
في سياق التحولات الجيوسياسية السريعة التي يشهدها العالم الإسلامي والشرق الأوسط، تبرز العلاقات بين مصر وباكستان بوصفها واحدة من أبرز الشراكات الإستراتيجية التي تعكس تقاربًا تاريخيًّا وثقافيًّا عميقًا. يُعد التعاون العسكري بين البلدين محورًا أساسيًّا لهذه العلاقات، حيث يعكس الزيارات المتكررة لقادة الجيش الباكستاني إلى القاهرة رغبة مشتركة في تعزيز التنسيق الأمني والدفاعي أمام التحديات الإقليمية المتنامية. منذ عام 2016، شهدت هذه الزيارات تصاعدًا ملحوظًا، مع زيارات متتالية لثلاثة قادة عسكريين باكستانيين متعاقبين، مما يشير إلى نمط من الالتزام الدائم بالشراكة. هذه الزيارات ليست مجرد لقاءات بروتوكولية، بل هي تعبير عن إستراتيجية مشتركة لمواجهة التهديدات المشتركة، مثل الإرهاب والتوترات الإقليمية، مع التركيز على تبادل الخبرات والتدريبات المشتركة. ومع ذلك، فإن هذه التفاعلات تحمل انعكاسات جيوسياسية واسعة، تؤثر في توازن القوى في جنوب آسيا والشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالعوامل الهندية والإسرائيلية والتركية.
بدأت الزيارات المتكررة لقادة الجيش الباكستاني إلى مصر في السنوات الأخيرة كتعبير عن تصعيد في الالتزام بالشراكة العسكرية، مع التركيز على التنسيق الإستراتيجي أمام التهديات الإقليمية. أولى هذه الزيارات البارزة كانت في يوليو (تموز) 2016، عندما زار الجنرال رحيل شريف، قائد الجيش الباكستاني آنذاك، القاهرة لمدة أربعة أيام. خلال هذه الزيارة، التقى شريف بالرئيس عبد الفتاح السيسي، ووزير الدفاع المصري، والقائد العام للقوات المسلحة، حيث ناقشا تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب، وتبادل الخبرات في التدريبات الخاصة. أكدت الزيارة أهمية التنسيق داخل التحالف الإسلامي العسكري، الذي تقوده باكستان، وأسفرت عن اتفاقيات أولية لإجراء تدريبات مشتركة في مجالات الاستخبارات والعمليات الخاصة. تلتها زيارة الجنرال قمر جاويد باجوا في ديسمبر (كانون الأول) 2018، التي جاءت في سياق تصاعد التوترات في أفغانستان والشرق الأوسط.
التقى باجوا بقائد الجيش المصري آنذاك الفريق محمد زكي، وأشاد الجانب المصري بخبرة الجيش الباكستاني في مواجهة الإرهاب، مما أدى إلى توقيع مذكرات تفاهم حول التعاون في الصناعات الدفاعية والتدريب. كانت هذه الزيارة فرصة لمناقشة الدعم المتبادل في عمليات حفظ السلام، حيث شاركت باكستان بقواتها في بعثات مصرية في السودان ودارفور. أما الزيارة الأحدث، في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، فقد قام بها المشير عاصم منير، قائد الجيش الباكستاني الحالي، حيث التقى بوزير الدفاع المصري الفريق عبد المجيد صقر، لمناقشة تعزيز التعاون الدفاعي والأمني الإقليمي. أكد منير أن مصر “دولة شقيقة”، مشددًا على أن الشراكة ستسهم في السلام الإقليمي. وشملت الزيارة أيضًا لقاءً مع الإمام الأكبر للأزهر، مما يعكس الجوانب الدينية والثقافية للعلاقة. هذه الزيارات الثلاث، المتقاربة زمنيًّا، تشكل نمطًا يعكس الاستمرارية في السياسة العسكرية الباكستانية، حيث يُستخدم كل لقاء لتعزيز الاتفاقيات السابقة، وفتح آفاق جديدة، مثل التعاون في التصنيع العسكري والدفاع الجوي. إن تكرار هذه الزيارات يعزز الثقة المتبادلة، ويرسل رسائل إيجابية إلى الدول الإسلامية الأخرى، مع التركيز على مواجهة التحديات المشتركة، مثل النزاع في غزة، والتوترات في البحر الأحمر.
تشكل العلاقات العسكرية بين مصر وباكستان نموذجًا للتعاون الإقليمي الفعال، مبنيًا على تبادل الخبرات والموارد في مواجهة التهديدات المتنوعة. يركز التعاون على عدة محاور رئيسة، بدءًا من التدريبات المشتركة التي أصبحت روتينية منذ التسعينيات. على سبيل المثال، شاركت وحدات من الجيش الباكستاني في تمارين “النجم الساطع”، التي تقودها مصر بالتعاون مع الولايات المتحدة، مما سمح بتبادل التقنيات في العمليات البرمائية، والدفاع الساحلي. كما أدى التعاون إلى إنشاء برامج تدريبية مشتركة في مجال مكافحة الإرهاب، حيث يستفيد الضباط المصريون من خبرة باكستان في عمليات ضد طالبان، في حين يقدم الجيش المصري تدريبات على الدفاع في الصحراء والنيل.
في الجانب الصناعي، شهدت السنوات الأخيرة تقاربًا في إنتاج الأسلحة، حيث تم الاتفاق على مشروعات مشتركة لتصنيع الذخائر والمركبات العسكرية، مستفيدين من الخبرة الباكستانية في الصواريخ، والمصرية في الغواصات. كذلك، يشمل التعاون تبادل المعلومات الاستخباراتية بشأن الجماعات المتطرفة، خاصة في سيناء ووادي سوات، مما يعزز القدرة على التنبؤ بالتهديدات. أما في مجال حفظ السلام، فقد شاركت القوات الباكستانية بأكثر من 5000 جندي في بعثات مصرية تحت الأمم المتحدة، مما يعكس الالتزام المشترك بالاستقرار الإفريقي. لكن هذه العلاقات ليست خالية من التحديات، مثل الاعتماد على تمويل خارجي للصناعات الدفاعية، لكنها تظل أداة فعالة لتعزيز الردع المشترك، خاصة مع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط. في السنوات الأخيرة، أدى توقيع مذكرات تفاهم بشأن التعاون النووي السلمي والفضائي إلى توسيع النطاق، مما يجعل الشراكة أكثر شمولًا وتكاملًا مع الإستراتيجيات الوطنية لكلا البلدين.
تُعد الشراكة العسكرية المصرية الباكستانية عاملًا حاسمًا في تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية الهندية، حيث تعزز موقف إسلام آباد في مواجهة نيودلهي داخل المنظمات الدولية والإقليمية. تاريخيًّا، كانت مصر حليفًا للهند في حركة عدم الانحياز، مما أثار قلق باكستان من تأثير القاهرة على النزاع في الكشمير. ومع ذلك، ومع تصاعد التعاون العسكري في العقد الأخير، أصبحت مصر أكثر حيادية، حيث حثت على ضبط النفس خلال التوترات الهندية الباكستانية في مايو (أيار) 2025، مما يعكس توازنًا دقيقًا للحفاظ على العلاقات مع كلا الجانبين. هذا التوازن يضعف من محاولات الهند لعزل باكستان دبلوماسيًّا، خاصة في منظمة التعاون الإسلامي، حيث منعت مصر مع إندونيسيا والبحرين إدراج إشارات معادية للهند في بيانات المنظمة عام 2025.
جيوسياسيًّا، تعزز الزيارات الباكستانية إلى مصر من قدرة إسلام آباد على بناء تحالفات إسلامية، مما يقابل الشراكة الهندية الإسرائيلية في مجال الدفاع. على سبيل المثال، أدى التعاون المصري الباكستاني في الصناعات الدفاعية إلى تطوير أنظمة رادار متقدمة، يمكن أن تعزز الردع الباكستاني ضد الهجمات الهندية، مما يزيد التوترات في جنوب آسيا. كذلك، يؤثر هذا التعاون في الاقتصاد الإقليمي، حيث تسعى الهند إلى تعزيز علاقاتها مع مصر من خلال صفقات تجارية، لكن الشراكة العسكرية الباكستانية تحول دون هيمنة نيودلهي. في النهاية، يُنظر إلى هذه العلاقة على أنها عامل استقرار لباكستان، يحد من طموحات الهند في السيطرة على الممرات البحرية في بحر العرب، مع الحفاظ على توازن يمنع التصعيد النووي.
في السياق الإسرائيلي، تمثل الشراكة العسكرية المصرية الباكستانية تحديًا مباشرًا للتوازن الإقليمي الذي بنته تل أبيب منذ اتفاقية السلام عام 1979. لا تعترف باكستان بإسرائيل، وتدعم القضية الفلسطينية بقوة، مما يجعل التعاون مع مصر أداة لتعزيز موقف القاهرة الداعم لفلسطين. خلال الزيارات الباكستانية الأخيرة، أكد قادة الجيش الدعم المشترك لوقف إطلاق النار في غزة، مما يعكس تآزرًا يضعف التأثير الإسرائيلي ضد مصر. في سبتمبر (أيلول) 2025، أدت إدانة مشتركة لمصر وباكستان للضربات الإسرائيلية على قطر إلى تصعيد الخطاب المعادي مع إسرائيل. كذلك، يُرى التعاون المصري- الباكستاني في الصواريخ والطائرات على أنه تهديد محتمل للردع الجوي الإسرائيلي، خاصة مع مشاركة باكستان في التحالف الإسلامي العسكري. هذا يدفع إسرائيل إلى تعزيز علاقاتها مع الهند لمواجهة التحالف الإسلامي، مما يخلق ديناميكية جديدة من التوازنات المتعددة الأطراف في الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك، يتقاطع التعاون المصري الباكستاني مع التقارب التركي المصري، الذي بلغ ذروته في تمارين “بحر الصداقة 2025″، في سبتمبر (أيلول)، التي شملت وحدات بحرية من الدولتين في مياه تركية. هذه التمارين، التي ركزت على الدفاع الساحلي، والعمليات المشتركة ضد الإرهاب البحري، أثارت مخاوف إقليمية من تشكل حزم عسكرية جديدة تشبه التحالف السعودي الباكستاني، خاصة مع مشاركة باكستان في توريد معدات دفاعية لمصر. في يوليو (تموز) 2025، أعلنت تركيا الموافقة على مشاركة مصر في برنامج تطوير مقاتلة (TAI Kaan)، مما يفتح الباب لتعاون ثلاثي يجمع بين الخبرة التركية في الطائرات بدون طيار، والباكستانية في الصواريخ، والمصرية في الإنتاج المحلي. هذا التحالف الناشئ يعيد رسم خريطة القوى في جنوب آسيا والشرق الأوسط، حيث يُرى على أنه عامل ردع ضد الطموحات الإيرانية في الخليج، ودعم للاستقرار في ليبيا وسوريا.
ومع ذلك، يحمل هذا التقارب تحديات، إذ قد يؤدي التنافس على الأسواق الدفاعية إلى توترات داخلية، خاصة مع هيمنة باكستان على صادرات الطائرات بدون طيار إلى مصر، مما يضغط على الصناعة التركية. جيوسياسيًّا، يعزز هذا التحالف دور منظمة التعاون الإسلامي بوصفها منصة للتنسيق، حيث اقترحت إسلام آباد في سبتمبر (أيلول) 2025 تشكيل لجنة مشتركة مصرية باكستانية تركية لمكافحة الإرهاب عبر الحدود، مما يوسع النطاق إلى أذربيجان بوصفها حليفًا تركيًّا، ويخلق شبكة إقليمية تغطي من البحر الأسود إلى بحر العرب.
لا يُعد التعاون العسكري المصري الباكستاني مجرد علاقة ثنائية؛ وإنما عنصر أساسي في بناء تحالفات إقليمية أوسع تهدف إلى تعزيز الاستقرار في العالم الإسلامي والشرق الأوسط. في السنوات الأخيرة، خاصة مع تصاعد الزيارات الرسمية في 2025، أصبحت هذه الشراكة نواة لتحالفات متعددة الأطراف، مستندة إلى التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب (IMCTC)، الذي يضم 43 دولة إسلامية، وتقوده السعودية، مع مشاركة نشطة من مصر وباكستان. أنشئ هذا التحالف عام 2015 كرد فعل على صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وشهد في 2025 تفعيلًا متجددًا من خلال مذكرات تفاهم مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في فبراير، مما سمح بتبادل المعلومات الاستخباراتية، وإجراء تدريبات مشتركة على نطاق إقليمي. في هذا السياق، أسهمت الزيارة الأخيرة للمشير عاصم منير إلى القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) 2025 في تعزيز دور التحالف، حيث ناقش الجانبان دمج القدرات الباكستانية في عمليات (IMCTC) في الشرق الأوسط، خاصة في مواجهة التهديدات في سيناء واليمن. هذا التنسيق يعكس تحولًا إستراتيجيًّا نحو تحالفات مرنة، حيث يُنظر إلى مصر على أنها حلقة وصل بين آسيا الجنوبية والشرق الأوسط، مما يعزز قدرة التحالف على الرد السريع على النزاعات المتعددة.
في الوقت نفسه، تندمج هذه الشراكات في إطار أوسع من التعاون مع الدول الخليجية، خاصة السعودية والإمارات، حيث يُعد التعاون المصري الباكستاني امتدادًا للتحالف السعودي الباكستاني التاريخي. في يوليو (تموز) 2025، أدت مناقشات بين القاهرة وإسلام آباد إلى اتفاقيات لتعزيز الاتصال الاقتصادي والدفاعي، بما في ذلك مشروعات مشتركة في الإنتاج العسكري المدني، مما يدعم رؤية الاستقرار الإقليمي التي تسعى إليها الرياض. هذا الاندماج يعكس إستراتيجية لمواجهة التهديدات المشتركة، مثل انتشار الجماعات المتطرفة عبر الحدود، ويفتح آفاقًا لتمارين متعددة الأطراف تحت مظلة (IMCTC). ومع ذلك، يتطلب هذا التوسع توازنًا دقيقًا لتجنب التصعيد مع اللاعبين الخارجيين، مثل روسيا والصين، اللتين تسعيان إلى نفوذ في المنطقة. في النهاية، تمثل هذه التحالفات الإقليمية تحولًا من الشراكات الثنائية إلى شبكات متكاملة، تعزز القدرة الجماعية على مواجهة التحديات الجيوسياسية، مع الحفاظ على السيادة الوطنية لكل دولة مشاركة، وتُعد الزيارات الباكستانية إلى مصر محفزًا رئيسًا لهذا التطور.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير