مؤخرًا، أعلن البيت الأبيض “إجراءات لتنفيذ الإستراتيجية الوطنية للقطب الشمالي”، مستهدفًا أنشطة التعاون بين الصين وروسيا في القطب الشمالي على أساس حماية أمن الولايات المتحدة وحلفائها. وقد أعلن روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، ما سمّاه “التهديد القطبي الشمالي” من الصين وروسيا، خلال منتدى الدائرة القطبية الشمالية، مُعتبرًا أن “روسيا والصين تسببتا في منافسة عسكرية مُتسارعة في القطب الشمالي”.
في السنوات الأخيرة، مع تسارع الأوضاع الأمنية الإقليمية، والأنماط الجيوسياسية الجديدة بخصوص منطقة القطب الشمالي، تحولت المنطقة من التفاعلات “المنخفضة الصراع” بين أصحاب المصلحة المتعددين، إلى تفاعل يتميز بالهويات المنقسمة، والمعسكرات المتعارضة، والردع الحدودي، وحالة من “التوتر الشديد” تتسم بالتنافس على الحقوق والمصالح. وعلى هذه الخلفية، تحاول الولايات المتحدة، ودول أخرى، تصنيف الصين على أنها “تزيد عسكرة القطب الشمالي”، واعتبار التعاون بين الصين وروسيا في القطب الشمالي “تهديدًا عسكريًّا محتملًا”.
عام 2018، صدرت الإستراتيجية الصينية بخصوص القطب الشمالي، وكانت عناوينها العريضة تهدف إلى: “دراسة القطب الشمالي وحمايته، واستخدام موارده ومشاركتها في ضوء التعاون المُتبادل والاستدامة”. وشكلت هذه الغايات السياسية المبادئ الأساسية لمشاركة الصين في شؤون القطب الشمالي. وقد أصدرت الصين وروسيا بيانات مشتركة عدة مرات عن تعاون لتعزيز التنمية المستدامة في القطب الشمالي، بما في ذلك البحث العلمي، والتنفيذ المشترك لمشروعات البنية التحتية للنقل، ومشروعات الطاقة، وتطوير إمكانات طريق بحر الشمال واستغلالها، وما إلى ذلك.
وباعتبار الصين “دولة قريبة من القطب الشمالي” جغرافيًّا، تشعر بكين بالقلق إزاء تأثير التغيرات المناخية في القطب الشمالي في البيئة الإيكولوجية الصينية، وتحاول أن تنخرط أكثر بوصفها قوة عالمية فاعلة في هذه القضايا التي تشكل تحديًا عالميًّا يتعلق بمصير القطب الشمالي. ولكن على عكس دول القطب الشمالي، لا تتمتع الصين بالسيادة الإقليمية في تلك المنطقة، وليس لديها أي نزاعات أو مطالبات بالسيادة، وليست في حاجة إلى تحقيق أهداف عسكرية من خلال أنشطة خبيثة في القطب الشمالي، بل إنها الأقل احتمالًا في أن تشكل “تحديًّا” لمصالح الولايات المتحدة، أو حلف شمال الأطلسي.
وفي الوقت الحاضر، أصبحت الشركات الصينية مساهمة، ولها شراكة مهمة في مشروعات الطاقة والبنية التحتية في القطب الشمالي الروسي، كما يعمل الجانب الصيني على تطوير الممرات المائية واستخدامها، والتحقيق والبحث العلمي. وبالنظر إلى النتائج المبكرة للتعاون الصيني الروسي في القطب الشمالي، يتبين أن الجانبين كانا يتقدمان وفقًا للمعايير الموجهة نحو الاقتصاد، ولا ترتبط بأي مشروعات للنشاط العسكري.
وبشكل خاص، لم يكن للتعاون الصيني الروسي في القطب الشمالي “دوافع خفية”، بل كان نهجًا تكميليًّا يؤكد مشاركة أطراف متعددة، لا سيما في مجال الطاقة، حيث مشروعات مثل “يامال للغاز الطبيعي المسال”، أو “مشروع الغاز الطبيعي المسال في القطب الشمالي 2″، تحتاج إلى هذا الجُهد المُشترك. فالشركات الصينية تنفذ هذه المشروعات بالتعاون مع شركة توتال الفرنسية، وشركة ميتسوي اليابانية، والشركة الوطنية للنفط والغاز والمعادن اليابانية. وبعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، وعلى الرغم من اضطرار عدد كبير من الشركات الغربية إلى الانسحاب من السوق الروسية تحت وطأة الضغوط السياسية، ظلت الشركات الفرنسية واليابانية ترفض التخلي عن استثماراتها في القطب الشمالي الروسي، خصوصًا بعدما بلغ الغاز المنقول إلى أوروبا عبر بحر الشمال مستويات قياسية، وأصبحت إسبانيا وفرنسا وبلجيكا ودول أخرى المستهلك الرئيس للطاقة من القطب الشمالي.
في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن القطب الشمالي أصبح نقطة ارتكاز للمواجهة بين أوروبا وروسيا الممتدة شمالًا على طول البحر الأسود وبحر البلطيق. وتحتاج موسكو إلى تعزيز انتشارها العسكري في منطقة القطب الشمالي، كما يتعين عليها أيضًا تسليط الضوء على تأثير الارتباط لتنمية “ممر الطاقة المائي” في القطب الشمالي. لكن فيما يتعلق بالصين، فإن المشاركة في التعاون في مجال تنمية الممر المائي في القطب الشمالي لا تقتصر على المستوى الثنائي بين الصين وروسيا، ولكنها تعد أيضًا جزءًا مهمًّا من البناء المشترك لـ”طريق الحرير القطبي” مع جميع الأطراف. ومنذ عام 2013، قامت شركات الشحن الصينية بأكثر من 50 رحلة إلى القطب الشمالي، وعززت- باطّراد- الاستخدام التجاري، والتشغيل الطبيعي للممرات المائية في القطب الشمالي. ويمكن ملاحظة أن مواقف الصين ومطالباتها بالمشاركة في التعاون الروسي في مجال الطاقة، وتنمية الممرات المائية في القطب الشمالي، تجعل الادعاء الأمريكي بشأن “الغرض العسكري الصيني المحتمل في القطب الشمالي” مجرد نظرية “للمؤامرة”.
وأخيرًا، لن يساعد الصدام الأمريكي- الصيني- الروسي على حل المعضلة الأمنية الحالية في القطب الشمالي. في السابق، كانت دول الشمال قوة مهمة في الحفاظ على استقرار البنية الأمنية في القطب الشمالي؛ فمن ناحية، تستطيع الدول المجاورة الحفاظ على “الردع الإستراتيجي” ضد العمليات العسكرية الروسية في القطب الشمالي، ومن ناحية أخرى، كانت السويد وفنلندا، باعتبار وضعهما السابق كأعضاء خارج حلف شمال الأطلسي، تستطيعان الحصول على وضع “محايد”، ومنح روسيا ضمانات أمنية، لكن منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، و”التوسع الشمالي” لحلف شمال الأطلسي، ظهر سبعة أعضاء في الناتو من بين دول القطب الشمالي الثماني. ومن الصعب على البلدان المعنية تحقيق التوازن بين التزامات التحالف العسكري والحد من أخطار الصراع. وفي الوقت نفسه، زادت كثير من الدول أيضًا انتشارها العسكري وأنشطتها في المنطقة.
وتواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي زيادة حجم ووتيرة التدريبات، مثل “الرد البارد”، و”الحافة القطبية الشمالية”، و”التحدي القطبي الشمالي”، كما عززت روسيا مناوراتها “النجم القطبي” في جزيرة رانجل في القطب الشمالي، وبناء ثلاث قواعد عسكرية كبرى في جزر سيبيريا ردًا على هذا الوضع. ولم تركز الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على تعزيز استئناف منصات الحوار، مثل المائدة المستديرة لقوات الأمن في القطب الشمالي، ومنتدى خفر السواحل في القطب الشمالي، ومنتدى وزراء الدفاع في القطب الشمالي، ولم تشجع على إنشاء قوات أمن مشتركة في القطب الشمالي. ولقد ارتكب أعضاء حلف الناتو أخطاء إستراتيجية، أو حتى صراعات في البحر والمجال الجوي للقطب الشمالي، وبدلًا من استخدام آلية لخفض التصعيد، اختاروا فتح “معركة” في السياسة والرأي العام من خلال إعلان تهديد جديد “صيني- روسي” في القطب الشمالي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير