أبحاث ودراساتمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة

مآلات توظيف هجوم سيدني في الصراع الإيراني الإسرائيلي

الحرب السردية ومعاداة السامية


  • 21 ديسمبر 2025

شارك الموضوع

لم تعد العمليات الإرهابية في السياق الدولي المعاصر تُفهم بوصفها أفعالًا عنيفة منعزلة أو انعكاسات مباشرة لاختلالات أمنية داخلية فحسب؛ بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من بنية الصراعات غير المباشرة التي تتجاوز حدود الجغرافيا التقليدية للدول، ففي ظل تحول النظام الدولي نحو أنماط صراع مركبة، تتداخل فيها الأبعاد الأمنية والأيديولوجية والإعلامية، باتت بعض الحوادث العنيفة في الفضاء الغربي تُستثمر سياسيًا وسرديًا ضمن صراعات إقليمية كبرى، حتى في غياب أي ارتباط تنظيمي مباشر بين الحدث وأطراف تلك الصراعات.

في هذا الإطار، يكتسب هجوم سيدني في الرابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) الجاري أهمية تحليلية ارتباطًا بطبيعته العنيفة وهوية الضحايا، والأهم بقابليته العالية للتسيس وإدراجه داخل الصراع الإيراني الإسرائيلي، فالحادث الذي وقع في بيئة غربية مستقرة، وبعيدًا جغرافيًا عن الشرق الأوسط، تحول سريعًا إلى مادة خطابية أعيد توظيفها في معركة سرديات تتعلق بمعاداة السامية والتطرف العنيف، والتهديدات العابرة للحدود، وهي قضايا تمثل محاور مركزية في الخطاب الإسرائيلي تجاه إيران.

يكشف هذا أن حادث سيدني لم يُستثمر بوصفه دليل إدانة مباشرًا؛ بل بوصفه أداة ضمن صراع على المعنى والتأطير، فالمسألة لا تتعلق بإثبات علاقة سببية، بقدر ما تتعلق بإنتاج مناخ إدراكي يربط بين معاداة السامية والخصوم الإقليميين لإسرائيل، وعلى رأسهم إيران، حيث يصبح الهجوم جزءًا من معركة أوسع على الرأي العام الغربي وصياغة السياسات، وإعادة تعريف مصادر التهديد لإنقاذ حكومة نتنياهو؛ ما يطرح إشكالية مركزية مفادها: كيف تُستخدم الحوادث الإرهابية ذات الدلالات الرمزية -خاصةً في الغرب- كأدوات في الصراع الإيراني الإسرائيلي رغم غياب الارتباط التنظيمي المباشر؟ وكيف يُعاد تأطير الحادث داخل الخطاب الإسرائيلي لتعزيز سردية التهديد الوجودي العالمي ضد اليهود؟ وما حدود الخطاب الإيراني في نزع الربط بين معاداة السامية والصراع مع إسرائيل؟ وما نقاط ضعفه البنيوية؟ كما تثار أسئلة أوسع تتعلق بطبيعة الصراعات المعاصرة، وهل أصبحت الحوادث الإرهابية في الغرب أدوات ضمن صراعات دولية على الشرعية والتمثيل أكثر من كونها تهديدات أمنية مستقلة؟ أم أن هذا التوظيف يعكس فشلًا في معالجة الجذور الاجتماعية والفكرية للتطرف لصالح مقاربات سياسية انتقائية؟

دلالات هجوم سيدني

يمثل هجوم شاطئ بوندي في مدينة سيدني الأسترالية تحولًا خطيرًا كأسوأ إطلاق نار جماعي تشهده أستراليا منذ ما يقرب من 30 عامًا، ليس فقط لأن أعداد الضحايا كبيرة، حيث أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 15 شخصًا، بل لأن طبيعة الاستهداف خلال احتفال ديني في فضاء عام تعيد إنتاج خطاب العنف كأداة لتحقيق أهداف مركبة، وهو ما يمكن الوقوف على أبرز رسائله فيما يلي:

  • دلالة المكان: وقع الهجوم على شاطئ بوندي، موقع عام ساحلي له حضور شعبي وسياحي، وفي مساء مناسبة دينية، هي عيد الأنوار اليهودي حانوكا، حيث كان هناك تجمع مدني كبير، فاختيار مكان مفتوح وشعبي يخدم أهدافًا إستراتيجية متعددة للمنفذين ترتبط بتعظيم الضحايا المدنيين، وتحقيق تغطية إعلامية واسعة، وإيصال رسالة تهديد تستهدف مجتمعًا دينيًا بعينه داخل فضاء عام، ومن الناحية التكتيكية، يقلل الفضاء المفتوح من عوائق الحركة، ويزيد أعداد الضحايا المحتملة، حيث استهدفت مظاهر الحياة العامة والتسامح الاجتماعي لإحداث شرخ اجتماعي وسياسي في المجتمع الأسترالي.
  • دلالة التوقيت: يعكس مساء الرابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) 2025، وخلال احتفال ديني، محاولة متعمدة لتعظيم الأثر النفسي والاجتماعي للهجوم. كما أن اختيار موعد مرتبط بذكرى أو طقس ديني يترجم العنف إلى رسالة معادية للهوية. بالإضافة إلى هذا فإن التجمعات المسائية في مواسم العطلات تزيد الكثافة الإعلامية التي تضاعف أثر الحدث؛ لذلك فإن دقة زمان الحدث تعد عنصرًا متكاملًا في بنية الهجوم.
  • دلالة الهدف: كان الهدف المباشر المجتمع اليهودي والحاضرين في احتفال حانوكا؛ ما يجعل الحادث عملًا موجهًا ضد هوية دينية محددة، ومن ثم يدخل في إطار جرائم الكراهية والإرهاب ذات الدوافع الأيديولوجية، وعلى مستوى أعمق، فإن استهداف أقلية دينية في فضاء عام له أهداف مركبة تتمثل في إضعاف شعور الأمان لدى الأقلية، وإحداث رد فعل سياسي ومجتمعي قد يستغل لاحقًا لإثارة انقسام أو سياسة قمعية، فضلًا عن إرسال رسالة إلى خصوم أوسع (محليين أو دوليين) عن قدرة المنفذين على استهداف رموز الحياة المدنية، هذه الخصائص تميز هذا الهجوم عن أعمال عنف عشوائية، إذ يجسد محاولة بُعدها السياسي والرمزي أكبر من كونها انتقامًا شخصيًا.
  • دلالة الفاعل: حددت التحقيقات الأولية منفذين اثنين، هما ساجد أكرم، 50 عامًا، مواطن هندي مقيم في أستراليا، وابنه نافيد أكرم، 24 عامًا، وهو مواطن أسترالي، حيث وفرت القيادة الأبوية البنية التنظيمية والمحرك العاطفي للالتزام بفكرة العنف، كما كشفت الأدلة وجود مؤشرات لتأثير أيديولوجيات متطرفة، مثل فكر تنظيم الدولة الإسلامية، وتواصل الابن مع شبكات دعوية محلية. كما أشارت بعض التقارير إلى سفره إلى الفلبين الذي قد يربطه بتلقي تدريب، أو ربطه بخلية أو مجموعات متشددة إقليمية، ولعل الأخطر في تحليل فاعلي الهجوم هو ما يتعلق بحالة التقصي الأمني، حيث كان الابن معروفًا لدى أجهزة الأمن منذ 2019، لكنه صُنف  على أنه ليس تهديدًا مباشرًا؛ ما  يطرح جدلًا بشأن مقاييس تقييم الأخطار وفاعلية التدخل الوقائي للقوات الأسترالية.
  • دلالة الوسيلة: استخدم المنفذان أسلحة نارية مرخصة (عدة بنادق/ أسلحة)، كما سُجل وجود عبوات ناسفة محلية الصنع في موقع الهجوم؛ ما يعطي بعدًا أكثر احترافية للهجوم من حيث القصد لإحداث خسائر واسعة، وإرباك قوات الاستجابة. كما أن امتلاك الأسلحة بترخيص يسلط الضوء على ثغرات تنظيمية في القانون الأسترالي، ويطرح سؤالًا عن كيفية مزج السياسات المدنية لامتلاك السلاح مع أخطار التطرف المحلي.

قراءة في هجوم سيدني بين إسرائيل وإيران

يكتسب حادث سيدني الأخير دلالة تتجاوز كونه فعلًا عنيفًا محدود النطاق، ليصبح عنصرًا قابلًا للتوظيف السياسي والسردي ضمن صراع أوسع بين إيران وإسرائيل، حيث يعتمد هذا الصراع على منطق الحرب غير المباشرة، وتُستخدم الأدوات الرمزية والإعلامية والهوياتية إلى جانب الأدوات العسكرية، وهو ما جعل العمليات الإرهابية في الغرب ساحات بديلة للصراع تُدار عبر الخطاب، إذ يُعد التوظيف السردي للأحداث إحدى أهم آليات هذا النمط من الصراع، حيث تُعاد صياغة الوقائع لتخدم بناء الشرعية، أو نزعها عن الخصم.

ونتيجة لكون بعض العمليات الإرهابية تتسم بقابلية عالية للتسيس بسبب طبيعة الضحايا والتوقيت، أو الرمزية الثقافية، مثل حادث سيدني الذي استهدف مدنيين يهودًا في دولة غربية مستقرة، ما يجعله مادة مثالية لإعادة الإدراج داخل سرديات كبرى تتعلق بمعاداة السامية والتطرف العابر للحدود، وتهديد الأقليات الدينية، فمن الزاوية الإسرائيلية، يُوظَّف حادث سيدني لتعزيز سردية مفادها أن اليهود مستهدفون عالميًا بغض النظر عن السياق السياسي المحلي، وهذا التوظيف يهدف إلى نقل النقاش من انتقادات موجهة إلى سياسات إسرائيل في فلسطين إلى مستوى أوسع يتمثل في التهديد الوجودي المزعوم؛ وبهذا يصبح أي عنف ضد يهودي في أي مكان دليلًا داعمًا للرؤية الإسرائيلية بأن الصراع ليس سياسيًا؛ بل حضاريًا هويّاتيًا.

في المقابل، يسعى الخطاب الإيراني الرسمي إلى مواجهة هذا التوظيف من خلال الفصل الصارم بين اليهودية بوصفها دينًا والصهيونية بوصفها مشروعًا سياسيًا، حيث تؤكد طهران في خطابها أنها تعارض إسرائيل بوصفها كيانًا سياسيًا، لا اليهود بوصفها جماعة دينية، هذا التمييز يهدف إلى تحصين إيران من الاتهام بتغذية معاداة السامية عالميًا، والحفاظ على هامش حركة داخل الرأي العام الغربي.

 غير أن توظيف هجوم سيدني يعكس صراعًا أعمق بشأن تعريف الإرهاب نفسه، فإسرائيل تميل إلى توسيع المفهوم ليشمل أي عنف ضد يهود، بغض النظر عن السياق، في حين تحاول إيران وحلفاؤها حصر مفهوم الإرهاب في استهداف المدنيين لأغراض سياسية مباشرة، مع إبراز الطابع العسكري أو المقاوم لأفعالهم. هذا الخلاف المفاهيمي يؤثر مباشرة في كيفية إدراك الحادث وتفسيره دوليًا، ولا يكتمل توظيف حادث سيدني دون النظر إلى الدور الغربي بوصفه جمهورًا لهذا الصراع، فإسرائيل تسعى إلى استثمار الحساسية الغربية التاريخية تجاه معاداة السامية لتعزيز دعمها السياسي والأمني، في حين تحاول الجمهورية الإسلامية تفادي خسارة هذا الفضاء عن طريق خطاب عقلاني يرفض العنف ضد المدنيين، وهذا ما ينقل الغرب من مراقب إلى فاعل غير مباشر في إعادة إنتاج دلالات الحادث.

وبالمقارنة بعمليات مشابهة أوروبية وأمريكية نجد أن هجوم كنيس بيتسبرغ في الولايات المتحدة عام 2018 كان نموذجًا محوريًا لتوظيف العنف المعادي لليهود داخل خطاب أمني إستراتيجي أوسع، ففي حين كان المنفذ من اليمين المتطرف الأمريكي، استُثمر الحادث سياسيًا لتعزيز سردية “الخطر الوجودي العالمي” ضد اليهود، وهذه الآلية نفسها تكررت في حادث سيدني، حيث يتم تجاهل الخصوصيات المحلية لصالح تعميم التهديد، كما شهدت أوروبا حوادث متكررة استهدفت معابد أو مدارس يهودية (باريس، وبروكسل، وكوبنهاغن)، وغالبًا ما أُعيد تأطيرها في الخطاب الإسرائيلي بوصفها امتدادًا لصراع الشرق الأوسط، وهذا الربط يُحول أوروبا من فضاء مدني محايد إلى امتداد نفسي وأيديولوجي لساحة الصراع، ويُستخدم لتأكيد أن معاداة السامية عالمية المصدر، لا محلية الجذور.

وفي الحالات الأوروبية والأمريكية -كما في سيدني- تعمل إسرائيل على تعميم التهديد بدلًا من تفكيكه، فالهجوم الفردي أو المحلي يُقدم كجزء من منظومة أوسع من الكراهية والتحريض، يُفترض أن إيران أو حلفاءها يسهمون في إنتاج مناخها، هذه الآلية تسمح بتجاوز الحاجة لإثبات الصلة التنظيمية، والاكتفاء بـالترابط الأيديولوجي المفترض، وفي هذا الصدد تُدرك إيران أن تكرار هذا النمط المقارن يُضعف موقفها في الغرب؛ لذلك تحرص على نفي أي مسؤولية عن هذه الحوادث، لكن الخطاب الإيراني يواجه معضلة مزدوجة؛ فهو من جهة يرفض العنف ضد اليهود، ومن جهة أخرى لا يتخلى عن خطاب حاد ضد إسرائيل، وهذا التناقض يُستثمر ضده في كل حادث جديد، حيث يكشف الربط بين حادث سيدني ونظائره في أوروبا وأمريكا أن الإرهاب المعادي لليهود أصبح أداة تحليل مركزية في الصراع الإيراني الإسرائيلي بسبب قابليته العالية للتوظيف السردي، ما يعكس تحول الصراعات الحديثة إلى صراعات بشأن المعنى والتمثيل، حيث تُدار المعارك في الفضاء الإعلامي والرمزي أكثر ما تُدار في الميدان.

الخاتمة

يُفضي ما سبق إلى أن الصراع الإيراني الإسرائيلي توسع من المواجهة العسكرية التقليدية أو حروب الوكلاء إلى فضاء هجين تتداخل فيه العمليات العسكرية المحدودة، والحرب النفسية، والتوظيف السردي للأحداث العنيفة، ومنها العمليات الإرهابية التي تقع خارج نطاق الشرق الأوسط؛ ما يجعل قيمة العمليات الإرهابية تُقاس بقدرتها على إنتاج أثر رمزي قابل للتدوير سياسيًا وإعلاميًا داخل صراع أوسع على الشرعية والتمثيل؛ لذا  فإن أحد أهم الاستنتاجات التي تبرز من دراسة توظيف حوادث مثل سيدني هو أن الإرهاب حتى عندما يكون فرديًا، أو غير مرتبط تنظيميًا بدول أو جماعات إقليمية، أصبح جزءًا من اقتصاد الصراع الدولي، حيث تُعاد صياغة دلالاته بما يخدم أطرافًا لم تشارك في تنفيذه؛ ما يعكس تآكل الحدود بين الفعل الإرهابي المحلي والصراع الجيوسياسي العالمي، ويؤكد أن العمليات الإرهابية باتت تُقرأ بوصفها نصوصًا مفتوحة قابلة لإعادة التأويل، وليست وقائع مغلقة ذات معنى واحد.

ويتضح في إطار الصراع الإيراني الإسرائيلي أن إسرائيل تستفيد بنيويًا من هذا النمط، من خلال دمج أي عنف معادٍ لليهود في سردية “التهديد الوجودي العالمي”، بما يسمح لها بتوسيع نطاق الصراع خارج جغرافيته الأصلية. في المقابل، تجد إيران نفسها في موقع دفاعي سرديًا، إذ تُجبر على نفي مسؤولية لم تُثبت أصلًا، وهو ما يكشف عن عدم تماثل سردي في إدارة الصراع، حيث يمتلك طرف قدرة أعلى على تحويل الأحداث الخارجية إلى أدوات ضغط إستراتيجية؛ وهو ما يدفع إلى استشراف مستقبل العمليات الإرهابية، واتجاه نحو التصعيد النوعي والرمزي، فعلى عكس العمليات الواسعة والمعقدة، يُرجح تزايد نمط الهجمات المنخفضة الكلفة، العالية الدلالة، التي ينفذها فاعلون أفراد، أو خلايا صغيرة في بيئات غربية مستقرة، لما توفره من أثر إعلامي كبير وقابلية عالية للتوظيف السياسي، وهذا النمط يخدم منطق الصراع الإيراني الإسرائيلي؛ لأنه يُبقي التوتر قائمًا دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة شاملة، كما يُتوقع أن تتزايد مركزية البعد الهوياتي في العمليات الإرهابية المستقبلية، بحيث تصبح الأهداف الرمزية (دينية، أو  ثقافية، أو مجتمعية) أكثر حضورًا من الأهداف العسكرية أو السياسية المباشرة؛ ما يعزز من قابلية إدماج تلك العمليات داخل سرديات الصراع الحضاري أو الوجودي، ويُضعف المقاربات الأمنية التقليدية التي تركز على التنظيمات الهرمية، وشبكات القيادة والسيطرة؛ ومن ثم يمكن القول إن مستقبل العمليات الإرهابية في ظل الصراع الإيراني الإسرائيلي الراهن لن يُحسم في ساحات القتال التقليدية؛ بل في فضاءات الإدراك والتأطير وإنتاج المعنى، فالصراع يتجه نحو مرحلة تصبح فيها العمليات الإرهابية، حتى غير المرتبطة تنظيميًا، أدوات ضمن معركة سردية أوسع؛ ما يجعل أي مقاربة عملية أو سياسية جادة لمواجهة الإرهاب تظل قاصرة، ما لم تأخذ في الحسبان هذا التحول البنيوي، وتعالج الإرهاب بوصفه ظاهرة متداخلة مع صراعات القوة والشرعية في النظام الدولي المعاصر.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع