أبحاث ودراساتمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة

المعضلة العَقَدية.. لحزب العمال الكردستاني ما بعد السلاح


  • 21 يوليو 2025

شارك الموضوع

قرر حزب العمال الكردستاني في مايو (أيار) المنصرم حل نفسه، وتسليم سلاحه، وبرهن على جدية هذا القرار بحرق مجموعة من الحزب لسلاحها في يوليو (تموز) الجاري؛ ما يمثل تحولًا تاريخيًّا في مسار الحزب بوصفه الفاعل الكردي الأكثر تسليحًا وتنظيمًا وعَقَدية منذ أكثر من أربعة عقود؛ ولذلك فإن هذا القرار لا يمكن فهمه على أنه مجرد إجراء سياسي، بل انعكاس لتحول أعمق في البنية العَقَدية للحزب، فقد بدأت عملية إعادة صياغة العقيدة منذ سنوات، وتجلت في خطاب جديد يُقصي العنف، ويُعيد تعريف مفاهيم التحرر والهوية والدولة، ومع ذلك فإن صلابة بعض التيارات الداخلية، والسياقات الأمنية والسياسية المحيطة، تجعل استدامة هذا التحول ومدى نجاحه في تشكيل نموذج عالمي لتحول الحركات المسلحة مثار لتساؤلات جوهرية، لعل أبرزها: هل يعكس هذا التحول مراجعة عَقَدية حقيقة داخل الحزب، أم أنه مجرد تكيف مرحلي فرضته متغيرات محلية وإقليمية؟ وهل يمكن اعتبار الخطاب الجديد لحزب العمال الكردستاني إعادة تعريف لمنظومة الفعل الكردي في تركيا وسوريا والعراق وإيران، ورسم أدوار جديدة للحركة الكردية في العالم؟

المرجعية الأيديولوجية لحزب العمال الكردستاني

يُعد حزب العمال الكردستاني (PKK) من أبرز الحركات المسلحة التي شهدت تحولات عَقَدية جذرية على مدى أربعة عقود، حيث تأسس أواخر السبعينيات، وتحديدًا عام 1978، بقيادة عبد الله أوجلان، بوصفه حركة ثورية ماركسية لينينية تسعى إلى إقامة دولة كردية اشتراكية مستقلة في جنوب شرق تركيا، ضمن موجة الحركات الثورية اليسارية التي اجتاحت تركيا والعالم خلال السبعينيات، وتبنى الحزب منذ تأسيسه أيديولوجية صارمة تقوم على الصراع الطبقي ومناهضة الإمبريالية، وقد شكلت كتابات ماركس وإنجلز ولينين وكاسترو وتشي جيفارا الخلفية النظرية للحزب، الذي تبنى الكفاح المسلح بوصفه وسيلة وحيدة لتحقيق التحرر القومي والاجتماعي، واعتمد الحزب على فكرة أن تحرير الأكراد لا يمكن فصله عن الثورة الاشتراكية، وأن الهوية القومية الكردية المضطهدة هي امتداد لقهر اقتصادي طبقي تمارسه الدولة التركية البرجوازية؛ ومن ثم كانت العقيدة الثورية في بدايتها خليطًا من القومية الكردية والراديكالية الشيوعية.

ومن السمات الفريدة في العقيدة الأيديولوجية للحزب كانت المركزية المطلقة لشخصية عبد الله أوجلان، التي شكلت مرجعية فكرية وروحية تتجاوز البنية التنظيمية، وقد ظهر ما يمكن تسميته بـالأوجلانية”  Apoism كنمط خاص من الأيديولوجيا الثورية التي تمزج بين الفكر الاشتراكي والتحليل التاريخي والهوية الكردية والتأملات الذاتية لقائد الحزب، وأدى ذلك إلى إنتاج نسق عَقَدي يخلط بين العقيدة السياسية والنزعة الكاريزمية، مما جعل أي نقد لأوجلان أو انحراف عن فكره بمنزلة خيانة عَقَدية، وهذه النزعة الشخصية انعكست على طريقة بناء الحزب وممارساته الداخلية، حيث خضعت القرارات الكبرى لإرادة الزعيم المؤسس؛ ما جعل الحزب أقرب إلى تنظيم ذي طابع ديني سياسي، من حيث طاعة القيادة، وقدسية النص.

ولكن مع اعتقال أوجلان عام 1999، بدأت مرحلة مراجعة فكرية عميقة داخل الحزب، قادها أوجلان نفسه من داخل سجنه في جزيرة إيمرالي، حيث تراجع تدريجيًّا عن المشروع القومي الانفصالي التقليدي، وبدأ بتبني رؤية جديدة ترتكز على ما أسماه “مشروع الأمة الديمقراطية”، المستلهم من كتابات المفكر الأمريكي موراي بوكتشين عن الديمقراطية القاعدية والبيئة والمجتمع اللا سلطوي، ورفض أوجلان في هذه المرحلة مفهوم الدولة القومية، سواء أكانت كردية أم تركية، ودعا إلى بناء نظام لا مركزي يقوم على مجالس محلية، وتشاركية شعبية، وحقوق ثقافية وقومية للأكراد ضمن وحدة تركيا؛ وبذلك تحولت عقيدة الحزب من السعي إلى إقامة دولة مستقلة إلى الدعوة لـ”كونفدرالية ديمقراطية” تتجاوز الدولة والحدود القومية.

ولعل من بين أبرز ملامح التحول العَقَدي لحزب العمال الكردستاني إدماج النسوية والبيئية في صلب مشروعه السياسي، وأصبح الحزب يروج لما يسميه “تحرر المرأة كتحرر للمجتمع”، وأُسِّست وحدات نسائية قتالية مستقلة، مثل وحدات حماية المرأة، كما تم تبني خطاب صريح عن دور المرأة في الثورة الكردية. كذلك بدأت وثائق الحزب تتحدث عن الانسجام مع الطبيعة، ورفض التدمير البيئي بوصفه جزءًا من النضال ضد الرأسمالية الحديثة، متأثرين أيضًا بأفكار بوكتشين عن البيئة الاجتماعية، وهذا التطور العَقَدي جعل الحزب يظهر في السنوات الأخيرة كتنظيم ذي طابع ثقافي إيكولوجي، وليس مجرد حركة ثورية مسلحة.

وفي صيغته الحالية، يتبنى حزب العمال الكردستاني عقيدة هجينة تمزج بين رؤية لا مركزية مناهضة للدولة القومية، وإيمان بالمشاركة الشعبية والمجالس المحلية، فضلًا عن الدفاع عن حقوق المرأة كركيزة للتحرر، وموقف بيئي جذري ضد الرأسمالية الصناعية، إلى جانب احتفاظ ببنية شبه عسكرية وتاريخ طويل من العنف السياسي، غير أن هذه العقيدة الجديدة تواجه تحديات كبيرة، أبرزها فقدان المصداقية لدى قطاعات من المجتمع التركي والكردي بسبب سجل الحزب في العنف، وصعوبة إقناع الأطراف الدولية بمدى جدية التحول الفكري، خاصة في ظل تصنيف تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي له على أنه تنظيم إرهابي.

مراحل التحول العَقَدي لحزب العمال الكردستاني

مر الحزب بمراحل فكرية عميقة أعادت تشكيل أيديولوجيته ووسائله وأهدافه، هذا التحول لم يكن فقط نتيجة لضغوط داخلية وخارجية، بل ارتبط أيضًا بتطورات نظرية ومراجعات ذاتية مطولة، يمكن الوقوف على سمات تلك المراحل فيما يلي:

المرحلة الأولى: العقيدة الماركسية اللينينية والانطلاق المسلح (1978- 1990): تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978 في بيئة إقليمية مشحونة بالصراعات الطبقية والعرقية، وتبنى الحزب منذ انطلاقه العقيدة الماركسية اللينينية بوصفها إطارًا نظريًّا شاملًا لفهم الواقع الكردي، واعتبر النضال المسلح أداة رئيسة في مواجهة ما وصفه بـ”البرجوازية التركية”، والدولة القومية القمعية، وكان المشروع المركزي للحزب هو إقامة دولة كردستان مستقلة اشتراكية، تمتد إلى أجزاء من تركيا وسوريا والعراق وإيران، وتميزت هذه المرحلة بالإيمان المطلق بالصراع الطبقي، وبالدور الطليعي للنخبة الثورية، كما اتسم الخطاب العَقَدي للحزب بحدة في مواجهة الدولة، ورفض الانخراط في العملية السياسية الرسمية، وشهدت هذه المرحلة انطلاق الكفاح المسلح الفعلي عام 1984، وبروز شخصية عبد الله أوجلان بوصفه قائدًا كاريزميًّا وأيديولوجيًّا.

المرحلة الثانية: المراجعة الأيديولوجية الأولى ونقد الدولة القومية (1990- 1999): مع نهاية الحرب الباردة، وتراجع المد الشيوعي العالمي، بدأ حزب العمال الكردستاني مرحلة أولى من المراجعة الأيديولوجية، ظهرت ملامحها في أدبياته الداخلية، وفي خطابات أوجلان، وبدأ الحزب يتخلى تدريجيًّا عن الأدبيات الشيوعية الكلاسيكية، وشرع في انتقاد فكرة الدولة القومية، ليس فقط التركية، بل الكردية كذلك، وبرز في هذه الفترة تحول نحو مفاهيم جديدة، مثل الهوية الثقافية الكردية، والاعتراف الديمقراطي، كما بدأ الحزب يتحدث عن إمكانية الحل داخل حدود الدولة التركية شريطة الاعتراف بالحقوق القومية والثقافية للأكراد، لكن رغم هذه التعديلات، ظل الحزب يحتفظ بجيشه المسلح، ونظامه شبه العسكري، وتمسك بخطاب ثوري تجاه الدولة.

المرحلة الثالثة: التحول العَقَدي الجذري من داخل السجن (1999- 2005): شكل اعتقال عبد الله أوجلان عام 1999 لحظة فاصلة في التاريخ العَقَدي للحزب، فمن داخل محبسه في جزيرة إيمرالي أطلق أوجلان عملية مراجعة شاملة للفكر السياسي والتنظيمي للحزب، وتحت تأثير قراءته لأعمال المفكر الأمريكي موراي بوكتشين، تبنى أوجلان مفهوم “الأمة الديمقراطية” مشروعًا بديلًا للدولة القومية، وفي هذه المرحلة رفض فكرة الاستقلال القومي، وأكد ضرورة إنشاء نظام لا مركزي قاعدي يقوم على المجالس المحلية، ويضمن الحقوق الثقافية والسياسية والاقتصادية لجميع العرقيات وليس الأكراد فقط، وقد أعلن الحزب وقف إطلاق النار عدة مرات خلال هذه الفترة، وبدأ الحديث عن التحول إلى حركة سياسية جماهيرية بدلًا من التمرد المسلح.

المرحلة الرابعة: بناء العقيدة البديلة والأمة الديمقراطية (2005- 2014): شهدت هذه المرحلة إعادة صياغة جذرية للعقيدة الحزبية، فلم يعد الحزب يرى نفسه حركة قومية كردية تسعى إلى الاستقلال، بل أصبح يُعرف ذاته بأنه حركة تحرر اجتماعي تسعى إلى إقامة “كونفدرالية ديمقراطية” تضم كل الشعوب المضطهدة، في تركيا وخارجها. وأصبح مفهوم “الأمة الديمقراطية” مرجعية فكرية جديدة، تقوم على: رفض الدولة القومية بوصفها أداة قمع وتقسيم، ودعم الإدارة الذاتية المحلية والمشاركة الشعبية، فضلاً عن مركزية دور المرأة في عملية التحرر من خلال ما سُمي بـ”ثورة المرأة”، كما دمج الحزب البعد البيئي والروحاني في مشروع التحرر المجتمعي، وفي هذه المرحلة بدأ الحزب يتقارب مع التيارات المدنية والمنظمات الدولية، وأسهم -على نحو غير مباشر- في تأسيس أحزاب سياسية مدنية، مثل حزب الشعوب الديمقراطي.

المرحلة الخامسة: الممارسة العَقَدية في كردستان سوريا (2014- 2020): مثلت التجربة العملية للإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها، التي قادتها وحدات مرتبطة بـالحزب، الاختبار الحقيقي للعقيدة الجديدة، فقد أُسِّسَ نظام حكم محلي قاعدي تحت اسم “الإدارة الذاتية الديمقراطية“، وطُبِّقت أفكار أوجلان في الحكم المحلي، وتمكين المرأة، والتعليم بلغات متعددة، وأُشرِكَ مختلف مكونات المجتمع من العرب والكرد والسريان في الحكم، لكن التجربة لم تخلُ من التناقضات؛ إذ تعرضت لاتهامات بغياب التعددية الحزبية، وممارسات أمنية قمعية، كما وُجهت انتقادات إلى النموذج بأنه ذو طابع نخبوي، ومع ذلك فقد قدمت هذه التجربة نموذجًا عمليًّا للعقيدة الجديدة، وحسّنت صورتها على المستوى الدولي.

المرحلة السادسة: التمهيد للتحول السلمي (2020–2025): بدأت في هذه المرحلة مؤشرات واضحة على التحول من العنف إلى الاستعداد للانخراط السياسي، فقد انخفضت وتيرة العمليات العسكرية للحزب داخل تركيا، وتم تعزيز الخطاب السلمي في بياناته الرسمية، كما دعمت بعض مكونات الحزب مسار الحوار مع الدولة التركية، وظهر استعداد متزايد لتقديم تنازلات مقابل فتح المجال السياسي للأكراد. وفي مايو (أيار) الماضي أعلن الحزب رسميًّا تسليم سلاحه، في قرار اعتُبر تتويجًا لمرحلة طويلة من التحول العَقَدي والبراغماتي، وقد ربط الحزب قراره بضرورة تحقيق حل سياسي شامل، وضمان الاعتراف بالهوية الكردية والانتقال إلى النضال السلمي المدني، بما يتوافق مع رؤيته لمشروع الأمة الديمقراطية.

ملامح البنية التنظيمية لحزب العمال الكردستاني

يُعرف حزب العمال الكردستاني بكونه إحدى أكثر الحركات المسلحة انضباطًا وتنظيمًا في الشرق الأوسط، وقد طور منذ تأسيسه بنية هرمية صارمة تجمع بين مركزية القرار، ولا مركزية الانتشار الميداني، مع تمثيل واسع للمرأة والشباب. وتتمثل القيادة المركزية للحزب في مجلس القيادة العليا، الذي يتصدره الزعيم المؤسس عبد الله أوجلان، ويقود الحزب مجلس قيادة جماعي يعرف بمجلس قيادة منظومة المجتمع الكردستاني  KCKالتي أنشئت عام 2005 كإطار تنظيمي شامل للفروع التابعة للحزب، التي تشمل حزب الحياة الحرة في إيران، وحزب الاتحاد الديمقراطي بسوريا، ومجموعات دعم في أوروبا ولبنان وسنجار، وتتكون منظومة المجتمع الكردستاني من لجان مختصة؛ عسكرية، وسياسية، وإعلامية، وتنظيمية، وأيديولوجية. فضلًا عن هذا تعد قوة الدفاع الشعبي الجناح العسكري الرسمي لحزب العمال الكردستاني منذ منتصف التسعينيات، الذي يقوده ضباط محترفون من كوادر الحزب، وتتمركز قواته الأساسية في جبال قنديل بشمال العراق، كما تتضمن البنية التنظيمية للحزب وحدات المرأة الحرة، التي تعد الذراع النسوية المسلحة للحزب، وتضطلع بدور عَقَدي وأيديولوجي مهم في الترويج لفكر “تحرر المرأة كتحرر للمجتمع”.

ورغم صلابة البنية التنظيمية للحزب فإن داخل هذا الهيكل الموحد هناك تيارات فكرية وسياسية متمايزة تتباين في الرؤى والأولويات، وتعكس مراحل تطور الحزب فكريًّا وتنظيميًّا، من أبرزها: التيار الأوجلاني الذي يمثل العقيدة المركزية للحزب، ويستمد مرجعيته من كتابات عبد الله أوجلان عن “الأمة الديمقراطية”، و”الكونفدرالية الديمقراطية”، و”الديمقراطية القاعدية”، ويرفض هذا التيار فكرة الدولة القومية الكردية التقليدية، ويطرح بديلًا لا مركزيًّا يدمج الأكراد في النظام السياسي التركي، مع الحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية، ويتمتع هذا التيار بسيطرة شبه مطلقة على الإعلام الحزبي، والتوجيه الفكري، وشبكات الولاء، ويُعد الحامي الأيديولوجي لشرعية القيادة، في حين يمثل التيار الثوري الماركسي التقليدي بقايا الجناح العَقَدي المؤسس للحزب، الذي استند إلى الفكر الماركسي اللينيني منذ أواخر السبعينيات. ورغم تراجع تأثيره بعد اعتقال أوجلان، وتحول الخط العَقَدي الرسمي، لا تزال بعض القيادات الميدانية والمقاتلين القدامى متمسكين بمفاهيم مثل الصراع الطبقي، والثورة الاشتراكية، والدولة الكردية المستقلة، ويعارض هذا التيار التخلي عن الكفاح القومي، ويرى التحالفات مع القوى الإقليمية الدولية، مثل الولايات المتحدة أو بعض القوى العربية، خيانة فكرية.

فيما تعزز التيار النسوي الراديكالي في العقدين الأخيرين مع تصاعد دور المرأة في الحزب، لا سيما من خلال وحدات المرأة الحرة، وتجربة الإدارة الذاتية في شمال سوريا، حيث يروج هذا التيار لفكر نسوي جذري يعيد قراءة مفاهيم التحرر والمجتمع من منظور تحرير المرأة أولًا، وهو ما يتماشى مع أطروحات أوجلان نفسه، وقد بدأ هذا التيار يطالب بإعادة هيكلة قيادة الحزب بما يسمح بتمثيل متساوٍ للمرأة، والتخلص من الهيمنة الذكورية التاريخية في الصفوف العليا.

وفي مقابل هذا ظهر التيار المدني السياسي في أوساط الكوادر التي انخرطت في العمل السياسي القانوني داخل تركيا، خاصةً من خلال دعم أو المشاركة في حزب الشعوب الديمقراطي، حيث يرى هذا التيار أن الكفاح السياسي المدني هو الطريق الأكثر فاعلية لتحقيق المطالب الكردية، ويؤمن بأولوية التفاوض والانفتاح على القوى الديمقراطية التركية. ورغم تنامي نفوذه الشعبي، فإنه يواجه انتقادات داخلية من الأجنحة العسكرية، التي تشكك في مدى التزامه بالفكر الأوجلاني أو بنضالية الحزب، فيما نشأ تيار نتيجة تمدد الحزب خارج تركيا، وخاصة في سوريا والعراق، وهو التيار الإقليمي تشكل من القيادات الميدانية التي تُدير الشأن اليومي في مناطق الإدارة الذاتية، أو في وحدات مقاومة سنجار، وهو تيار براغماتي يرى ضرورة التعامل مع القوى الإقليمية والدولية بحسابات واقعية بعيدًا عن العقائد الصلبة، ويؤمن بالتحالفات المرحلية، ويقبل بتقديم تنازلات سياسية أو أيديولوجية مقابل مكاسب للحزب، مثل الحصول على اعتراف دولي، أو حماية ميدانية.

ورغم هذا التنوع والتيارات المتباينة، استطاع حزب العمال الكردستاني الحفاظ على قدر عالٍ من الانضباط والوحدة، بفضل مركزية رمزية عبد الله أوجلان بوصفه قائدًا روحيًّا وعَقَديًّا، ووجود بنية إعلامية وأمنية داخلية قوية تضبط الخطاب الداخلي، بالإضافة إلى تقديم خلافات التيارات بوصفها تنوعًا تكتيكيًّا ضمن وحدة إستراتيجية، إلى جانب استخدام أدوات ضغط داخلية، كالإقصاء، والتشكيك العَقَدي ضد المعارضين لأهداف الحزب.

إشكالات استدامة التحول العَقَدي لحزب العمال الكردستاني

تمثل عملية التحول من العنف إلى السلم في الحركات المسلحة تحديًا معقدًا، لا يقتصر على القرارات السياسية أو الترتيبات الأمنية، بل يتغلغل عميقًا في البنية العَقَدية والتنظيمية لتلك الحركات، فحينما يكون العنف جزءًا من هوية التنظيم ومرجعيته الفكرية، فإن التخلي عنه يتطلب إعادة تعريف للذات والغاية والوسائل المتبعة، وهو أمر قد يؤدي إلى تصدعات داخلية، أو تآكل للشرعية بين الأتباع، وفي حالة حزب العمال الكردستاني الذي أعلن تسليم سلاحه وإنهاء الكفاح المسلح ضد الدولة التركية، تُطرح تساؤلات جوهرية عن مدى قدرة الحزب على الاستمرار في المسار السلمي، في ظل وجود عقبات عَقَدية داخلية متجذرة، قد تعوق استدامة هذا التحول، أو في أحسن التقديرات تؤثر في مصداقيته واستقراره الداخلي، من بينها ما يلي:

أولًا- مركزية العنف في العقيدة التأسيسية للحزب: منذ تأسيسه في عام 1978، تبنى حزب العمال الكردستاني العنف أداة رئيسة للتحرر القومي والاجتماعي، وقد بُنيت عقيدته على مفهوم الكفاح المسلح الثوري، المستمد من الماركسية اللينينية، وتجارب حركات التحرر في أمريكا اللاتينية، حيث كان السلاح يمثل الشرعية الثورية، والمقاتل هو النموذج الأعلى للالتزام، ورغم التحول العَقَدي الذي شهده الحزب لاحقًا نحو مشروع “الأمة الديمقراطية”، لكن العنف ظل جزءًا من التراث الرمزي والتنظيمي للحزب؛ ما يجعل التخلي عنه اليوم لا يُقرأ فقط على أنه تحول سياسي؛ بل نوع من نزع القداسة عن تاريخ طويل من التضحيات، وهذا ما قد يؤدي إلى شعور بالتناقض العَقَدي لدى القواعد التنظيمية، خاصة بين المقاتلين القدامى.

ثانيًا- المرجعية الرمزية للحزب: لا يشكل عبد الله أوجلان زعيمًا سياسيًّا للحزب فقط؛ بل أيضًا ركيزة يستقي منها أعضاء الحزب منطلقاتهم الفكرية، بل يُقدس في بعض السياقات التنظيمية، وقد تبنى أوجلان منذ عام 1999 رؤية فلسفية جديدة تقوم على رفض الدولة القومية، والعنف، والدعوة إلى بناء مجتمع لا سلطوي ديمقراطي قاعدي، لكن هذا التحول الفكري جاء من الأعلى إلى الأسفل، أي من القيادة إلى القواعد، ولم ينبثق من عملية ديمقراطية داخلية، وهو ما يُبقيه عرضة للتشكيك أو سوء الفهم من التيارات الفكرية الأخرى داخل الحزب، خاصة التي ما زالت تؤمن بمبادئ الثورة الكلاسيكية، ويُضاف إلى ذلك أن استدامة التحول السلمي مرهونة -إلى حد كبير- ببقاء أوجلان على قيد الحياة، أو محافظته على حضوره الرمزي؛ ما يُظهر هشاشة البنية العَقَدية في حال غيابه، أو تغيّر السياق الرمزي المرتبط به.

ثالثًا- الفجوة بين الخطاب العَقَدي والممارسة الواقعية: من أبرز العقبات التي تواجه استدامة التحول السلمي لحزب العمال الكردستاني التباعد بين الخطاب والممارسة؛ فالحزب يتبنى الآن خطابًا سلميًّا مدنيًّا قائمًا على الديمقراطية القاعدية واللا عنف، في حين لا يزال يحتفظ ببنية عسكرية وأمنية قوية، وتنظيمات مسلحة نشطة في سوريا والعراق، بل إن بعض هذه التشكيلات لا تزال تُجند وتُدرب وتخوض صراعات ميدانية، ما يشير إلى ازدواجية في التوجهات، وهذا التناقض يُضعف مصداقية الحزب أمام جمهوره، وأمام الدولة التركية والقوى الإقليمية والدولية، ويُنتج أزمة عَقَدية مزدوجة؛ فمن جهة، يُتهم الحزب بالتراجع عن تاريخه الكفاحي، ومن جهة أخرى، يُتهم بعدم الالتزام الصادق بالتحول السلمي، وهو ما يعمق الشكوك بشأن نيّاته، ويزيد عزلة تياراته المعتدلة داخليًّا.

رابعًا- التيارات العَقَدية المتباينة داخل الحزب: يمثل التعدد العَقَدي داخل الحزب -بين التيار الأوجلاني المركزي، والتيار الماركسي التقليدي، والتيار النسوي، والتيار المدني السياسي- مصدرًا محتملًا لتفجر الخلافات. وقد كان بإمكان الحزب سابقًا احتواء هذه التيارات من خلال مرجعية أوجلان، والانضباط التنظيمي الصارم. أما اليوم، ومع انفتاح الحزب على الحياة السياسية المدنية، فإن الحراك العَقَدي الداخلي قد يخرج عن السيطرة، خاصة في حال غياب مشروع سياسي متكامل يُرضي كل هذه التيارات؛ لذا من المتوقع أن يُعارض بعض المقاتلين والقيادات الميدانية -خاصةً في وحدات قنديل أو سنجار- مسار السلام، بوصفه تنازلًا غير مبرر، أو انحرافًا عن مبادئ الحزب التاريخية، وقد يُترجم هذا الرفض إلى تمرد جزئي، أو انشقاقات صامتة، أو مقاومة داخلية تعرقل تنفيذ الانتقال الكامل نحو العمل السلمي.

خامسًا- إشكالية المظلومية التاريخية: تحمل العقيدة التنظيمية للحزب في طياتها ذاكرة جماعية محملة بالمعاناة، تستحضر صور الاضطهاد والسجون والقتل الجماعي الذي تعرض له الأكراد، سواء على يد الدولة التركية، أو في صراعات إقليمية متعددة، هذه الذاكرة تُغذي رواية الحزب عن شرعية الكفاح المسلح، وتُستخدم أيديولوجيًّا لتبرير العنف بوصفه أداة للدفاع عن الوجود. وفي ظل هذا الإرث الدموي، فإن أي دعوة للسلام قد تُواجه داخليًّا بممانعة نفسية وعَقَدية، بوصفها خيانة لدماء الشهداء، أو تجاهلًا لحق تاريخي ما قد يُعيد إنتاج العنف من داخل الحزب نفسه؛ لذا فإن استدامة السلام تتطلب تحولًا ثقافيًّا عميقًا في رواية الحزب لذاته وتاريخه، وهي عملية تحتاج إلى سنوات من التراكم الفكري، والتنظيمي، والتربوي.

محصلة القول هي أن المسار العَقَدي لحزب العمال الكردستاني يعكس حالة فريدة من التحول الأيديولوجي العميق لحركة مسلحة، من العنف الثوري والماركسية الكلاسيكية، إلى خطاب اجتماعي ديمقراطي لا مركزي يتجاوز فكرة الدولة، وقد استطاع الحزب أن يُعيد إنتاج ذاته من خلال تفاعل مركب بين الضغوط العسكرية والسياسية، والمراجعة الفكرية الذاتية، والتغيرات الإقليمية، لكن هذا التحول قد يواجه تحديات كبرى، على رأسها كسب الشرعية الإقليمية والدولية، وتجاوز التصنيفات الإرهابية، واستدامة هندسة عَقَدية جديدة تُعيد تعريف الحزب وأدواره وهويته، وتدمج روايته التاريخية ضمن مشروع سلمي متكامل دون الوقوع في التناقض بين الفكر والممارسة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع