
في السنوات الأخيرة، تصاعد الجدل بشأن المعادن الحرجة بوصفها ساحة جديدة للتنافس بين القوى الكبرى، حيث باتت العناصر النادرة أساسًا للصناعات التكنولوجية والعسكرية الحديثة، من بطاريات السيارات الكهربائية إلى الأقمار الصناعية وأنظمة الدفاع الذكية. وفي ظل هذا المشهد الدقيق، تمثل الصفقة الأمريكية مع باكستان في قطاع المعادن الحرجة المبرمة في سبتمبر (أيلول) المنصرم بنحو 500 مليون دولار، مؤشرًا على ملامح سياسة أمريكية جديدة لإعادة هندسة سلاسل الإمداد العالمية للموارد الحيوية، تقوم على توظيف دول نامية ذات مواقع جيولوجية إستراتيجية، مثل الكونغو الديمقراطية وزامبيا وأستراليا وغرينلاند وأوكرانيا وتركيا؛ لبناء شبكة بديلة تقلل من الاعتماد على الصين، فالرئيس الأمريكي دونالد ترمب يسعى منذ وصوله إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الأول) الماضي إلى تحويل ملف الموارد إلى أداة نفوذ جيواقتصادي تمزج بين الاستثمارات التكنولوجية والمساعدات التنموية والتحالفات السياسية، ما يثير سلسلة من الأسئلة الجوهرية، لعل من أبرزها: هل تسعى واشنطن إلى بناء تحالف معدني عالمي لتقليص الاعتماد على الصين؟ وهل تمثل باكستان بموقعها الجيوسياسي وبنيتها الجيولوجية الغنية حلقة جديدة في إعادة تشكيل خريطة النفوذ الاقتصادي في جنوب آسيا؟ وما حدود التلاقي بين المصالح الأمريكية في تأمين الموارد الحيوية ومصالح باكستان في تحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي؟ ومن ثم تسعى هذه الدراسة إلى تحليل أبعاد الصفقة الأمريكية الباكستانية في قطاع المعادن الحرجة، من خلال تفكيك دوافعها الإستراتيجية، ودلالاتها الجيوسياسية، وانعكاساتها المحتملة على المستويات المحليـة والإقليمية والدولية، بما يسهم في فهم أعمق للتحول الجاري في بنية الاقتصاد الجيوسياسي العالمي.
تتمتع باكستان بقاعدة جيولوجية غنية ومتنوعة تجعلها من الدول الواعدة في مجال الموارد المعدنية الحرجة، حيث تعود التركيبة المعدنية الفريدة إلى تقاطع ثلاث وحدات تكتونية كبرى فوق أراضيها؛ الصفيحة الهندية، والصفيحة الأوراسية، وصفيحة بحر العرب، وقد أدى هذا التقاطع إلى نشوء سلسلة جبال هندوكوش وكاراكورام وهضبة بلوشستان إثر نشاط بركاني وبحري مكثف عبر العصور الجيولوجية، وفي هذا السياق، تنتشر الموارد المعدنية الحرجة في باكستان من خلال عدد من الأقاليم الرئيسة، يأتي في مقدمتها إقليم بلوشستان الذي يمثل العمود الفقري للتعدين في البلاد، ويحتوي الإقليم على أحد أكبر رواسب النحاس والذهب في العالم في منطقة “ريكو ديق”، إضافة إلى خامات الكوبالت والنيكل والعناصر الأرضية النادرة المصاحبة لصخور البازلت والجرانيت القديمة. كما توجد مؤشرات قوية على وجود رواسب من الليثيوم في المناطق الشمالية والغربية من الإقليم، خاصةً في البيئات الرسوبية المالحة.
أما إقليم خيبر بختونخوا فيضم مناطق تعدينية غنية بخامات الكروم والنيكل والمنغنيز، وهي عناصر تدخل في الصناعات التكنولوجية والعسكرية المتقدمة، وتُظهر التحاليل الجيوكيميائية في مقاطعة شترال الشمالية وجود رواسب صغيرة من العناصر الأرضية النادرة في الصخور الجرانيتية والمتحولة، كما تشير الدراسات الميدانية التي أجرتها هيئة المسح الجيولوجي الباكستانية إلى وجود رواسب من التنتالوم والنيوبيوم في بعض الصخور البغماتيتية ضمن سلسلة هندوكوش، ما يجعل هذه المنطقة ذات أهمية مستقبلية في الصناعات الإلكترونية الدقيقة.
وفي المناطق الشمالية المحاذية لإقليم غلغت- بلتستان، تتداخل الصخور النارية مع نطاقات التحول الإقليمي؛ ما يوفر بيئات جيولوجية مواتية لتكون معادن إستراتيجية، مثل الموليبدنوم والتنجستن، وهذه العناصر تُعد ضرورية لصناعات الطاقة النووية والعسكرية، وهو ما يضفي على تلك المناطق بعدًا أمنيًّا وإستراتيجيًّا خاصًا. ومن الجدير بالذكر أن الحدود الجيولوجية الممتدة مع الصين تمنح باكستان إمكانية الربط بين مواردها المعدنية ومجمعات المعالجة الصينية في إقليم شينجيانغ، ما قد يشكل شبكة إقليمية متكاملة لإنتاج المعادن الحرجة.
هذا التنوع الجيولوجي لباكستان لا يقتصر على الثروة المعدنية فحسب؛ بل يشكل أيضًا أساسًا لبناء إستراتيجية وطنية للموارد الحرجة، غير أن البنية الجيولوجية لباكستان تعكس مزيجًا من الفرصة والتحدي؛ فهي من جهة تمنح البلاد موقعًا استثنائيًّا في سوق المعادن الحرجة العالمية، ومن جهة أخرى تفرض عليها تحديات علمية وتقنية تتعلق بعمق الطبقات المعدنية، وصعوبة الاستخراج في البيئات الجبلية المعقدة، خاصةً أن كثيرًا من المناطق الغنية بالموارد تقع ضمن نطاقات غير مستقرة أمنيًا؛ ما يعوق جهود المسح والاستثمار الطويل الأمد.
منذ عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية، تصاعد الاهتمام الأمريكي بتأمين سلاسل إمداد بديلة عن الصين، التي تسيطر على أكثر من 60% من سوق هذه المعادن عالميًّا، وفي هذا السياق، جاءت الصفقة الأمريكية مع باكستان لتشكل إحدى أبرز مبادرات واشنطن في آسيا، بعد توقيع مذكرة تفاهم بين منظمة الأشغال الحدودية الباكستانية وشركة يو. إس ستراتيجيك ميتالز الأمريكية بنحو 500 مليون دولار في عمليات استخراج ومعالجة المعادن الحرجة في إقليم بلوشستان الغني بالموارد، وهو ما يحمل جملة من الدلالات الإستراتيجية، تتضح ملامحها فيما يلي:
تُثير صفقة المعادن الحرجة مع باكستان طيفًا عريضًا من الانعكاسات المتداخلة، إذ إن دخول واشنطن على خط تطوير الموارد الحرجة في باكستان يخلق ضغطًا جيوسياسيًّا يعيد صياغة حسابات القوة الإقليمي، فالصين -الشريك الإستراتيجي الأكبر لباكستان- لها مصلحة مباشرة في الحفاظ على نفوذها في مشروعات البنية التحتية وإمدادات الخام؛ لذا قد ترى بكين الصفقة محاولة أمريكية لقطع جزء من نفوذها الاقتصادي في المنطقة. أما الهند فستراقب التطور بحذر بوصفه مؤشرًا على محاولات إعادة توازن تحالفات القوى في جنوب آسيا؛ ما قد يؤثر في سباق النفوذ الاقتصادي والأمني بين نيودلهي وإسلام آباد. ومن الجانب الإيراني، فإن أي تعزيز للوجود الغربي بالقرب من الممرات البحرية والإقليمية قد يولد تهديدًا دبلوماسيًّا وأمنيًّا مباشرًا لطهران.
وإذا نجحت المشروعات في بلوشستان، وتطورت مرافق المعالجة، فهناك احتمال لتشكل مراكز إقليمية جديدة لتجهيز المعادن الحرجة تخدم صناعات في جنوب آسيا وغربها. هذا التحول قد يُسهم في تقليل اعتماد بعض الدول الإقليمية على الموردين التقليديين، ويحفز استثمارات تكاملية من طرق وموانٍ ومرافق تخزين، بيد أن التأثير الفعلي في الأسعار العالمية وسلاسل التوريد مرهون بحجم الإنتاج، وسرعة إدخال مرافق المعالجة إلى الخدمة.
كما أن الصفقة قد تُستخدم بوصفها أداة دبلوماسية بيد باكستان لتوظيفها في التفاوض مع شركاء آخرين، لا سيما الصين، من خلال إظهار أن لديها بدائل وشركاء متعددين، في الوقت نفسه، فإن واشنطن قد تستثمر هذه الشراكة لتعزيز علاقاتها مع دول الخليج وآسيا الوسطى، مقدمة نموذجًا للتعاون القائم على الموارد مع دول لديها مصالح أمنية وإستراتيجية مشتركة.
بالإضافة إلى هذا، تعكس الصفقة توجهًا أوسع نحو تنويع مصادر المعادن الحرجة، وتقليل تركز المعالجة في بلد واحد كالصين، يسهم هذا الانفتاح في تعزيز مرونة السلاسل الإمدادية للدول الصناعية، ويخفض تعرض الصناعات الحساسة للابتزاز الجيوسياسي أو تعطل الإمدادات، ومع هذا فإن الفاعلية الدولية تعتمد على قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على تحويل عدد من الاتفاقيات إلى قدرة إنتاجية فعلية وقابلة للمقارنة بحجم العرض الصيني.
تعد صفقة المعادن الحرجة بين باكستان والولايات المتحدة مؤشرًا على تحول الطبيعة التحالفية من مجرد روابط أمنية إلى شراكات اقتصادية مبنية على الموارد الحيوية، وقد يؤدي نجاح نموذج الشراكات المعدنية إلى ولادة تحالفات معدنية بين الولايات المتحدة، ودول غربية متحالفة، أو دول منتجة صاعدة، كمحاولة لبناء شبكة إمداد منافسة لشبكات الصين، ما يُعزز البعد الجيواقتصادي في المنافسة الدولية ويحول الموارد إلى أداة نفوذ جيوسياسية.
يواجه التعاون الأمريكي الباكستاني في مجال المعادن الحرجة تحديات سياسية معقدة تتعلق بموقع باكستان ضمن توازنات القوى الإقليمية في جنوب آسيا، إذ تخشى إسلام آباد أن يؤدي انخراطها في شراكات إستراتيجية مع واشنطن في مجال الموارد إلى توتر علاقاتها مع الصين، التي تمثل شريكها الاقتصادي الأكبر ضمن إطار “مبادرة الحزام والطريق”، كما أن الولايات المتحدة تدرك أن توثيق التعاون المعدني مع باكستان قد تفسره بكين والهند على أنه تحرك لاحتواء النفوذ الصيني في المنطقة، وهو ما قد يُفضى إلى تداعيات جيوسياسية على الاستقرار الإقليمي، وسيظل التعاون الأمريكي الباكستاني محكومًا بمدى قدرة واشنطن على موازنة علاقاتها مع الهند والصين دون أن تفقد باكستان هامشها الإستراتيجي، فأي انخراط متنامٍ مع الولايات المتحدة قد يدفع الصين إلى تقليص دعمها المالي لإسلام آباد، مما يضع الأخيرة أمام معادلة صعبة بين الفرصة الاقتصادية والمخاطرة الجيوسياسية.
ومن الناحية الاقتصادية، تواجه باكستان قصورًا في البنى التحتية التكنولوجية والتعديني؛ ما يحدّ قدرتها على الاستفادة الكاملة من الثروات المعدنية المكتشفة، كما أن ضعف الإطار التشريعي والرقابي في قطاع التعدين يمثل عقبة أمام جذب الاستثمارات الأمريكية، التي تشترط التزامًا بمعايير الحوكمة والاستدامة البيئية. في المقابل، تواجه الولايات المتحدة تحديًا في تأمين تمويل مستدام طويل الأمد للمشروعات التعدينية في بيئة محفوفة بالمخاطر السياسية والأمنية؛ لذلك قد تتجه واشنطن إلى دعم باكستان من خلال برامج فنية وتمويلية محدودة عبر مؤسسات مثل “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، بدلًا من الاستثمار المباشر الواسع.
ولعل الوضع الأمني في المناطق الغنية بالمعادن الحرجة في باكستان يمثل أكبر معوقات التعاون المستقبلي مع الولايات المتحدة، إذ تنشط جماعات انفصالية ومسلحة في مناطق التعدين ببلوشستان؛ ما يجعل تأمين مواقع الاستخراج والنقل تحديًا مستمرًا، كما أن احتمال استهداف هذه المشروعات من جانب قوى محلية أو إقليمية معارضة للنفوذ الأمريكي يزيد هشاشة بيئة الاستثمار، خاصةً بعد تصنيف واشنطن “جيش تحرير بلوشستان” منظمة إرهابية، ما قد يعني صدامًا عسكريًّا أمريكيًّا مباشرًا مع التنظيم في مناطق التعدين. إضافة إلى ذلك، يشكل عامل الثقة المتبادلة عقبة رئيسة، إذ تعاني العلاقات بين البلدين تاريخًا طويلًا من التقلبات والتباينات في أولويات الأمن القومي، ما يجعل من الصعب بناء شراكة تكنولوجية واستثمارية مستدامة في مجال يتطلب شفافية وبيئة تنظيمية متقدمة، مثل المعادن الحرجة.
يبدو أن التعاون الأمريكي الباكستاني في مجال المعادن الحرجة يتجه نحو نمط شراكة إستراتيجية محدودة ومشروطة، أكثر من كونه تحالفًا اقتصاديًّا متكاملًا؛ فواشنطن تسعى إلى توظيف باكستان كجزء من منظومة تنويع مصادر الإمداد وتقليل الاعتماد على الصين، خاصةً في ظل موقع باكستان الجيولوجي الذي يمنحها احتياطات واعدة من الليثيوم والنيوبيوم، والعناصر الأرضية النادرة في مناطق بلوشستان وجبال الهندوكوش. في المقابل، ترى إسلام آباد في هذا التعاون فرصة لدمج قطاعها التعديني بالاقتصاد العالمي، وجذب استثمارات أجنبية عالية التقنية، وتحسين بنيتها الصناعية، بما يسهم في تخفيف أزمتها المالية الهيكلية، لكن مستقبل هذا التعاون سيظل مرتبطًا بقدرة الطرفين على تحقيق توازن بين الأهداف الجيوسياسية والاعتبارات الاقتصادية، فبينما تركز باكستان على المكاسب التنموية القصيرة المدى، تتعامل واشنطن مع الملف من زاوية أوسع تتعلق بإعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية؛ ما يمثل تحولًا إستراتيجيًّا طويل المدى في السياسة الأمريكية تجاه الاقتصاد الجيوسياسي للمعادن.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير