عندما دعاني د. عمرو عبد الحميد إلى الكتابة لموقع مركز الدراسات العربية الأوراسية، شعرت بحرج شديد؛ فهو من الشخصيات التي فيها من الأدب والتهذيب والذوق ما لا يمكن أن ترد له طلبًا بسببه. وإذا أضيف إلى ذلك صداقة أخذت في التكوين خلال العامين الأخيرين بحكم التفاعل في أكثر من ساحة تليفزيونية، مضافًا إليها سفرنا معًا إلى اليمن، زاد الحرجُ حرجًا. ولكن كان هناك سبب لا تدخل فيه الاعتبارات الشخصية إلى القضية الجادة للكتابة في موضوع مهم بات محوريًّا في العلاقات الدولية، بحكم أن كلا العالمين العربي و الأوراسي بات محورًا مهمًّا في تقرير مصير العالم الذي نعرفه، حيث الحرب الأوراسية بين روسيا وأوكرانيا مشتعلة وملحة على المصير الأوروبي والأطلنطي. وفي العالم العربي، فإن حرب غزة الخامسة لم تعد من نوعية تلك الحروب القصيرة التي ما إن تشتعل حتي يبدأ انطفاؤها، وإنما استمرت إلى أكثر من ستة أشهر (وحدث ذلك بينما الحرب الأوكرانية تتعدى العامين)، وخلقت دوائر كبيرة من العنف امتدت من غزة إلى الحدود الإسرائيلية مع سوريا ولبنان، وتأثيراتها في الأردن والعراق، وأخيرًا اليمن الذي فتح الحرب على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وظهرت- سريعًا- تأثيراتها في الملاحة والتجارة الدولية، وتجلت- بقوة- في الاقتصاد العالمي وتأثيراته في العولمة من ناحية، ونوبات التضخم، واختلال سلاسل التوريد العالمية من ناحية أخرى. وكان في الموضوع أمر شخصي؛ فالعالم الأوراسي جوهره وقلبه النابض هو جمهورية روسيا الاتحادية، وهذه لم يتيسر لي معرفتها جيدًا منذ زيارتي لموسكو لأول وآخر مرة في الأسبوع الأخير من أكتوبر ١٩٩١، أي قبل أسابيع من انهيار الاتحاد السوفيتي. والآن أصبح العالم مختلفًا، وروسيا نفسها أصبحت مختلفة، مرة عندما عاشت عشر سنوات كاملة خارج منظومة “الدول العظمي”، وعضوًا متأخرًا في مجموعة الدول الثماني؛ ومرة أخرى عندما أصبحت تحت قيادة الرئيس بوتين، تمثل دولة “التحدي”، و”المراجعة” في النظام الدولي الذي يتغير بسرعة حاليًا.
لم يكن كل ما سبق يعني “الجهل” بروسيا التاريخية والمعاصرة أيضًا. ومثل كل أبناء جيلي، كانت موسكو هي المكان الذي ننظر إليه في كل ما تعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وكان الأدب الروسي، والموسيقى الكلاسيكية الروسية، جزءًا مهمًّا من ثقافتنا العامة. وبحكم الوجود داخل المعسكر اليساري المصري خلال الستينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، خُلِقَت معرفة غير قليلة بالتاريخ الروسي منذ نشوب ثورة أكتوبر ١٩١٧ حتى الربع الأخير من القرن العشرين. وخلال دراستي العليا في العلوم السياسية داخل مصر وخارجها في الولايات المتحدة، بات الاتحاد السوفيتي، ثم روسيا، جزءًا مهمًّا من دراستي، خاصة في رسالة الدكتوراة “الولايات المتحدة وأزمة أكتوبر ١٩٧٣ في الشرق الأوسط”، حيث كان لموسكو دور مهم وتاريخي.
كل ذلك رجّح في النهاية الاستجابة لرغبة الصديق عمرو عبد الحميد لكي أكتب- بانتظام- لهذا الموقع المهم الذي يطرح سؤالًا مهمًّا عن العلاقة بين العالمين الأوراسي والعربي في عالم يتغير بسرعة مخيفة، فيكون السؤال هو: كيف يتغير العالم؟ وعلى الأقل كيف نعرف أن العالم يتغير؟ وما الشواهد والدلائل على ذلك؟ وهل هو في الشكل، أم في المضمون، أم في كليهما معًا؟ الشائع هو أن أقاليم العالم وظروفها التاريخية والجيوسياسية ليست متطابقة، أو حتى متشابهة؛ ولكن تظل القاعدة الأساسية لها هي تحقيق توازن القوى، بكل ما يكفله ذلك من أبعاد القوى الخشنة، والناعمة، والذكية. العالم الآن بات- وفق وجهة نظر شائعة- ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة والصين، استنادًا إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للبلدين يتقارب يومًا بعد يوم. وفي الوقت الراهن، فإنه بالحساب، استنادًا إلى القوة الشرائية للدولار، فإن الناتج الصيني يتفوق على ذلك الأمريكي، وأخذًا بمعدلات النمو الراهنة، فإن الصين في طريقها إلى مزيد من التفوق، خاصة بعد الريادة في مجالات الثورة الصناعية والتكنولوجية الرابعة. النمط الذي يدور في تفاعلات القطبين يشير إلى تنافسهما، والولوج من المنافسة إلى الحرب التجارية والإستراتيجية في بحر الصين الجنوبي، والسياسية بالعقوبات الأمريكية على حلفاء للصين، مثل كوريا الشمالية، وإيران، التي تضغط بها واشنطن على دول العالم للاختيار ما بينها وبين الصين.
ولكن دورية “الشؤون الخارجية” الأمريكية رأت الثنائية القطبية تدور في الإطار التاريخي المعاصر للعلاقات والتفاعلات الأمريكية الروسية، وجاء ذلك في العدد المجمع لمقالاتها، الصادر في أبريل (نيسان) 2018، بعنوان “الحرب الباردة الجديدة.. روسيا وأمريكا من قبل والآن”. مجموعة الدراسات المنشورة تبدأ من بداية الحرب الباردة القديمة، التي جرى إشهارها فكريًّا من خلال مقال “X”، الذي سطره السفير الأمريكي جورج كينان، في عدد يوليو (تموز) 1947 بعنوان “مصادر السلوك السوفيتي”، والذي أعلن فيه انتهاء التحالف الأمريكي السوفيتي في أثناء الحرب العالمية الثانية، ودعا- كبديل- إلى اتباع إستراتيجية تقوم على احتواء الاتحاد السوفيتي. المقالات المختلفة المنشورة تعكس التطورات وفترات الصعود، واحتدام الحرب الباردة، أو تخفيف التوتر، عندما نشر هنري كيسنجر مقاله في يوليو (تموز) 1959 بعنوان “البحث عن الاستقرار”، ونشر نيكيتا خروتشوف في عدد أكتوبر (تشرين الأول) من الدورية نفسها بعنوان “عن التعايش السلمي”. ولكن لحظات التعايش والوفاق كانت الاستثناء على مسيرة طويلة من الحرب الباردة، استمرت حتى انهار الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وعلى مدى عقد ونصف العقد تقريبًا، وفي ظل انفراد الولايات المتحدة في العالم، فإن المقالات المنشورة ركزت على إنقاذ روسيا، والتعاون معها في إطار مجموعة الثماني. وفي عام 2002 ظهر العنوان “تجديد روسيا”، ولكن شهر العسل هذا لم يستمر طويلًا؛ حيث تواصلت المقالات والدراسات التي تكشف ازدياد التوتر بين واشنطن وموسكو. وفي عام 2006 كان العنوان هو “روسيا تترك الغرب”، وفي 2007: “خسارة روسيا وتكاليف استئناف المواجهة”، وفي 2008: “لماذا استقرار السلطوية (فلاديمير بوتين) خرافة؟”، وفي 2010: “مأزق التحديث في روسيا”، وفي 2011: “الدب المحتضر”، و”كارثة روسيا السكانية”، وفي 2014: “إدارة الحرب الباردة الجديدة”، وفي 2016: “الجغرافية السياسية الدائمة لروسيا”، و”البحث عن مكانة روسيا المشروعة”، و”إحياء القوة العسكرية الروسية” (هذا بعد ضم روسيا للقرم، واحتكاكها بأوكرانيا، وفرض العقوبات الأمريكية عليها). وفي عام 2018، نشرت مجلة “الشؤون الخارجية”، في عدد يناير (كانون الثاني): “احتواء روسيا مرة أخرى”، وفي عدد مارس (آذار): “هل بدأت حرب باردة جديدة؟”.
هذا ملخص سريع لما جرى حسبما رصدته دورية أمريكية، ولكن ذلك يدعو إلى نظرة أخرى تكشف كيف يتغير النظام الدولي! المقالات القادمة سوف تحتوي على اجتهاد لا بد منه.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.