إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

السلاح الروسي الجديد.. رسالة للردع أم تجديد لدعوة التفاوض؟


  • 11 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: eurasianet

أثار اعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المؤتمر الصحفي، أمس الجمعة 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، من العاصمة الطاجيكية دوشنبه، في ختام زيارته الرسمية إليها، التي استمرت ثلاثة أيام، قرب ظهور سلاح روسي جديد قوي يمر الآن بمرحلة اختبارات ناجحة، أثار اهتمامًا واسعًا في الأوساط السياسية والعسكرية الدولية.

انتظرتُ حتى أطّلع على ما أستطيع من تعليقات صدرت على هذا الإعلان البوتيني المثير؛ لأتمكن من تشكيل صورة -ولو مبدئية- عما قد يعنيه ذلك، وما الذي يستهدفه بوتين من ورائه، فهو حسب عهدي به لا يطلق الكلمات جزافًا، ناهيك بالإعلان عن سلاح جديد في قلب جو مشحون بالتوتر غير المسبوق مع دول الناتو الأوروبية!

العبارة التي قالها بوتين في هذا الصدد حملت -رغم إيجازها- شحنة كثيفة من الرسائل، وتكشف -حسبما أرى، إذا ربطناها بمجمل التطورات، وسر اختيار مكان إطلاقها- أن موسكو باتت تدرك أنها في حاجة ملحة إلى تطوير أدوات الردع الصلبة إلى أقصى مدى، مع إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة بأنها على الرغم من كونها لا تزال مهتمة بالحفاظ على قنوات التواصل مع واشنطن في ملفات الحد من التسلح فإنها لن تغفل ضرورة تأمين وجودها بالقوة وفق مبدأ: إذا كنت ترغب في السلام فلا بد أن تستعد للحرب.

وإذا انتقلنا إلى الحديث عن هذا السلاح نفسه، فيبدو من خلال السياق أن بوتين يتحدث عن منظومة سبق أن أُعلنت خطوطها التقنية في سنوات سابقة، لكنها بلغت الآن مرحلة النضج الصناعي والعسكري التي تتيح إدخالها إلى الخدمة. وبهذا المعنى فإن التصريح لا يعلن اكتشافًا جديدًا بقدر ما يؤكد انتقال بعض المشروعات الدفاعية الروسية من طور الاختبار إلى طور الجاهزية التشغيلية.

لكن اللافت في حديث الرئيس الروسي هو تأكيده أن “حداثة وسائل الردع النووي الروسي أعلى من أي دولة نووية أخرى في العالم”، والاقتباس هنا بالنص من تصريحات بوتين في المؤتمر الصحفي الختامي من دوشنبه الذي أشرت إليه أعلاه. وأرى أن هذه الجملة مقصودة بعناية شديدة من جانب بوتين ليوجه بها رسائل إلى ترمب وواشنطن ولندن، بل إلى بكين على حد سواء، بأن موسكو ما زالت تتفوق من حيث درجة التجديد في منظوماتها الإستراتيجية النووية على وجه الخصوص.

من واقع ما قرأته من تحليلات الخبراء العسكريين حتى كتابة هذه السطور، فإن التحليل التقني لهذه الإشارة يضعنا أمام احتمالين رئيسين؛ الأول أن الأمر يتعلق بتطوير إضافي لمنظومات فرط صوتية هجومية من طراز صواريخ “كنجال”، أو “أفانغارد”، أو “سارمات” بقدرات محسنة، والثاني أن الحديث يدور عن إدخال منظومة جديدة كليًّا تجمع بين عناصر السرعة الفائقة والقدرة على المناورة في المراحل النهائية من المسار.

بالطبع غياب التفاصيل المتعمد من جانب موسكو والكرملين وبوتين لا يمكن أن نقدره على أنه نقص في الشفافية؛ بل هو بلا شك جزء من إستراتيجية الردع القائمة على الغموض، وكلٌّ يلعب بما لديه من أوراق على أعصاب الخصم، فالخصم الأول والأكبر، وهو الأمريكي، يصبح في هذه الحالة مضطرًا إلى إعادة تقييم حساباته على ضوء احتمال دخول متغير تقني عسكري جديد دون معرفة دقيقة بقدراته، مع علم واعٍ بأن بوتين لا يهذي أبدًا في مثل هذه الأمور.

نقطة أخرى مهمة جديرة بلفت الانتباه إليها في سياق هذا الإعلان، وهي أن إشارة بوتين المقتضبة إلى هذا السلاح الجديد جاءت متزامنة مع حديثه عن احتمال استئناف التجارب النووية “إذا أقدمت دول أخرى على ذلك”، والاقتباس مجددًا من كلام الرئيس الروسي. وفي هذا تلميح واضح إلى استعداد موسكو للرد بالمثل إذا تجاوزت واشنطن أو بكين حتى الخط الفاصل بين الردع النظري والتجريبي.

وبهذا المعنى يبدو أن هذا السلاح الجديد يرتبط مباشرة بما يمكن وصفه ببيئة “ما بعد المعاهدات”، التي بدأت تتشكل منذ انهيار منظومة القيود الثنائية القديمة بعد خروج الولايات المتحدة الأحادي من عدد من المعاهدات التي كانت تنظم هذه المسائل، وأخذًا في الحسبان ما يدور الآن بشأن معاهدة ستارت الجديدة.

أما رد بوتين على سؤال عن الأنباء المتكررة بشأن نية الولايات المتحدة -إما على نحو مباشر، أو بواسطة إحدى دول الغرب- تزويد أوكرانيا بصواريخ “توماهوك”، فجاء هادئًا ومباشرًا: “سنقوي منظومة الدفاع الجوي الروسية”. وهي عبارة تلخص -في رأيي- فلسفة موسكو العسكرية الراهنة، القائمة على عدم الانجرار إلى سباق تسلح إضافي يكلفها الكثير، والتركيز بدلًا من ذلك على سد الفجوات في مظلة الدفاع الجوي المتعددة الطبقات وإغلاقها.

وهناك إدراك روسي إن إي إدخال لصواريخ بعيدة المدى إلى ساحة الصراع الأوكراني قد يفتح الباب فعليًّا أمام مواجهة مفتوحة مع الحلف، حاولت روسيا وحاول الحلف تجنبها على مدى أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة من عمر الحرب؛ ولذلك تفضل موسكو استباق الخطر بتحصين جبهتها الداخلية تقنيًّا، لا إعلاميًّا.

وفيما يتعلق بالعلاقات مع واشنطن، حرص بوتين في تصريحاته خلال المؤتمر الصحفي على تأكيد أن التواصل قائم “من خلال الخارجية الروسية والأمريكية”، وأن قرار التمديد أو الإنهاء للقيود النووية لن يكون “حرجًا” لروسيا، فهي تمضي في برامج التحديث وفق الجدول الزمني والتقني المخطط، وهي صيغة لغوية تعكس قصد بوتين الربط بين الحزم والاستعداد للحوار، أي إن موسكو تلوح بقدرتها على الاستمرار دون اتفاق، لكنها مع ذلك لا تغلق الباب أمام مفاوضات جديدة إذا توافرت “النية الصادقة” لدى الطرف الأخر، أي الجانب الأمريكي.

ومن الجوانب اللافتة في تصريحات دوشنبه كذلك، حديث بوتين عن “تفاهمات ألاسكا”، أو ما بات يسميه الروس “إطار أنكوريدج” الذي يحفظ الحد الأدنى من التفاهم بشأن مسارات التسوية في أوكرانيا، فهذا التعبير الغامض يبدو أنه جاء ردًّا على تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف منذ يومين، الذي قال خلاله إن هذه التفاهمات استنفدت، فجاء تصريح بوتين ليوحي بوجود واستمرار اتصالات غير معلنة بين موسكو وواشنطن تتناول مستقبل النزاع الأوكراني، ضمن معادلة أوسع تشمل الردع النووي، والضبط السياسي في آن واحد.

ولا يفوتني هنا التعريج على قرار بوتين تأجيل القمة الروسية- العربية الأولى التي كانت مقررة يوم 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، حيث كان بوتين حريصًا أيضًا على التعليق علنًا على هذا القرار بعدما أثار علامات استفهام، خصوصًا أنه اتخذ قبل عقدها بأيام قليلة. التبرير الذي قدمه بوتين، وهو الرغبة في “عدم التدخل في عملية السلام الجارية الآن في الشرق الأوسط”، يكشف -من وجهة نظري- عن رغبة روسية في إعادة صياغة حضورها الإقليمي على نحو أكثر هدوءًا، وربما انتظار نتائج المسار الجديد للتسوية العربية الإسرائيلية قبل تثبيت موقف نهائي لشكل إعادة الصياغة هذه. كما تزامن ذلك أيضًا مع نجاح بوتين في علاج مشكلة إقليمية أخرى؛ فقد أكد أن الخلاف العابر مع أذربيجان لم يكن “أزمة علاقات بين دولتين”؛ بل “أزمة عواطف” تم تجاوزها.

وهذه الصياغة تعكس -في رأيي- ذكاءً بوتينيًّا، وإدراكًا روسيًّا لضرورة تجنب فتح جبهات خلافات دبلوماسية جانبية في مرحلة تتطلب تركيزًا عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا عالي الكثافة.

في الجوهر تحمل تصريحات بوتين وإعلانه المثير من دوشنبه -كعادة الرئيس الروسي- رسالة مزدوجة إلى الداخل الروسي والخارج؛ داخليًّا هو تأكيد للرأي العام بأن برنامج التحديث العسكري مستمر، وأن الردع الوطني في أفضل حالاته، رغم ضغوط الحرب والعقوبات. وخارجيًّا هو تذكير للولايات المتحدة بأن زمن احتكار المبادرة الإستراتيجية انتهى، وأن موسكو تحتفظ بقدرة على إنتاج مفاجآت تقنية قادرة على قلب موازين الردع في لحظة واحدة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع