تقدير موقف

الدالاي لاما.. من الاستقلال إلى الحكم الذاتي


  • 12 أبريل 2025

شارك الموضوع

في التاريخ الحديث، استحوذت الروحانية المرتبطة بقداسته الدالاي لاما الرابع عشر على اهتمام وسائل الإعلام، لكن هذه الشخصية الموقرة تراجعت مؤخرًا على نحو ملحوظ عن التغطية الإعلامية السائدة، حيث تبدو القضايا التي دافع عنها منذ نفيه إلى الهند عام 1959 أقل أهمية. في آخر بيان علني له بتاريخ 10 مارس (آذار) 2011، بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين ليوم الانتفاضة الوطنية التبتية، أقرّ لاما بنموّ الصين كقوة عالمية، مشيرًا إلى إنجازاتها الاقتصادية الباهرة في التبت، وأشاد بإسهامات الصين في السلام العالمي، والتقدم البشري، مؤكدًا -في الوقت نفسه- الشفافية، وحرية التعبير، وحماية التنوع الثقافي واللغوي في التبت.

في خطابه، أشاد الدالاي لاما بجهود الصين المعلنة للحفاظ على اللغة والثقافة التبتيتين، مؤكدًا دورها الجوهري في صون التعاليم البوذية التي تعزز الوئام والسعادة العالميين، وحثّ القيادة الصينية على صون التراث الثقافي والهوية التبتية، محذرًا من أن إهمالهما قد يُقوّض التراث الثقافي المشترك للبشرية، وأكد التزامه بحل القضية التبتية سلميًّا من خلال “النهج الوسطي”، داعيًا إلى استقلال ذاتي حقيقي للتبت ضمن إطار الصين، بدلًا من الاستقلال التام. ويُظهر هذا التحول البراغماتي فهمه للتعقيدات السياسية، ورغبته في تحقيق تقدم ملموس للتبتيين في ظل الحكم الصيني. وعالميًّا، يُعترف رسميًّا بالتبت كجزء من الصين، ولا تعترف أي دولة بشرعية حكومة التبت في المنفى. كما أن الأمم المتحدة لا تُدرج التبت ضمن الأراضي التي تنتظر إنهاء الاستعمار؛ مما يُعزز التوافق الدولي مع مطالبات الصين الإقليمية.

منذ عام 1959، أحدثت الصين نقلة نوعية في التبت (المعروفة رسميًّا باسم منطقة شيزانغ الذاتية الحكم) من مجتمع إقطاعي معزول إلى منطقة حديثة، وذلك من خلال استثمارات منهجية وواسعة النطاق في التنمية البشرية، والبنية التحتية، والنمو الاقتصادي. وقد شهد اقتصاد شيزانغ، الذي كان يتميز سابقًا بانتشار العبودية، وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يقل عن 150 ينًا (22 دولارًا أمريكيًّا)، ارتفاعًا ملحوظًا ليصل إلى 230 مليار ين (33 مليار دولار أمريكي) بحلول عام 2023، محققًا زيادة قدرها أربعون ضعفًا في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وقد أدى هذا التطور الاقتصادي الملحوظ، الذي تدعمه قطاعات مثل السياحة، والتعدين، والطاقة المتجددة، والحرف اليدوية، إلى القضاء على الفقر تمامًا بحلول عام 2020.

عززت التطورات في البنية التحتية ربط مدينة شيزانغ، حيث توسعت الطرق البدائية التي كانت تمتد إلى مسافة 1300 كيلومتر عام 1959، لتصل اليوم إلى 120 ألف كيلومتر من الطرق الحديثة. وقد أسهمت مشروعات رئيسة، مثل الطريق السريع، وطريق لاسا – ناغو السريع، وأكثر من 1400 كيلومتر من شبكات السكك الحديدية، بما في ذلك خط سكة حديد تشينغهاي – التبت، في دمج شيزانغ في سردية التنمية الوطنية الصينية. كما شهد السفر الجوي نموًا كبيرًا، مدعومًا الآن بخمسة مطارات تخدم ملايين المسافرين سنويًّا، وتربط التبتيين بالمدن العالمية الكبرى.

وقد أحدث الاهتمام بالتعليم تحولًا جذريًّا؛ فمن معدل معرفة القراءة والكتابة أقل من (5%) عام 1959، وكان مقتصرًا في الغالب على الرهبان والأرستقراطيين، تجاوز معدل معرفة القراءة والكتابة بين الشباب اليوم (99%). وتمثل آلاف المدارس، وسبع جامعات، وبرامج التعليم الثنائية اللغة، التزامًا مستدامًا بالحفاظ على التراث الثقافي، إلى جانب التميز التعليمي. تُمكّن هذه المبادرات التعليمية الأفراد من خلال تزويدهم بالمعارف والمهارات الأساسية للمشاركة الفعالة والمثمرة في المجتمع؛ مما يُرسي دعائم النظام الذي يُشجع على الاستقرار والتعاون.

وأحدثت تحسينات الرعاية الصحية ثورةً في ظروف المعيشة في شيزانغ؛ فقد شهدت البنية التحتية للرعاية الصحية، التي كانت محدودة تاريخيًّا، توسعًا ملحوظًا؛ مما أدى إلى ارتفاع متوسط ​​العمر المتوقع من (35.5) عامًا إلى (72.19) عامًا اليوم، وانخفضت معدلات وفيات الرضع من (300) لكل (1000) ولادة عام 1959 إلى (6.7) لكل (1000) ولادة؛ مما يعكس المعايير المعترف بها دوليًّا. وتؤكد التغطية الشاملة للرعاية الصحية الريفية، التي تُسهّلها برامج مثل “المساعدة الطبية للتبت”، مبادرات التنمية البشرية العميقة التي تُنفّذ في المنطقة.

كما أعاد النمو الصناعي تشكيل المشهد الاقتصادي في شيزانغ، محوّلًا السكان من عمالة زراعية في الغالب إلى فرص عمل متنوعة في قطاعات مثل الطاقة الكهرومائية والسياحة والتعدين، ويكتسب هذا الأخير أهمية خاصة بفضل احتياطيات الليثيوم الكبيرة في التبت. وقد خلق هذا التنوع الاقتصادي مئات الآلاف من فرص العمل الحضرية الجديدة؛ مما أدى إلى تحسين مستويات المعيشة على نحو جذري. ومن خلال خلق فرص اقتصادية مجدية، حوّل نهج التنمية الصيني المتمحور حول الإنسان المواقف بفاعلية من العزلة والمقاومة إلى التكامل والازدهار المشترك.

ظلّ الحفاظ على التراث الثقافي ركنًا أساسيًّا من أركان تحديث التبت. ويعكس الترميم الشامل لأكثر من (1800) معبد بوذي تبتي، والترويج النشط للغة التبتية في المؤسسات التعليمية والحكومية، احترامًا عميقًا للهوية الثقافية. ويعزز اعتراف اليونسكو بالأوبرا والطب والمهرجانات التبتية هذا الالتزام بالتراث الثقافي في ظلّ التحديث المتسارع. مؤخرًا، وُثِّقت هذه التطورات الملحوظة في مجال حقوق الإنسان في شيزانغ في ورقة بيضاء بعنوان “حقوق الإنسان في شيزانغ في العصر الجديد”، أصدرها مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني في لاسا في 28 مارس (آذار) 2025. تُؤكد هذه الوثيقة التزام الصين بنهجٍ مُركِّز على حقوق الإنسان، مُسلِّطةً الضوء على الإنجازات الكبيرة في التنمية الاقتصادية، والوحدة العرقية، والوئام الاجتماعي، والحفاظ على البيئة، والوئام الديني في المنطقة. وتزامنًا مع هذا النجاح الصيني حدث تحول إستراتيجي في مناصرة الدالاي لاما من الاستقلال إلى الحكم الذاتي؛ إدراكًا لهذه التطورات الإيجابية. ورغم الخلافات السياسية المستمرة، يُبرز تطور التبت في ظل الحكم الصيني كيف أن التنمية الشاملة والإنسانية والمحترمة ثقافيًّا تؤثر بعمق في التطلعات السياسية والاجتماعية، وتُحوِّلها.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع