تشهد سوق المعادن الحرجة تحولات عميقة على المستوى العالمي، حيث باتت هذه الموارد تمثل أحد أعمدة التنافس الاقتصادي والتكنولوجي بين القوى الكبرى، إذ تعد الصين المورد الرئيس لأكثر من 70٪ من الإنتاج العالمي، ما منحها نفوذًا واسعًا في الصناعات المتقدمة. في المقابل، سعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي -خلال الأعوام الأخيرة- إلى تنويع مصادر الإمداد، وتقليل الاعتماد على بكين؛ ومن هنا، بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب برسم خطة للاستحواذ على تلك المعادن الإستراتيجية في العالم، وكُثفت الدعوات الأمريكية لعقد صفقات مع أوكرانيا وباكستان والكونغو الديمقراطية ومالي. واستجابةً لهذا الطموح الأمريكي قدمت تركيا في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري صفقة لتطوير احتياطي كبير من رواسب المعادن الأرضية النادرة التي اكتُشفت مؤخرًا في بيليكوفا بالقرب من إسكي شهير وسط الأناضول.
ورغم الطابع الإيجابي المعلن للصفقة، فإنها تكشف عن مفارقة تركية مزمنة تتمثل في: كيف يمكن لأنقرة أن تستفيد من التعاون مع الغرب دون أن تفقد استقلالها الاقتصادي والسياسي؟ فكلما تعمق التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة ازدادت الحاجة إلى ضبط التوازن مع روسيا والصين، اللتين تمثلان شريكين أساسيين في الطاقة والتجارة؛ ومن ثم فإن أهمية هذه الصفقة لا تكمن في قيمتها الاستثمارية المباشرة فحسب؛ بل في رمزيتها الإستراتيجية بوصفها مدخلًا لإعادة بناء الثقة بين الجانبين بعد سنوات من التوتر، فهي تطرح تساؤلات عن مستقبل التحالف داخل الناتو، وحدود استقلال القرار التركي، وموقع أنقرة في خريطة التحالفات الجديدة التي قد تعيد تشكيل النظام الدولي.
قبيل الصفقة الأمريكية التركية، خاضت أنقرة مفاوضات مع الصين وروسيا بشأن تطوير احتياطياتها من العناصر الأرضية النادرة في منطقة بيليكوفا، غير أن تلك المفاوضات تعثرت بسبب رفض الجانبين الصيني والروسي تقديم تنازلات تتعلق بنقل التكنولوجيا، أو السماح بإقامة مصانع التكرير داخل تركيا، حيث شكل هذا التعثر نقطة تحول في المقاربة التركية، إذ بدأت أنقرة بإعادة توجيه مسارها نحو الغرب، مستفيدة من رغبة واشنطن في بناء سلاسل توريد آمنة خارج النفوذ الصيني؛ ومن ثم فإن الصفقة الأخيرة تمثل انتقالًا محسوبًا في سياسة أنقرة الاقتصادية نحو التموضع ضمن التحالف الصناعي الغربي، دون القطيعة الكاملة مع الشرق، ما يحمل عدة دلالات جوهرية بشأن تلك الصفقة، تنكشف من خلال يلي:
إن الانخراط الأمريكي في ملف العناصر الأرضية النادرة في تركيا يترجم تحولًا إستراتيجيًّا، فالموارد أداة جيوستراتيجية تؤثر في شبكات الإمداد والتوازنات بين القوى؛ لذا فإن الاتفاق المأمول ليس فقط محاولة لتأمين إمدادات بديلة للولايات المتحدة، بل هو أيضًا مؤشر على رغبة أنقرة في ترقية دورها الصناعي، وتوسيع هامش المناورة الجيوسياسي، غير أن هذا الطموح المشترك ينعكس على علاقة تركيا بروسيا، حيث إن تعاون أنقرة مع واشنطن في قطاع حساس تكنولوجيًّا يعني تقليص مساحة الملفات التي قد تُستخدم كأوراق ضغط من جانب روسيا، خاصة إذا انتقلت مراحل المعالجة داخل تركيا؛ ما قد يُضعف عنصر النفوذ الروسي الاقتصادي. كما أن موسكو قد تنظر إلى هذا التوجه على أنه انحراف تركي عن مناطق نفوذ تقليدية، ما قد يولد ردود فعل دبلوماسية، أو محاولات لتعزيز شراكات بديلة لتعويض أي فقدان نفوذ، لكن من غير المرجح أن يتحول هذا إلى مواجهة مباشرة، فلطالما حافظت أنقرة على قنوات التعاون مع روسيا في ملفات أخرى لتوازن طموحها الخارجي، في حين تجسد الصفقة المحتملة تحديًا مباشرًا لتموضع بكين في سلاسل توريد المعادن النادرة؛ لأنها تمثل محاولة لتوفير مصدر بديل خارج الصين، حيث تتقاطع مع إستراتيجية واشنطن لخفض الاعتماد على المورد الصيني المهيمن، وهذا يقوض قدرة بكين على الاحتكار الجزئي لسوق هذه المواد، ويعني تنافسًا جيواقتصاديًّا مرهقًا. وفي إطار إجراءات بكين المتزايدة للرقابة على تقنيات المعادن النادرة، قد تستخدم الصين أدوات تجارية أو تأثير شركات لتقييد عمليات نقل التقنية، أو فرض شروط مقابل استمرار الشراكات الاقتصادية مع أنقرة، ومع ذلك، فإن رغبة تركيا في نقل عمليات التكرير داخليًّا قد تُخفف التوتر على المدى المتوسط.
وفي مقابل الصين وروسيا، قد تفتح الصفقة فرصة لتعزيز التعاون الاقتصادي الأوروبي التركي من خلال الربط مع سلاسل توريد الأقرب جغرافيًّا والأكثر موثوقية، ما قد يقوي الروابط الاقتصادية مع أوروبا، ويمنح أنقرة نفوذًا تفاوضيًّا أكبر تجاه بروكسل، غير أن الاتحاد الأوروبي قد يبدي اهتمامًا بالتوافق مع معايير الاستدامة والشفافية قبل الانخراط التجاري الكامل؛ لذا فإن نجاح صفقات أوروبية مماثلة للصفقة الأمريكية يمر من خلال الامتثال البيئي والحوكمة لضمان قبول أوروبي واسع.
تُمثل الصفقة مؤشرًا على بداية مرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية التركية بعد سنوات من التوترات السياسية والعسكرية بين الجانبين، فمنذ الخلاف بشأن صفقة منظومة الدفاع الروسية (S-400) عام 2019، والعقوبات الأمريكية التي تلتها، شهدت العلاقات الثنائية فتورًا واضحًا في الثقة الإستراتيجية، غير أن توقيع صفقة المعادن الحرجة قد يعكس رغبة متبادلة في إعادة ضبط التحالف عبر مدخل اقتصادي تكنولوجي بعيد عن الملفات الأمنية الحساسة، فبدلًا من التركيز على الخلافات الدفاعية، يبدو أن واشنطن وأنقرة اختارتا التعاون في ملف يمثل أولوية مشتركة للأمن الصناعي والانتقال الأخضر.
في هذا السياق، تشير الصفقة إلى تحول في نمط إدارة العلاقة من تحالف أمني هش إلى شراكة إستراتيجية متعددة الأبعاد، فالتعاون في مجال المعادن الحرجة يمنح واشنطن فرصة لاستعادة أنقرة ضمن دائرة نفوذها الاقتصادي، في حين يمنح تركيا مساحة لإثبات دورها بوصفها شريكًا صناعيًّا موثوقًا به داخل منظومة الناتو، كما أن الجانب التركي يسعى إلى استخدام النجاح الاقتصادي والتكنولوجي وسيلةً لتخفيف الضغط الأمريكي في ملفات أخرى مثل شمال سوريا، وصفقات الدفاع، والعلاقات مع موسكو، وعودة العلاقات مع إسرائيل؛ ومن ثم تعكس الصفقة استخدام الاقتصاد لإعادة ترميم الثقة السياسية، وتخفيف التوتر الجيوسياسي بين البلدين.
ولعل الصفقة تتجاوز بعدها الثنائي لتكشف عن إعادة تعريف الدور التركي داخل حلف الناتو، فواشنطن تسعى -منذ الحرب الروسية الأوكرانية– إلى توسيع مفهوم الأمن الجماعي ليشمل الأمن الاقتصادي، وسلاسل التوريد الإستراتيجية، ومن هذا تأتي أهمية تركيا بوصفها دولة محورية تربط الشرق الأوسط بأوروبا وآسيا الوسطى، وتمتلك موارد ومعادن ضرورية للصناعات الدفاعية والرقمية الغربية؛ ومن ثم فإن إدماج أنقرة في تحالف المعادن الحرجة يمثل في جوهره خطوة نحو توسيع وظيفة الناتو من تحالف أمني إلى تحالف اقتصادي تكنولوجي موجه ضد الصين وروسيا.
ورغم الزخم الإيجابي الذي ولدته الصفقة، فإن مستقبل العلاقات الأمريكية التركية سيظل رهينًا بقدرة أنقرة على الموازنة الدقيقة بين الغرب والشرق، فتركيا ما زالت ترتبط بعلاقات اقتصادية عميقة مع روسيا في مجالات الطاقة والغاز، وبشراكات متنامية مع الصين في البنية التحتية والتكنولوجيا؛ لذا فإن انخراطها المتزايد مع الولايات المتحدة في قطاع المعادن الحساس قد تفسره موسكو وبكين على أنه تحول إستراتيجي غير مريح، وهو ما سيجبر صانعي القرار في أنقرة على إدارة هذه العلاقة بقدر من المرونة السياسية لتجنب استعداء أي طرف.
وبناءً على هذا، تفتح الصفقة الباب أمام مرحلة من التعاون المشروط بين أنقرة وواشنطن، فإذا نجحت في تحقيق نتائج ملموسة على صعيد التصنيع المشترك ونقل التكنولوجيا، فقد تشكل نموذجًا لتعاون أوسع في مجالات الطاقة المتجددة، وسلاسل الإمداد الدفاعية، وحتى الذكاء الاصطناعي الصناعي، لكن هذا يتوقف على ثلاثة عوامل رئيسة؛ مدى التزام واشنطن بسياسة عدم التسييس الاقتصادي للصفقة، وقدرة تركيا على تحقيق الاكتفاء الجزئي في مراحل الإنتاج دون خرق بنود الشراكة، فضلًا عن تطور البيئة الإقليمية، ولا سيما العلاقات مع روسيا وإيران وسوريا وإسرائيل، فأي توتر في تلك الملفات قد يعيد إحياء الخلافات القديمة بين أنقرة وواشنطن.
يمكن القول إن صفقة المعادن الحرجة الجديدة بين أنقرة وواشنطن ستشكل نقطة انعطاف في مسار العلاقات الأمريكية التركية، وتحول مسار التجارة الإستراتيجية من خانة الموارد الخام إلى بناء سلاسل قيمة صناعية جيوسياسية، دلالتها الأهم تكمن في أنها تختبر قدرة تركيا على إدارة سياسة التوازن المتعدد عمليًّا من خلال تحقيق مكاسب اقتصادية وغربية دون إثارة غضب روسيا والصين، وفي الوقت نفسه تقديم للولايات المتحدة بديل جغرافي وعضوي لسلاسل التوريد الحساسة؛ ومن ثم، وفي ضوء المعطيات الحالية، فمن المرجح أن تشهد العلاقات بين البلدين -على المدى المنظور، خاصة بعد وقف الحرب على غزة- نمطًا من التعاون الانتقائي من خلال تحالف عميق في ملفات محددة مثل المعادن، والطاقة، والتصنيع والبني التحتية، يقابله استمرار التباين في الملفات الحساسة على غرار سوريا، ومنظومة الدفاع الجوي، وقضايا شرق المتوسط، والعلاقة مع إسرائيل. وإذا نجح الجانبان في بناء الثقة من خلال هذه الصفقة، فإنها ستعد مدخلًا لإعادة صياغة العلاقة من تحالف مضطرب إلى شراكة مرنة تتيح لكل طرف مساحة مناورة أوسع ضمن بنية الحلف الأطلسي، لتبقى الصفقة مؤشرًا على أن مستقبل العلاقات بين البلدين سيتحدد عبر جيوسياسة الاقتصاد أكثر من جيوسياسة الأمن.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير