية، غير أن وجوده في موسكو وتأكييده المعايير الأممية، منح المبادرة الروسية غطاءً إضافيًّا من الشرعية، وأعطى انطباعًا بأن التعاون النووي الروسي مع شركاء، مثل إيران ومصر، أو بلدان إفريقيا، يتم في إطار رقابة دولية مقبولة.
على المستوى الداخلي كشف نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك عن خطة حكومية لبناء 38 مفاعلًا جديدًا بحلول عام 2042. وهذه الخطط لا تعبر فقط عن طموح تكنولوجي؛ بل تعكس أيضًا إدراك الكرملين أن الأمن الطاقوي الروسي لم يعد يمكن أن يعتمد على النفط والغاز وحدهما، خصوصًا في ظل درس العقوبات الغربية المتصاعدة؛ وبذلك تصبح الطاقة النووية ركيزة إستراتيجية للاقتصاد الروسي خلال العقود المقبلة، وهذا التوجه يمنح روسيا حماية جزئية من تقلبات سوق الطاقة الأحفورية، ويضمن تنويع مصادر الدخل القومي.
المتحدث باسم الكرملين لم يفوت الفرصة ليؤكد أن التكنولوجيا النووية الروسية فائقة التنافسية، مشددا على أن موسكو تمتلك -وحدها- سلسلة متكاملة من القدرات، من تعدين اليورانيوم، مرورًا بتصنيع الوقود النووي، وصولًا إلى إعادة التدوير.
وهذه الرسالة موجهة -على نحو مباشر- إلى الأسواق العالمية، حيث تخوض روسيا منافسة شرسة مع فرنسا والولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية.
مصر بالطبع كانت حاضرة في الجلسة العامة، حيث ألقى وزير الكهرباء والطاقة المصري كلمة أكد فيها أن التعاون مع روسيا في مشروع محطة الضبعة النووية يعكس خيارًا إستراتيجيًّا لمصر في تنويع مزيج الطاقة.
الوزير المصري شدد على أن المحطة ليست مجرد مشروع توليد كهرباء؛ بل نقلة نوعية في القدرات التكنولوجية والبشرية المصرية، من خلال برامج التدريب، ونقل الخبرات.
من زاوية تحليلية، يمكن قراءة رسالة الوزير المصري من ثلاثة أبعاد؛ أولها ترسيخ الثقة في الشريك الروسي رغم الضغوط الغربية. وثانيًا: تأكيد أن الطاقة النووية باتت جزءًا من معادلة الأمن الطاقوي المصري لمواجهة تحديات مثل النمو السكاني، والطلب المتزايد على الكهرباء. وثالثًا: وضع القاهرة في موقع متقدم ضمن شبكة التعاون الروسي- الإفريقي في مجالات التكنولوجيا النووية، بما يعزز مكانتها الإقليمية.
أما الخبر الأبرز لهذا الحدث فقد جاء من إيران التي أعلنت نيتها التعاقد مع روسيا لبناء ثمانية مفاعلات نووية جديدة. إذا نُفِّذ بالفعل هذا المشروع، فسيكون من أضخم العقود في تاريخ الصناعة النووية الروسية، والأهم أنه سيعزز الشراكة الإستراتيجية بين موسكو وطهران عقودًا.
ممثل إيران ركز خلال مداخلته في الجلسة العامة على أن بلاده ترى في التعاون مع روسيا ضمانة لسيادتها الطاقوية، وتحررًا من الضغوط الغربية، مع تأكيد الطابع السلمي للبرنامج.
لكن الأبعاد الحقيقية تتجاوز البعد التقني، فالبعد الجيوسياسي لهذا العقد واضح للعميان، فإعلان اتفاق بهذا الحجم، وفي هذا التوقيت، ومن هذا المكان، وفي ظل مواجهة مشتعلة مع الترويكا الأوروبية، ما هو -في رأيي- إلا تحدٍّ مباشر للغرب وإسرائيل، خصوصًا في ضوء التصعيد العسكري المستمر في المنطقة. كما أنه يعمق محور موسكو- طهران في مواجهة الضغوط الأمريكية، ويستخدم الذرة، التي تقاس مشروعاتها بعشرات السنين، أداةً للتحالف الجيوسياسي الطويل الأمد. كما أنه يمنح إيران فرصة للانضمام إلى نادي الدول التي تعتمد على الذرة في مزيجها الطاقوي، وكل ذلك في ختام المطاف يرفع قدرة طهران التفاوضية إقليميًّا ودوليًّا.
لكل ما سبق أستطيع القول إن منتدى موسكو أظهر أن الذرة الروسية لم تعد مجرد وسيلة تقنية أو اقتصادية تعتمد عليها موسكو لتحسين أوضاعها المالية؛ بل باتت أداة إستراتيجية مركبة في يد الكرملين، تجمع بين التنافس التكنولوجي والرهان على الأسواق الجديدة لبناء تحالفات سياسية تعزز موقف الدب الروسي في مواجهة من لا يزالون ينظرون إليه كنمر من ورق، وهو ما يسبب له إهانة تحفزه فقط إلى مزيد من التشدد.
وإذا كانت تصريحات غروسي قد ذكّرت بحدود الاستخدام السلمي، فإن الواقع الموضوعي، وكل ما يحدث في حرب أوكرانيا، والتلويح بالنووي من آن إلى آخر، وحرب الاثني عشر يومًا التي اعتدت فيها إسرائيل على إيران -بدعم أمريكي فاضح وسافر وخارق للقانون الدولي وكل الأعراف- لا يدع لنا مفرًا من الاعتراف بأن الذرّة باتت جزءًا لا يتجزأ من موازين القوى الدولية.
بعبارة أخرى أقول، تحاول موسكو والكرملين وبوتين أن تجعل الطاقة النووية مفتاحًا لمستقبل روسيا الاقتصادي والتكنولوجي، لكنها في الوقت نفسه تدرك جيدًا أنها أداة جيدة وناجعة لترسيخ مكانتها الجيوسياسية، وهنا تتضح معالم المعادلة التي يرسمها الكرملين؛ من الذرة إلى الذكاء الصناعي وتحقيق السيادة الكاملة فيهما، ومن تحقيق الأمن الطاقوي والتغلب على عقوبات النفط والغاز إلى تحقيق النفوذ العالمي، تطرح موسكو نفسها.. لاعبًا لا غنى عنه في معادلات القرن الحادي والعشرين، بعدما وضعوا صليبًا على قبرها في مطلعه.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.