بما أنني طُلب مني في العمل أن أكون مستعدًا لأي طارئ محتمل خلال الليل بين إسرائيل وإيران، ففي هذه الحالات، وبسبب طبيعتي القلوقة، لم أنم بعمق، واستيقظت بالمصادفة على صوت إشعار لخبر ضرب إسرائيل لايران من تطبيق إحدى القنوات العربية الخليجية، التي سبقت الكل، وكأن العاجل كان مُعدًا مسبقًا ليتزامن مع توقيت الضربة تمامًا. (هذا ما فهمته عندما استفقت جيدًا، وبدأت أتابع ما يجري ومن؟ ومتى؟ وماذا؟ وكيف؟) المهم استفقت فجر اليوم 13 يونيو (حزيران) 2025 على خبر تنفيذ إسرائيل عملية عسكرية جوية واسعة النطاق ضد بنك أهداف إستراتيجي داخل إيران.
العملية اختارت لها تل أبيب اسم “الأسد الصاعد”، وضرباتها وصلت إلى أكثر من 100 موقع حساس، حسب البيانات التي تظهر تباعًا حتى لحظة كتابة هذه السطور. أبرز المنشآت هي مواقع تخصيب اليورانيوم، ومقار الحرس الثوري -الذي تأكد الآن مقتل قائده- فضلًا عن مراكز الأبحاث العسكرية. هذه العملية السافرة أتت بعد تصاعد المؤشرات الاستخباراتية بأن طهران تقترب جدًّا من العتبة النووية، واللافت أنها جاءت تزامنًا مع ما بدا وكأنه انفتاح دبلوماسي كان يُرجى منه إعادة إحياء المسار التفاوضي مع واشنطن.
هذه الضربة بما تمثله من حجم، والأهم جرأة، لا يمكن النظر إليها -في رأيي- إلا بوصفها تحولًا إستراتيجيًّا غير مسبوق في العقيدة العسكرية الإسرائيلية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول)، وتهدد بإعادة رسم خريطة الصراع والردع في هذا الإقليم المنكوب.
صبرت عن التعليق السريع، حتى أقرأ ما كتبته التقارير الروسية والغربية الأولية عن الضربة، حتى أبتعد -قدر الإمكان- عن التناول العاطفي. صحف روسية، مثل نيزافيسيمايا غازيتا، وكوميرسانت، ووكالات دولية، مثل أسوشيتد برس، وفاينانشال تايمز، تؤكد أن العملية أدت إلى مقتل عدد من أبرز القادة الإيرانيين، وفي مقدمتهم الجنرال حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، والجنرال محمد باقري رئيس هيئة الأركان، بالإضافة إلى ثلة من العلماء البارزين في المشروع النووي الإيراني.
بعض المصادر الروسية تقول إن هذه الضربة لم يمكن لها أن تتم إلا بتنسيق “ضمني” مع أطراف غربية، وبدعم استخباراتي أمريكي مباشر، وتفسير ذلك هو دقة الضربة وتزامنها، والأخطر هذا الانكشاف المذهل لشبكات نقل اليورانيوم من نطنز إلى منشآت سرية قرب قُم.
من واقع ما جاء في التحليلات الروسية والغربية الأولية التي اطلعت عليها على عجل، تشكل لديَّ انطباع واستنتاج أنها تتفق في تقديراتها على أن الهدف الإسرائيلي من الضربة لم يكن تدمير المنشآت النووية فحسب؛ بل ضرب منظومة القيادة والسيطرة الإيرانية، وإعادة صياغة البيئة الإستراتيجية المحيطة بطهران.
إذن، ماذا نتوقع من إيران بعد هذه الضربة الموجعة جدًّا؟ وما حدود المتاح لدى طهران للرد عليها؟ وما إشكاليات خيار التصعيد، إذا قرر المرشد فعلًا تبنيه؟
هذه هي الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن مباشرة بعد أن تهدأ الأعصاب من قوة الضربة. وبهدوء، يمكن القول إنه رغم فداحة الخسائر، فإننا نرى أن إيران لم تتسرع في رد مباشر يمكن وصفه بالتصعيدي، أرسلت نحو 100 مسيرة أُسقطت قبل أن تدخل المجال الجوي لإسرائيل (حسب آخر خبر تابعته وأنا أكتب هذه الفقرة الساعة 11:15 بتوقيت موسكو).
هذا التريث الإيراني لا يعبر -في رأيي- عن ضعف بقدر ما يعكس وعيًا كاملًا من جانب خامنئي ومن تبقى من قادة إيران بالثمن الباهظ لأي مواجهة مفتوحة الآن مع إسرائيل، ومن ورائها واشنطن، وهو ما يسعى نتنياهو -حسبما يخيل لي- إلى جر إيران إليه في ظل تواطؤ وخداع وكذب ترامباوي متكامل الأركان مع أجندة نتنياهو، مع الأخذ في الحسبان كذلك الوضع الاقتصادي الإيراني المتردي داخليًّا، وتنامي الحصار الإقليمي، بعد ضرب “محور المقاومة”، وكسره وتفكيكه.
ما أعتقده أن إيران الآن سوف تلجأ إلى اعتماد إستراتيجية الردع بالتدرج غير المتماثل -وهو المناسب لها في رأيي- وذلك عبر خطوات محددة، مثل استخدام ما تبقى من قدرات لدى المجموعة الموالية في لبنان والعراق واليمن لشن هجمات ضد المصالح الإسرائيلية والأمريكية في محيط هذه الدول والمحيط الإيراني.
كما يمكنها محاولة تصعيد الهجمات السيبرانية، بمساعدة “هاكرز” من الدول المتعاطفة معها، مثل كوريا الشمالية وغيرها، التي تمتلك مثل هذه القدرات؛ لتعطيل البنية التحتية الحيوية في إسرائيل، أو حتى في الدول الحليفة لها. كذلك يمكنها تنفيذ عمليات أمنية خارجية في بيئات رخوة كإفريقيا، أو آسيا الوسطى، وهي مناطق لإسرائيل مصالح حساسة وكثيرة فيها.. فلا بد من التفكير خارج الصندوق.
وبالطبع لا بد من استغلال هذا العدوان وهذه الضربة لتكثيف النشاط الدبلوماسي لعزل إسرائيل دوليًّا، وتحريك الرأي العام الغربي ضدها، فإيران دولة موقعة على معاهدة حظر الانتشار، والوكالة الدولية ومفتشوها يعملون داخل إيران، ولا يوجد أي مبرر قانوني دولي يمنح إسرائيل الحق لهذه الضربة السافرة ضد إيران.
هذا النمط من الردود، وإن بدا بطيئًا، وغير انفعالي، فإنه يمثل -من واقع معرفتي المتواضعة بالعقيدة العسكرية والأمنية الإيرانية- جوهر هذه العقيدة الإيرانية التي ترتكز على الصبر الإستراتيجي، وتراكم الردع من خلال الشبكات التابعة، لا الجيوش.
والآن، ما الذي يمكن أن نتوقعه من تداعيات على القوى الإقليمية المحورية، وأبدأ طبعًا بمصر:
القاهرة سوف تتعامل مع الحدث -حسبما أرى- من زاويتين: أمنية وإستراتيجية؛ فمن جهة، هناك بالتأكيد خشية على أمن البحر الأحمر ومجال قناة السويس إذا امتدت العمليات ووصلت إلى اليمن مثلًا. ومن جهة ثانية، تدرك مصر أن استمرار التصعيد يهدد بإرباك التوازن الإقليمي الذي حافظت عليه طوال العقد الماضي؛ لذلك أتوقع أن تنشط الدبلوماسية المصرية بهدوء في قنوات إقليمية، ودولية، خاصة عبر موسكو وباريس.
إذا تحدثنا عن السعودية، فسنقول إن الرياض الآن في موقف مركب، فهي بالطبع ترى أن إضعاف إيران ميدانيًّا يصب في مصلحتها الإستراتيجية، لكنها -حسب اعتقادي- لا بد أن تكون تخشى من انفجار غير مضبوط يؤدي مثلًا إلى إغلاق مضيق هرمز، أو استهداف البنية التحتية، نفطية وعسكرية، في الخليج؛ لذلك أعتقد أنه يجب على السعودية أن تتحرك لتعزيز أمنها البحري، والدفاع الجوي، وبالطبع مواصلة مراقبة الدور الحوثي الذي أتوقع -بشدة- أن يتحرك بتكليف مباشر من طهران.
أما تركيا، وهي من أكبر المستفيدين في رأيي من كل هذه التطورات الإقليمية، فأعتقد أن أنقرة سوف تسعى -بلا شك- إلى استثمار الأزمة دبلوماسيًّا لتعزيز مكانتها الإقليمية بوصفها وسيطًا إقليميًّا، خاصةً ونحن نعرف أنه على الرغم من التنافس مع طهران، فإنها تحتفظ بعلاقات مع إيران، وكذلك مع إسرائيل والولايات المتحدة في آن واحد، لكن بالطبع في حال تطورت الأحداث، وفي إطار الرد الإيراني حدث تحرك ميداني في سوريا مثلًا من جانب حزب الله، أو ميليشيات داخلية مدعومة إيرانيًّا، فإن هذا قد يدفع أنقرة إلى إعادة تقييم انتشارها العسكري هناك.
وبعد كل هذا، هل هناك مستقبل لمفاوضات الملف النووي الإيراني؟ وكيف ستتعامل طهران مع واشنطن في هذه الحالة؟
مما لا شك فيه أن أكبر المتضررين من الضربة قد لا تكون إيران وحدها؛ بل المسار التفاوضي الغربي برمته، الذي كان يبدو وكأنه قاب قوسين من إعادة الإحياء، هذا إذا افترضنا حسن نية الأمريكيين، وأن هذه العملية برمتها لم تكن في سياق ما يوصف بالخداع الإستراتيجي.
ومما لا شك فيه كذلك -حسب اعتقادي- أن هذه الضربة لا بد أن تكون قد نسفت، مع المباني في قلب طهران، ما تبقى من ثقة بين طهران وواشنطن، كما أنها -بلا شك- أحرجت وسطاء إقليميين، مثل سلطنة عمان، وقطر.
ومن المؤكد كذلك -في رأيي- بعد ضرب نطنز، أن تعيد إيران النظر في شكل تفاعلها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وربما تقيّد في هذا السياق عمل المفتشين، أو تعلق بعض البروتوكولات الفنية الطوعية. ومن المرجح طبعًا -وهذا حقها- أن تتحول إلى مسار نووي أكثر سرية، وبلا سقف تفاوضي.
بالمجمل نقول إن الضربة الإسرائيلية لإيران فجر الجمعة، 13 يونيو (حزيران) 2025، سوف تكون -بلا شك- لحظة فارقة في تاريخ الصراع الإقليمي، فنحن نرى أمام عينينا إعادة ترسيم لخطوط الاشتباك، وكسر لفكرة الردع المتبادل، التقليدي (لم يعد هناك شيء تقليدي). هذه الضربة سوف تدفع طهران -مضطرة- إلى مساحات رد غير نمطي.
ومع ما نراه من هشاشة في التحالفات، غير الغربية، وضعف القدرة على التحكم بمسارات التصعيد، فيبدو -والله أعلم- أن المنطقة مقبلة على مرحلة من التوتر الهيكلي، بين عمليات عسكرية مفاجئة وغير منظمة إلى أزمات اقتصادية، والأخطر تخلخل التوازنات السياسية غير المستقرة أصلًا.
وكلمة أخيرة عن دور روسيا في كل ما يحدث في منطقتنا المجنونة، فأعتقد أن موسكو لا تزال قادرة على أداء دور، خاصةً أنه يمكن النظر إليها بوصفها قوة مستقرة خارج التحالفات التقليدية. إن موسكو مؤهلة -في رأيي- لأداء دور توازن ضروري، سواء من خلال الضغط على إيران لضبط إيقاع الرد، أو عن طريق حث ترمب، ومن ورائه القوى الغربية التابعة، على تبني مقاربة أكثر حذرًا، واستيعابًا للمتغيرات الإقليمية والدولية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.