يصعب تصنيف الدولة الروسية ضمن قوالب علم السياسة التقليدية؛ فهي لا تنتمي إلى الديمقراطيات الليبرالية، ولا تستوفي معايير الدولة الشمولية، ولا تنسجم مع النموذج السلطوي الكلاسيكي، كما أنها لا تُقاس بمقاييس التحول الديمقراطي.
باختصار، روسيا حالة قائمة بذاتها، تُدار فيها منظومة الحكم من خلال شبكة من العلاقات غير الرسمية، تُعيد ترتيب بنية السلطة من خلال التعيين، والتحكم، والامتيازات المتبادلة بين مكونات نخب السلطة. لا يمكن اختزال هذه الشبكة في مفاهيم عابرة، كالفساد أو السلطوية، فهي تمثّل نمطًا خاصًّا من الحوكمة، يحدّد -بفاعلية- طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين النص القانوني وأدوات السيطرة، بين مصادر الشرعية وآليات الحفاظ عليها.
ينطلق هذا المقال من فرضية مفادها أن الدولة الروسية تُجسّد منظومة حكم استثنائية لها نموذجها الخاص من الاستقرار، القائم لا على ترسيخ المؤسسات؛ بل تحييدها، وغير المستند إلى المشاركة؛ بل إلى الامتثال. ضمن هذا النموذج، تُعاد صياغة السياسة كحيّز مغلق، تُمارس فيه السلطة لا بوصفها تجسيدًا للحق والعدالة؛ بل كعلاقة قسرية يحكمها منطق النفوذ والتبعية.
تشكل الحالة الروسية تحديًا نظريًّا متجددًا في مجال النظم السياسية المقارنة، فهي تُفلت من القوالب التفسيرية الجاهزة، وتُربك الثنائيات التي تفترض خطًّا مستقيمًا بين السلطوية والديمقراطية. هذا الالتباس دفع عددًا من الباحثين إلى تطوير أدوات تحليلية تستند إلى ديناميكيات النظام الداخلية، بدلًا من مقارنته بمعايير خارجية. وفي هذا السياق، يقدّم “ريتشارد ساكوا” مفهومه المؤثر عن “الدولة المزدوجة”، بوصفه إطارًا تفسيريًّا يعكس التوتر البنيوي القائم بين الشكل القانوني للسلطة وبنيتها الفعلية.
الدولة المزدوجة تعني أن روسيا لا تحكم بواسطة بنية مؤسسية واحدة؛ بل من خلال مستويين متداخلين ومتناقضين في الوقت نفسه؛ الأول هو الدولة القانونية البيروقراطية المستندة إلى الدستور، والتشريعات، والمؤسسات الرسمية، والثاني هو الدولة الفعلية، التي تُمارَس من خلال القنوات غير الرسمية، والعلاقات الشخصية، وشبكات النفوذ التي تتجاوز الأطر القانونية وتفسرها تفسيرًا خاصًّا.
ينتج عن هذا التعايش ازدواجية يصفها ساكوا بـ”المرونة التسلطية”، فالقواعد القانونية فاعلة ما دامت تخدم مصالح النظام، وتُعطّل أو تُفرّغ من مضمونها عندما تُشكّل تهديدًا على التوازن الشبكي الحاكم. وهكذا، تتصرف الدولة بوجهين؛ وجه قانوني -رمزي- يُستخدم لتثبيت الشرعية، وآخر فعلي -غير رسمي- تتغلغل شبكاته مغلقة في البيروقراطية والأمن والقضاء.
بحسب إطار “ساكوا”، ليست المشكلة في ضعف تطبيق القانون؛ بل في وجود إرادة ممنهجة لإعادة هندسة القانون نفسه ضمن منطق السيطرة، فالدولة الروسية -كما يكشف هذا الإطار- لا تنحرف عن نموذج مثالي؛ بل تجسّد نمطًا بديلًا للحوكمة يُعيد تعريف العلاقة بين الشرعية والسلطة.
الاكتفاء بتحليل مؤسسات الدولة الشكلية لا يمنحنا فهمًا للبنية السلطوية في روسيا، ويتطلب الأمر التوغّل في الطبقة التحتية التي تنتظم من خلالها مراكز النفوذ الحقيقية.
يُبرز التحليل النظمي الذي طوّره “بالينتيكاس” و”باكنر” في عملهما الضخم “تشريح الأنظمة ما بعد الشيوعية”، روسيا بوصفها نموذجًا مثاليًّا لما يُعرف بـ”الأنظمة الهجينة”، أي تلك الانظمة التي لا تستند إلى جهاز مؤسسي متماسك؛ بل إلى تركيبة هجينة تجمع بين الرسمي وغير الرسمي، وغالبا ما يكون الأخير أكثر فاعلية من البنية الرسمية نفسها. في الأنظمة الهجينة لا تظهر الدولة كوحدة متجانسة، بل كساحة تتقاطع فيها أنماط متعدّدة من السلطة، تتوزع على مراكز قوة مترابطة: الأجهزة الأمنية، والبيروقراطية، ورأس المال المقرّب، والإدارات الإقليمية.
تنعكس هذه التوزيعات في الفجوة البنيوية بين مؤسسات “الدولة الشكلية”، المقيدة بنصوص الدستور والفصل بين السلطات، و”الدولة الفعلية”، التي تُدار من خلال تحالفات شخصية، وحسابات مصالح، وآليات زبائنية تُبقي الامتيازات رهينة للولاء. في هذا النموذج لا تُقصَى المؤسسات من المشهد، بل تُفرغ من وظيفتها التمثيلية والتنظيمية، ويعاد توظيفها كواجهات شرعية لما يُقرَّر فعليًّا في دوائر مغلقة، وهو ما يتجسد مثلًا في دور مجلس الدوما أو مجلس الاتحاد، إذ تُمرر القرارات الحاسمة دون نقاش جدي، وتُستخدم التصويتات بوصفها آلية تعبئة رمزية، لا بوصفها مساحة للصراع أو المراجعة.
الاستثناء الروسي لا يكمن فقط في ازدواج البنية؛ بل في عمق تغلغل الشبكات غير الرسمية في المفاصل الإدارية والسياسية، فغالبًا ما يُتخذ القرار الحاسم خارج قنوات المسؤولية الدستورية، في حين يُترك للمؤسسات الشكلية دور التنفيذ والتسويغ.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الدولة الروسية تُدار من خلال هندسة دقيقة من التواطؤ الشبكي، إذ تُصبح القواعد أداة انتقائية لخدمة الإستراتيجية السلطوية الأعمق، وتُعطّل حين تُهدد تماسك الشبكة.
طرحت الباحثة “ألينا ليدنيفا” مفهوم “السيستيما” لتحليل البنية غير المرئية لصنع القرار في الدولة الروسية.
تُعرّف “ليدنيفا” مفهوم “السيستيما” بأنه نظام تشغيل فعلي يُنظّم العلاقات بين الفاعلين السياسيين والبيروقراطيين الإداريين والاقتصاديين وفق منطق غير رسمي. النظام له طابع شخصي ويتم تبادل المصالح فيه في الظل، وأهم ما يميزه هو قدرته على التكيف المستمر مع الظروف المتغيرة من خلال تجاوز القواعد الرسمية، وتكمن أهميته في أنه ليس ظاهرة هامشية تلتف حول القانون؛ بل هو البنية الأساسية التي يُصاغ من خلالها تعريف القانون نفسه، وتتخذ فيه القرارات الحقيقية.
تتوزع مكونات “السيستيما” على أربع دوائر متشابكة، هي: الدائرة الضيقة المرتبطة بالرئاسة، و”الأصدقاء النافعون” الذين يتمتعون بالثقة والنفوذ، وشبكات تنفيذية وإدارية موزعة قطاعيًّا، ثم الدوائر الاجتماعية الأوسع التي تُدار من خلال منظومة من الحوافز والرقابة.
لا تعمل “السيستيما” بوصفها أداة قمع ناعمة تقتصر على ضبط النخبة أو إدارة النفوذ فحسب؛ بل تؤدي أيضًا وظيفة تكاملية، تقوم على توزيع الموارد، والحافظ على التراتبية الداخلية للنظام السياسي، كآلية للاستمرارية لا للشفافية، غير أن هذه الحيوية التعبوية للنظام تُقابلها هشاشة بنيوية مزمنة.
“السيستيما” تعمل في بيئة تتسم بالضبابية القانونية وغياب الشفافية، وتداخل المجالين العام والخاص؛ ما يمنحها مرونة في التصرّف، وقدرة على إعادة تشكيل ذاتها بحسب الضرورات. وتصف “ليدنيفا” هذه البيئة بأنها “فخ التحديث غير الرسمي”؛ لأن اعتماد النظام على أدوات السيستيما يوفّر له قدرًا من الاستقرار السطحي، ويقوّض أي إمكانية لبناء مؤسسات دائمة أو قواعد عامة يمكن التنبؤ بها ومساءلتها، ويمنع حدوث أي تحديث أو إصلاح حقيقي للنظام السياسي.
تبرز “ليدنيفا” الطابع الإشكالي للسيستيما بقدرتها على امتصاص موجات الإصلاح، وتحويلها إلى أدوات لإعادة إنتاج ذاتها، فكل محاولة لضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع بالقانون تُقابَل بإعادة تشكيل الشبكات القائمة بما يضمن استمرار منطق السيطرة. وهكذا يتحوّل الإصلاح نفسه إلى وسيلة “للتحديث السلطوي” تحت قشرة تحديثية زائفة، لا إلى مسار إعادة هيكلة أو انتقال نحو المؤسسية؛ وبذلك يصبح من الطبيعي أن يتعايش خطاب الإصلاح مع آليات مقاومته.
منذ مطلع الألفية، أعلنت السلطة الروسية مشروعات متعددة لتحديث الإدارة، ومكافحة الفساد، وتعزيز سيادة القانون، وتطوير المؤسسات. هذه المبادرات -رغم زخمها الرسمي- لم تَنتج عنها تحولات هيكلية فعلية؛ بل تحوّلت إلى وسائل لإعادة ترتيب ميزان القوى داخل “السيستيما”، لا لتفكيكها.
بعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022، تفاقم -أكثر من أي وقت مضى- الطابع الانتقائي والوظيفي للإصلاحات. دفعت العقوبات الغربية الكرملين إلى تبنّي سياسات “استبدال الواردات” و”السيادة الرقمية”، التي تطلبت منه إعادة هيكلة جزئية لبعض القطاعات الاقتصادية والإدارية، لكن تلك التعديلات لم تمسّ البنية الشبكية الحاكمة؛ بل خُصّصت لدعم القدرة التعبوية للنظام في مواجهة الضغوط الخارجية. على سبيل المثال، عُدِّلَ قانون العمل المدني الفيدرالي ليسمح بزيادة سلطات بعض الهيئات التنفيذية، تحت ذريعة “الظروف الخاصة للعمل الإداري في زمن الحرب”، دون مراجعة لمبدأ المساءلة أو الكفاءة، كما شُجِّعَت الشركات التكنولوجية الكبرى على إعادة توطين أنشطتها في روسيا، مع منحها امتيازات ضريبية وهيكلية، وبقيت إدارة هذه العمليات بيد نخبة اقتصادية- أمنية مرتبطة مباشرة بدوائر القرار في الكرملين.
الأهم، كان مشهد إعادة توزيع أصول الشركات الأجنبية المنسحبة من روسيا أحد أكثر المظاهر وضوحًا على كيفية استغلال الأزمة لتوسيع شبكات السيطرة، فخروج شركات كبرى، مثل (McDonald’s، IKEA، Renault)، و(BP). فتح الباب أمام موجة من “الاستحواذات المدارة سياسيًّا”، حيث مُرِّرَت ملكية الأصول المنسحبة إلى رجال أعمال موالين للنظام، أو إلى كيانات تابعة للدولة تديرها نخب أمنية واقتصادية مقربة من الكرملين.
أصبح “الإصلاح” جزءًا من إستراتيجية تعبئة داخلية تخدم مشروعًا خارجيًّا، لا مدخلًا لتعديل البنية العميقة للسلطة. إنه إصلاح موجّه أمنيًّا، لا تنمويًّا ولا مؤسسيًّا، والنتيجة أن “السيستيما” لم تتزعزع؛ بل تكيفت مع منطق الحرب، وأعادت ترتيب أولوياتها للحفاظ على استمرارية النظام، واستغلت أزمة العقوبات لإعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية الداخلية لصالح النخب التابعة.
لا تقتصر “السيستيما” على كونها بنية غير رسمية لإدارة الحكم؛ بل تتجاوز ذلك لتشكّل مجتمع ظل سياسي يوازي نظيره الرسمي، بل يحلّ محله في تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع. فحين تغيب القواعد العامة، ويضعف مبدأ المواطنة، تُستبدل بآليات التمثيل والمساءلة قنوات ولاء ووساطة، تُعيد تعريف السياسة بوصفها علاقة زبائنية، لا بوصفها مجالًا للمشاركة. يصف “بالينتيكاس” هذا النمط بـ”الاستيعاب السلطوي”.
تؤسس “السيستيما” لمجتمع الرعية بدلًا من مجتمع المواطنين. إنها تصوغ الفضاء العمومي بوصفه مجالًا خاضعًا، تُدار فيه الموارد والعلاقات السياسية بوصفها استحقاقات مدنية، بل بوصفها امتيازات تُمنح مقابل الامتثال، وتفقد الانتخابات معناها التعددي، وتتحول إلى طقوس تعبئة رمزية، تُستخدم لتأكيد ولاء القاعدة للنظام أكثر مما تتيح لها مساءلته.
الدولة، كما تكشفها مفاهيم مثل “السيستيما”، و”الدولة المزدوجة”، و”الأنظمة الهجينة”، لا تُدار من خلال جهاز مؤسسي متماسك؛ بل من خلال شبكة متعددة المستويات تتداخل فيها البنى الرسمية وغير الرسمية، القانوني منها والمضمر، بما يجعل السلطة موزعة، لكن منضبطة داخل منظومة ولاء محكمة.
هذه البنية ليست عَرَضًا مرحليًّا أو بقايا ما بعد شيوعية؛ بل تمثّل نمطًا متجذرًا من الحكم القائم على التواطؤ، ويُعيد تشكيل المؤسسات لا بوصفها أدوات تمثيل وتنظيم، بل بوصفها قنوات تصديق ومناولة سياسية. النجاح الذي تحققه “السيستيما” في إنتاج الاستقرار لا ينبع من فعالية مؤسسية؛ بل من قدرتها على استيعاب المجتمع ضمن منطق الطاعة، وتكييف الضغوط الاقتصادية أو الجيوسياسية مع بنيتها الشبكية، دون الحاجة إلى تغيير جوهري في طبيعة السلطة.
مع ذلك، فإن هذا النمط من السيطرة يحمل في داخله مواطن ضعف بنيوية، فاحتكار الموارد، وإقصاء الكفاءة، وتآكل الشفافية، كلها عوامل تُقوّض قدرة الدولة على التكيّف مع التحولات المعقدة. وقد كشفت أزمة أوكرانيا والصراع مع الغرب عن حدود هذا النموذج، إذ تمكنت السلطة من تعبئة آلية الدولة بسرعة، لكنها عجزت عن إنتاج استجابة مؤسسية قادرة على تجاوز الأزمة ذاتيًّا وعلى نحو مستقل؛ لأنها مبنية على التحكم لا التمكين، وعلى الولاء لا المبادرة.
تفكيك “السيستيما” لا يمكن أن ينبع من داخلها؛ لأن بنيتها مصمّمة لامتصاص الإصلاح وتكييفه لا لتحقيقه؛ ولذلك فإن تجاوزها يقتضي إعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة القانون بدلًا من الغموض، والمواطنة بدلًا من الرعاية، والمشاركة بدلًا من الامتثال. وبدون هذا التأسيس، ستظل الدولة الروسية قابلة للصمود، لكنها ستبقى عاجزة عن التحوّل البنيوي المنتج.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.