يقول المثل الأمريكي الشهير “إذا خدعتني أول مرة فهذا عيب عليك، وإذا خدعتني للمرة الثانية فأيضًا هذا عيب عليك، لكن إذا خدعتني للمرة الثالثة، فهذا عيب عليَّ أنا؛ لأنني سمحت لك أن تخدعني أكثر من مرة، ولم أتعلم من خداعك لي أولًا وثانيًا”. هذا هو لسان حال الكرملين عندما قرر الانسحاب نهائيًّا من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، وبهذا خرجت روسيا من جميع المعاهدات والاتفاقيات التي تحد وتراقب إنتاج الأسلحة ونشر في أوروبا؛ لأن حلف دول شمال الأطلسي (الناتو)، بقيادة الولايات المتحدة، لم يترك لروسيا أي مساحة للبقاء في اتفاقيات الحد من التسلح، سواء تلك التي تتعلق بالأسلحة التقليدية، أو حتى الأسلحة النووية، فمنذ توقيع معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا بين “حلف وارسو” بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، وحلف “الناتو” بقيادة الولايات المتحدة في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 لم يلتزم (الناتو) بأي قيد أو شرط جاء في هذه الاتفاقية أو غيرها، بل تؤكد كل القرارات والمواقف الذي اتخذها البيت الأبيض أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تنظر إلى هذه الاتفاقيات فقط من زاوية أنها “ثغرة” لمزيد من الاقتراب الإستراتيجي والعسكري شرقًا نحو حدود الاتحاد السوفيتي ثم روسيا الاتحادية، ليس فقط بالتنصل وعدم الالتزام بهذه الاتفاقيات؛ بل بضم دول “حلف وارسو” نفسه إلى “الناتو”، ولعل العداء الحالي من بولندا التي كانت مقرًّا لحلف وارسو تجاه روسيا خير مثال على السعي الأمريكي الدائم إلى تحويل البيئة السياسية والأمنية حول روسيا الاتحادية إلى بيئة معادية؛ تمهيدًا لتحويل هذه البيئة المعادية إلى سلوك وعدوان ضد كل ما هو روسي، كما جرى في تجييش بعض الجورجيين ضد روسيا في عام 2008، وتوجيه بوصلة الأحداث في أوكرانيا ضد روسيا منذ عام 2014. فما معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا التي انسحبت منها روسيا والولايات المتحدة؟ وكيف خرجت واشنطن من اتفاقيات منع إنتاج ونشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة التي تحمل رؤوسًا نووية في أغسطس (آب) عام 2019؟ وماذا عن تقويض الولايات المتحدة لاتفاقية “السموات المفتوحة”؟ وكيف أدى التعنت الأمريكي دورًا في عدم تجديد اتفاقية “نيو ستارت” التي تنتهي فعاليتها عام 2026؟
قامت معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية على مسارين أساسين: الأول هو تحقيق “التوازن” في عدد الجنود وحجم العتاد بين حلف وارسو وحلف الناتو، والثاني هو عدم وقوع “حرب خاطفة أو سريعة” من طرف ضد الطرف الآخر، وكان يفترض أن تتحقق هذه الأهداف بأن يكون الحد الأقصى الذي يمكن لكل طرف حشده لا يجب أن يتجاوز 20 ألف دبابة، بينها 16 ألفًا و500 دبابة فقط في وحدات قتالية، ولا يزيد عدد المدرعات على 30 ألف مدرعة، وألا يزيد حجم المدرعات في الوحدات القتالية على 27 ألفًا و300 مدرعة، كما تعهد الطرفان بـألا يزيد الحد الأقصى للمدفعية على 20 ألف مدفع في كل جهة، ولا يتجاوز عدد المدافع في جبهات القتال 17 ألف مدفع. واتفق حلفا وارسو والناتو على ألا يتجاوز عدد الطائرات المقاتلة 6800 طائرة، وألا يتجاوز أي طرف سقف عدد المروحيات القتالية البالغ 2000 مروحية هجومية. وكانت هذه الاتفاقية تغطي مساحة شاسعة من جبال الأورال شرقًا حتى المحيط الأطلنطي غربًا، كما أنها ألزمت الطرفين بالتخلص من أي أسلحة أو عتاد يزيد على هذه الكميات المنصوص عليها في الاتفاقية، وقدم الجانب الروسي طلبًا لتعديل المعاهدة في الاجتماع الذي دعت إليه موسكو للدول الموقعة على المعاهدة في فيينا في يوليو (تموز) عام 2007، لكن لم يُستَجَب لها، وهو ما دفع موسكو إلى تعليق مشاركتها في المعاهدة عام 2007، وأوقفت مشاركتها الفعالة فيها عام 2015.
تاريخ اتفاقية الأسلحة التقليدية التي دخلت حيز النفاذ في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1992 يقول إن روسيا استنفذت “مساحات الصبر الإستراتيجي” مع الولايات المتحدة وحلف الناتو الذي ضم منذ بدء العمل بهذه الاتفاقية 15 دولة حتى بات على حدود روسيا الاتحادية مباشرة بعد ضم كل من التشيك والمجر وبولندا في 12 مارس (آذار) 1999، وضم ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا في 29 مارس (آذار) 2004، كما ضم كرواتيا وألبانيا في الأول من أبريل (نيسان) 2009، ولم يتوقف عند هذا الحد؛ بل أدخل الجبل الأسود في 5 يونيو (حزيران) 2017، ومقدونيا في 28 مارس (آذار) 2020، وفي 25 أبريل (نيسان) من العام الجاري قبل عضوية فنلندا التي لها نحو 1350 كم مع الحدود الروسية، وباتت السويد قاب قوسين أو أدنى من عضوية الناتو، وهو ما يعني أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمسك بكل فرصة حتى لا تنسحب روسيا من هذه الاتفاقية، لكن حلف الناتو لم يترك للكرملين خيارًا بعد أن ضم 13 دولة إلى عضوية الحلف منذ تولي الرئيس بوتين الحكم؛ ولهذا قالت روسيا إن الدفع الأمريكي باتجاه توسيع حلف الناتو أدى إلى قيام دول الحلف “بالتحايل علانية” على القيود التي تفرضها المعاهدة على الناتو، وإن قبول عضوية فنلندا في حلف شمال الأطلسي، وطلب السويد الانضمام إلى الحلف يعني أن المعاهدة ماتت.
تؤكد كل صفحات التاريخ القريب والبعيد أن الولايات المتحدة لم تلتزم يومًا بأي اتفاقية أو معاهدة انضمت إليها، فهي وافقت على خطة العمل المشتركة “5 +1” مع إيران في يوليو (تموز) 2015، وعندما لم تجد فيها مصالحها انسحبت منها في مايو (أيار) 2018، وهو النهج نفسه الذي سارت عليه مع روسيا؛ حيث انسحبت واشنطن من كل الاتفاقيات الإستراتيجية التي تهدف إلى منع هلاك البشرية، سواء بالأسلحة التقليدية أو النووية. والمعاهدات والاتفاقيات الإستراتيجية التي انسحبت منها الولايات المتحدة هي:
انسحبت الولايات المتحدة من “اتفاقية السموات المفتوحة” في 28 مايو (أيار)2021، وانسحبت روسيا من هذه الاتفاقية ردًّا على الانسحاب الأمريكي من جانب واحد، وهي الاتفاقية التي كانت تحد من التسلح، من خلال السماح بتسيير رحلات جوية غير مسلحة فوق الدول الموقعة على الاتفاق، وأُقرَّت عام 1992 من جانب 27 دولة في العاصمة الفنلندية هلسنكي، وبدأ العمل بها في أول يناير (كانون الثاني) 2002، ووصل عدد أعضائها قبل انسحاب واشنطن منها إلى 32 دولة، وتسمح للدول الأعضاء باستخدام طائرات استطلاع مزودة بأجهزة رؤية تمكنها من رصد جميع أنواع الأسلحة الموجودة على الأرض في أثناء تنفيذ مهمتها، وكانت الاتفاقية تهدف إلى تعزيز التفاهم المتبادل والثقة عن طريق إعطاء جميع الأعضاء في الاتفاقية دورًا مباشرًا في جمع المعلومات عن القوات العسكرية، والأنشطة التي تهمها.
تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 فبراير (شباط) الماضي عن تعليق العمل بالاتفاقية الوحيدة التي تقيد التوسع في إنتاج الأسلحة النووية الإستراتيجية ونشرها في العالم، وأعلنت موسكو في 2 مارس (آذار) من العام الحالي تعليق مشاركتها في اتفاقية “نيو ستارت” التي وُقِّعَت في براغ التشيكية لأول مرة في 8 أبريل (نيسان) عام 2010 لمدة 10 سنوات من جانب الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيدف، والرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وجُدِّدَت 5 سنوات فقط بعد تولي الرئيس جو بايدن الحكم عام 2021، وتنص على تخفيض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الإستراتيجية للبلدين بنسبة 30%، والحدود القصوى لآليات الإطلاق الإستراتيجية بنسبة 50%. وعلقت موسكو عضويتها في هذه الاتفاقية؛ لأن واشنطن تستخدمها لمساعدة أوكرانيا على مهاجمة المواقع الإستراتيجية الروسية، خاصة بعد أن تحدث البيت الأبيض أكثر من مرة أنه يريد إلحاق “هزيمة إستراتيجية” بروسيا في أوكرانيا، وهو ما يعني- من وجهة نظر القيادة الروسية- أن تعليق مشاركة روسيا في معاهدة “نيو ستارت” للحد من انتشار الأسلحة النووية مع واشنطن، أتاح لموسكو فرصًا جديدة لضمان أمنها، وعرقل عمل الاستخبارات الأمريكية في مساعدة القوات الأوكرانية، فالتقديرات الروسية كانت تقول إنه من الحماقة مشاركة المعلومات المتعلقة بالقدرات النووية الروسية مع دول تسعى إلى هزيمة روسيا، ويمكن أن تنقل هذه المعلومات إلى أوكرانيا، لكن حرصًا منها على السلام العالمي، وعدم اندلاع مواجهات نووية، قالت موسكو إنها سوف تواصل “الالتزام بالقيود المفروضة” على عدد الرؤوس الحربية النووية التي كانت معاهدة “نيو ستارت” تحددها، رغم تعليق مشاركتها. وسبق لواشنطن أن قررت حجب “البيانات النووية” عن روسيا. وعمليًّا، سوف يؤدى تعليق العمل بهده الاتفاقية إلى تفكك تدريجي لإطار عمل الحد من التسلح الذي نظم المنافسة النووية بين البلدين خلال العقود الماضي، خاصة أن موسكو وواشنطن تملكان ما يقرب من 90% من الرؤوس النووية في العالم.
وهي الاتفاقية التي كانت تمنع الدول الأعضاء من إجراء أي تجارب نووية جديدة، ونجحت في إلزام الدول التي لديها بالفعل رؤوس نووية، أو تلك التي لديها قدرات نووية لكنها قررت عدم إنتاج سلاح نووي، بعدم إجراء أي تجربة نووية جديدة منذ أن وقعت روسيا على هذه المعاهدة في نيويورك في 24 سبتمبر (أيلول) 1996، وصدقت عليها في 27 مايو (أيار) 2000. وكان من المفترض أن تصبح الوثيقة هي الصك القانوني الدولي الرئيس لوقف جميع أنواع التجارب النووية، لكن المعاهدة لم تدخل حتى الآن حيز التنفيذ، حيث لم تصدق عليها 8 دول من أصل 44 دولة تمتلك أسلحة نووية، أو لديها القدرة على صنعها، ورفض الكونغرس الأمريكي التصديق على هذه المعاهدة منذ ما يقرب من 3 عقود، حيث وقعت 187 دولة على المعاهدة، وصدّقت عليها 178 دولة في برلماناتها. ومن الدول التسع التي تمتلك أسلحة نووية وقعت وصدقت: بريطانيا، وفرنسا، وروسيا على المعاهدة. كما وقعت الولايات المتحدة، وإسرائيل، والصين على المعاهدة دون التصديق عليها، فيما لم توقع الهند، وباكستان، وكوريا الشمالية أو تصدق على المعاهدة التي تتشكل من نظام رصد دولي، وهو شبكة من مرافق الرصد المختلفة في أنحاء العالم، إذ تستطيع هذه المرافق رصد أصوات التفجيرات النووية، أو الأنشطة الزلزالية المصاحبة لها، أو حتى آثارها الإشعاعية، وبُنيت بالفعل 321 محطة رصد، و16 مختبرًا في 89 دولة، وتم تشغيل نحو 90% من هذه المرافق بالفعل، وترسل البيانات من محطات نظام الرصد الدولي، عن طريق شبكة متتالية عالمية مغلقة تعرف بمرفق الاتصالات العالمي، إلى مركز دولي بقصد تجهيزها وتحليلها، كما تتاح للدول بيانات نظام الرصد الدولي، ونتائج تحليل مركز البيانات، والهدف من ذلك كله هو تقليص الأسلحة النووية، والتخلص منها في نهاية المطاف، بالإضافة إلى حظر التجارب بتقييد تطوير الأسلحة النووية، وإدخال تحسينات نوعية عليها، ووقف تطوير أنواع جديدة متقدمة من الأسلحة النووية، وهو ما شكّل طوال السنوات الماضية إطارًا قويًّا لنزع السلاح النووي، وعدم انتشاره.
وهي من أقدم الاتفاقيات التي وقعها الاتحاد السوفيتي السابق، والولايات المتحدة الأمريكية، حيث وقعها الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، والرئيس الأمريكي رونالد ريغان في 8 ديسمبر (كانون الأول) عام 1987، وخرجت منها الولايات المتحدة في 2 فبراير (شباط) 2019، وهو من دفع روسيا إلى الانسحاب منها بعد 6 أشهر في أغسطس (آب) من العام نفسه، وكان الهدف منها هو منع إنتاج الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي تحمل رؤوسا نووية ونشرها في أوروبا، وخرجت منها الولايات المتحدة بحجة أنها تريد أن تحولها من اتفاقية ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة إلى اتفاقية “متعددة الأطراف” لضم الصين وباقي الدول النووية داخل اتفاقية منع الانتشار النووي وخارجها، لكن الهدف الرئيس هو أن واشنطن كانت تريد التحلل من كل القيود لنشر تلك الصواريخ بالقرب من الصين وروسيا، خاصة في شرق أوروبا، ومنطقة الإندوباسيفك.
مع أن خطر وقوع حرب عالمية تقليدية أو نووية ليس وشيكًا فإن دفع الولايات المتحدة نحو بيئة من عدم الثقة في مجال التسليح العالمي، من خلال الانسحاب من الاتفاقيات التي تحد من التسلح، سوف يدفع العالم أكثر نحو “حافة الهاوية”، أو الوقوع في “الحسابات الخاطئة”.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.