حلت رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة ضيفة على الصين في زيارة مهمة لمدة ثلاثة أيام مطلع شهر يوليو (تموز) 2024، تلبية لدعوة من رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ. هذه الزيارة، التي تعد علامة فارقة، تهدف تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين اللذين يتمتعان بصداقة طويلة الأمد، وشراكة إستراتيجية. وترى بكين أن هذه الرحلة يمكنها أن تحدث “تغييرًا محتملًا في قواعد اللعبة بالجوار الهندي”، حيث يمكن أن تطور علاقات غير مسبوقة مع بنغلاديش، التي ترى في الصين حليف ضرورة، لا سيما في الوقت الحالي.
عام 2016، خلال زيارة الرئيس شي جين بينغ إلى بنغلاديش، أعربت الصين عن رغبتها في الارتقاء بعلاقتها مع بنغلاديش من “التعاون” إلى “شراكة تعاون إستراتيجي شاملة”. وبحضور الرئيس شي ورئيسة الوزراء حسينة، تم التوقيع على مذكرة تفاهم بشأن مشاركة بنغلاديش في مبادرة الحزام والطريق. بالإضافة إلى ذلك، اتُّخذت قرارات بشأن ديون الصين، وتمويل عدد من المشروعات الضخمة في بنغلاديش.
وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، شهد دور الصين بوصفها شريكًا رئيسًا في التنمية مع بنغلاديش نموًّا غير مسبوق، حيث بلغت التجارة الثنائية الحالية بين البلدين (23) مليار دولار أمريكي. وبحسب وزارة الخارجية، ستطلب بنغلاديش قروضًا إضافية بقيمة (20) مليار دولار خلال هذه الزيارة، وستُخَصّص (15) مليارًا لمشروعات تطوير البنية التحتية، في حين ستُصرَف الـ (5) مليارات المتبقية باليوان الصيني لتسهيل مدفوعات الواردات من الصين، وهذا يأتي في سياق السياسة الصينية التي تريد تقليل الاعتماد على الدولار، والسياسة البنغلاديشية التي تحاول إحياء سياسة جديدة لتعامل الدول النامية مع الدول الكبرى، لا سيما أن الشيخة حسينة دعت مؤخرًا إلى إعادة تفعيل المنظمات الدولية ذات الصلة، وعلى رأسها مجلس مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية (D-8)، وذلك في ضوء التغيرات الاقتصادية العالمية، التي دفعت بنغلاديش إلى إعلان استعدادها للتحول إلى عملات بديلة بدلاً من الاعتماد على الدولار الأمريكي فقط. وقد فرضت الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الغربية، كثيرًا من العقبات أمام الاقتصادات وأنظمة المعاملات القائمة على الدولار، وهو ما أدى إلى فرض تحديات كبيرة على دول مثل بنغلاديش. ومن خلال استكشاف المعاملات باليوان الصيني والعملات الأخرى، تهدف بنغلاديش إلى تخفيف هذه العقبات الاقتصادية، وتحسين استقرارها المالي واستقلالها.
وقالت سفارة جمهورية الصين الشعبية في بنغلاديش، في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، إن المتحدث باسم وزارة الخارجية ماو نينغ أعلن زيارة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة في الفترة من 8 إلى 10 يوليو (تموز)، قائلًا: “ستكون هذه أول زيارة تقوم بها رئيسة الوزراء الشيخة حسينة للصين منذ بداية ولايتها الجديدة، وبعد خمس سنوات من زيارتها الأخيرة للصين. ومن المقرر أن يلتقي الرئيس شي جين بينغ خلال الزيارة برئيسة الوزراء الشيخة حسينة، وسيقيم رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ حفل ترحيب، ويجري محادثات معها”.
وسيشارك رئيسا وزراء البلدين في حفل التوقيع على وثائق التعاون، وسيجري قادة البلدين تبادلًا متعمقًا لوجهات النظر بشأن كيفية تعميق الصداقة التقليدية وتوسيع تعاون متبادل المنفعة ومناقشة القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك. وستشارك رئيسة الوزراء حسينة أيضًا في قمة التجارة وفرص الأعمال والاستثمار بين الصين وبنغلاديش.
استمرت رسائل المسؤولين الصينيين بشأن الزيارة مُعتبرين أن الصين وبنغلاديش جارتان جيدتان، وصديقتان جيدتان، وشريكتان جيدتان، ولديهما رؤى متشابهة للتنمية، وإستراتيجيات متسقة. ومنذ إقامة العلاقات الدبلوماسية قبل (49) عامًا، تعامل البلدان باحترام ومساواة، وشاركا في تعاون متبادل المنفعة، ودعم كل منهما الآخر في القضايا التي تؤثر في المصالح الأساسية لكليهما، ودفعا التحديث على نحو مشترك، وضربا مثالًا جيدًا للصداقة والتعاون بين البلدان النامية. وفي السنوات الأخيرة، وبفضل التوجيه الإستراتيجي والالتزام من قادة البلدين، عمّق الجانبان الشراكة التعاونية الإستراتيجية بينهما، وأقاما تعاونًا مثمرًا وعمليًّا في مختلف المجالات.
فالصين تُبدي رغبتها في العمل مع بنغلاديش خلال هذه الزيارة، والمضي قدمًا بروح المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، وتعميق الثقة السياسية المتبادلة، ومواصلة تضافر إستراتيجيات التنمية، وتعزيز التعاون الإستراتيجي في إطار مبادرة الحزام والطريق، وتسريع تنفيذ مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية، والارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى مستوى جديد، فيما جاءت ردود الفعل البنغلاديشية عبر وزارة الخارجية بأن دكا ستسعى إلى الحصول على دعم بكين لمبادرة التنمية المتكاملة (SIDI)، التي تركز على ميناء بايرا في منطقة باتواخالي الجنوبية. وسيكون هذا المشروع بمنزلة خطة تنمية متكاملة للمنطقة الجنوبية من البلاد، وتشمل مشروعات في مجالات النقل، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، والطاقة، والكهرباء، والخدمات اللوجستية، ومنطقة اقتصادية خاصة. وأضافت وزارة المالية البنغلاديشية أن البلاد تستعد لإنشاء مصنع للسيارات الكهربائية، ومجمع عالي التقنية، ومركز لوجستي. بالإضافة إلى ذلك، ستسعى بنغلاديش إلى الحصول على قروض من الصين لتنفيذ مشروع تطوير النقل السريع الجماعي في دكا، وخط سكة حديد بهانجا- كواكاتا، وجسر فوق نهر كوتشا في بيروجبور، وتجديد كلية دكا الطبية، وجسر ماهيشكالي، وخط أنابيب مطرباري وباخراباد.
وقد سبقت الزيارة البنغلاديشية للصين، زيارة ليو جيان تشاو، رئيس الدائرة الدولية للحزب الشيوعي الصيني للعاصمة دكا، وقد عبر عن اهتمامه بتعزيز العلاقات الثنائية، لا سيما في الشأن السياسي. وقال: “نعتقد أن سياسة الحكومة تنبع من وجهات نظر الأحزاب السياسية، وهذا يعني أن التواصل بين الأحزاب السياسية في البلدين مفيد جدًّا في فهم العلاقة المتبادلة بين الحكومة والشعب. ويؤدي هذا التواصل أيضًا دورًا في تبني السياسة المتبادلة الصحيحة. هذا التواصل مهم.” ووصفت مصادر دبلوماسية في دكا زيارة وزير الحزب الشيوعي الصيني، ليو جيانتشاو، إلى دكا بأنها مهمة، قبيل جولة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة في بكين.
من جانب آخر، تأتي هذه الزيارة للشيخة حسينة إلى الصين في وقت تضطرب فيه العلاقات البنغلاديشية- الهندية، لا سيما بعدما بنت دكا قاعدة بحرية تتمركز فيها السفن الصينية تمركزًا دائمًا، واشترى الجيش البنغلاديشي دبابات صينية، ويفكر أيضًا في شراء طائرات. بالإضافة إلى ذلك، يجري البلدان مناورات مشتركة، فيما تدفع الاستثمارات الاقتصادية بنغلاديش- الصين إلى علاقات قد تؤثر في الأمن القومي الهندي، حتى لو دافعت دكا من خلال التعبير الدائم عن رغبتها في الحفاظ على علاقات ممتازة مع نيودلهي.
الهند الآن أمام مشكلة في مفهومها السياسي عن بنغلاديش، لا سيما أن الفكر الإستراتيجي الهندي تشكل في الفترة من 2001 إلى 2006 خلال حكم الحزب القومي البنغلاديشي المؤيد للإسلام، والمؤيد لباكستان، وفي ظل حكم الحزب القومي البنغلاديشي ازدهرت النزعة الإسلامية المسلحة، وحظيت التمردات في شمال شرق الهند بدعم بنغلاديشي. وسوف تشعر الهند بالتهديد إذا ما تولى أي حزب آخر غير حزب رابطة عوامي بزعامة الشيخة حسينة حكم بنغلاديش.
لذا فإن وجهة النظر من نيودلهي قصيرة الأجل جدًّا، فالإستراتيجية المتبعة هي الإبقاء على رابطة عوامي في السلطة، مع محاولة منع النفوذ الصيني المتنامي. ومن ناحية أخرى، تلعب الصين لعبة طويلة الأمد في بنغلاديش، وهي توازن علاقاتها مع رابطة عوامي الحاكمة والحزب القومي البنغلاديشي المناهض للهند، والمؤيد للجيش. كما أن بنغلاديش ليست ضحية سلبية لهذه المنافسة الجيوسياسية في خليج البنغال؛ بل إن دكا تستغل موقعها الإستراتيجي لتشجيع هذه المنافسة. وهناك وعي واضح بأن الهند والصين تأخذان أكثر مما تعطيان، وأن مشروعات البنية الأساسية والتصنيع فيهما منخفضة الجودة مقارنة باليابان وكوريا الجنوبية.
ولقد أوضحت أزمة لاجئي الروهينجا أن الصين وبنغلاديش صديقتان في الأوقات العادية فقط؛ فالصين تعرقل تحرك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي الذي ترتكبه حكومة ميانمار، والذي تراه بنغلاديش عملًا غير ودي. والهند، الحليف الأقرب إلى بنغلاديش ظاهريًّا، ليست أفضل حالًا، ففي أزمة لاجئي الروهينجا، تدعم نيودلهي ميانمار بكل قوة. إن الصين والهند سوف تبذلان قصارى جهدهما لتتغلب كل منهما على الأخرى في معركتهما على النفوذ في خليج البنغال، وسوف تحاولان استغلال بنغلاديش الضعيفة اقتصاديًّا، ولكن من المرجح أن تفشلا في ذلك مع استمرار بنغلاديش في اللعب على وتر الصعوبة، واستغلال كل منهما للآخر.
وفي المستقبل، قد يكون للتغييرات في السياسة التجارية التأثير الأكبر في نفوذ العملاقين في بنغلاديش. ففي الوقت الحالي، تبذل الهند كل ما في وسعها لمنع الصادرات من بنغلاديش، في حين لا تظهر الصين أي علامات على السماح لصادرات بنغلاديش بدخول الأسواق الصينية. وتسمح كل من الدولتين بتخفيض قيمة صادراتها إلى بنغلاديش- وهو ما يشكل انتهاكًا لقواعد منظمة التجارة العالمية- وتمنعان من خزانة بنغلاديش أموالًا أكثر مما تقدمانه في هيئة قروض، لكن الصين، التي هي أغنى كثيرًا من الهند، والتي يتفوق اقتصادها على الاقتصاد الهندي، تتمتع بميزة تجارية، وإذا ما فتحت اقتصادها أمام واردات تقدر بمليارات الدولارات من بنغلاديش، فإن ميزان القوى في بنغلاديش سوف يتحول- على نحو حاسم- لصالح الصين.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.