دخلت الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث بحصيلة مأساوية من الخسائر البشرية والمادية، فقد شنت روسيا في فبراير (شباط) 2022 عملية عسكرية واسعة النطاق بهدف إخضاع أوكرانيا، وسيطرت في البداية على مساحات شاسعة في الجنوب والشرق، لكنها واجهت مقاومة أوكرانية شرسة مدعومة بتدفق غير مسبوق للمساعدات العسكرية الغربية. تمكنت كييف من الدفاع عن العاصمة، واستعادة أجزاء من خاركيف وخيرسون خلال عام 2022، في حين انكفأت القوات الروسية لإعادة تنظيم صفوفها. ومع حلول عام 2023، استقرت جبهات القتال وتحولت الحرب إلى صراع استنزاف طويل الأمد يتركز في إقليم دونباس وجنوب أوكرانيا، حيث خاض الطرفان معارك طاحنة على بلدات مثل باخموت دون تحقيق نصر حاسم لأي منهما.
أدت هذه الحرب المطوّلة إلى مقتل عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين، وتشريد الملايين عن ديارهم، لتصبح أعنف نزاع تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم العقوبات الدولية والضغوط الاقتصادية، واصلت موسكو تمويل مجهودها الحربي عبر تعبئة الموارد المحلية والتحالفات مع دول أخرى. في المقابل، اعتمدت أوكرانيا اعتمادًا شبه كامل على الدعم المالي والعسكري من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين للحفاظ على قدرتها القتالية واقتصادها في زمن الحرب. هذا التوازن الحرج بين قدرات روسيا الكبيرة وصمود أوكرانيا المدعومة غربيًّا أبقى الصراع دون حسم حتى منتصف عام 2025، مع تمسك كل طرف بأهدافه القصوى: فموسكو تصر على تحقيق مكاسب إقليمية وتأمين حياد أوكرانيا، وكييف ترفض التنازل عن أراضيها وتطالب بانسحاب روسي كامل.
شهدت الأشهر الأولى من عام 2025 تصعيدًا ملحوظًا في العمليات العسكرية الروسية على عدة محاور، مما يشير إلى أن الكرملين استعاد زمام المبادرة ميدانيًّا بعد فترة من الجمود. أعلن الجيش الروسي في أوائل يونيو (حزيران) 2025 تحقيق تقدم مفاجئ تمثل في التوغل داخل مقاطعة دنيبروبتروفسك انطلاقًا من الحدود الغربية لإقليم دونيتسك الخاضع له، فقد أكدت وزارة الدفاع الروسية أن وحدات مدرعة من قواتها وصلت إلى حدود دنيبروبتروفسك الإدارية، وبدأت “تطوير الهجوم” داخل أراضي المقاطعة. يمثل هذا التقدم أول اختراق روسي لأراضٍ جديدة خارج المناطق الأربع التي أعلنت موسكو ضمها سابقًا، مما يجعله تطورًا ذا دلالة عسكرية وإستراتيجية بارزة، فالسيطرة على أي جزء من إقليم دنيبروبتروفسك -الذي يعد من أهم الأقاليم الصناعية في وسط أوكرانيا- ستشكل انتكاسة رمزية وميدانية لكييف، إذ تقترب المعارك أكثر من مدينة دنيبرو الحيوية، ومن قلب الأراضي الأوكرانية التي كانت بعيدة عن خطوط النار المباشرة طوال السنوات الماضية.
من الجانب الأوكراني، تعاملت كييف بحذر مع الإعلان الروسي. لم تؤكد القيادة الأوكرانية العليا دخول قوات معادية إلى دنيبروبتروفسك، لكنها أقرت بشراسة القتال على التخوم. وأفاد بيان لقوات الدفاع الأوكرانية في الجنوب بأن “العدو لا يتخلى عن نيّاته باختراق حدود المقاطعة، لكن جنودنا يتصدون بشجاعة لمحاولاته، ويمسكون بخطوطهم الدفاعية”. يعكس هذا التصريح إقرارًا ضمنيًّا بخطورة الموقف دون الاعتراف بخسارة أرض جديدة. ويبدو أن القوات الأوكرانية تركز جهودها على منع تثبيت الروس موطئ قدم في دنيبروبتروفسك، عن طريق استنزاف وحدات المدرعات المتقدمة، ومنعها من تأمين خطوط إمداد راسخة وراء الحدود الجديدة.
يأتي هذا التوغل الروسي في وقت حققت فيه موسكو مكاسب ميدانية أخرى على محاور مختلفة؛ فقد شن الجيش الروسي هجمات متزامنة في شمال شرق أوكرانيا، مستغلًا حدوده المشتركة لإعادة فتح جبهة مقاطعة سومي التي كانت هادئة نسبيًّا منذ 2022. وتشير التقارير إلى أن القوات الروسية توغلت عشرات الكيلومترات داخل سومي خلال أسابيع قليلة، مقتربة إلى أقل من 20 كيلومترًا من مدينة سومي نفسها في بعض الاتجاهات. وبموازاة ذلك، كثّف الجيش الروسي ضغطه على خطوط الدفاع الأوكرانية في إقليم دونيتسك شرقي البلاد، لا سيما حول مدينة كوستيانتينيفكا التي تُعد مركزًا لوجستيًّا حيويًّا للجيش الأوكراني غربي باخموت. تحاول القوات الروسية تطويق كوستيانتينيفكا من عدة جهات بغية اقتحامها أو عزلها؛ ما يهدد بقطع طرق الإمداد نحو عمق دونيتسك. وفي الجنوب، استمرت الاشتباكات الضارية على أطراف مقاطعتي زاباروجيا وخيرسون حيث يسعى كل طرف إلى تحسين مواقعه التكتيكية.
إن هذا النشاط الهجومي الروسي المتعدد المحاور يشير إلى إستراتيجية روسية لتشتيت القدرات الأوكرانية، وفتح جبهات جديدة تربك حسابات كييف. فبعد شهور من الدفاع المستميت أمام محاولات أوكرانية لاختراق خطوط جبهة الشرق والجنوب في عام 2024، انتقلت القوات الروسية في عام 2025 إلى هجومات موضعية مستمرة أرهقت الجيش الأوكراني، ومنعته من استعادة زمام المبادرة. ومع امتلاك موسكو أفضلية عددية في الجنود والعتاد، نتيجة تعبئة مئات الآلاف من جنود الاحتياط، وتكثيف إنتاجها الحربي، بدأت كفة ميزان القوى الميداني تميل تدريجيًّا لصالحها إذا ما استمرت المعطيات الحالية. هذا لا يعني انتصارًا روسيًّا وشيكًا؛ إذ لا تزال أوكرانيا تحتفظ بدفاعات متماسكة في العمق، ولم ينهر أي قطاع إستراتيجي حاسم من جبهاتها، لكن اتساع رقعة العمليات لصالح روسيا يضع مزيدًا من الضغوط على أوكرانيا، ويتطلب منها موارد واحتياطيات أكبر لاحتواء الخروق المستجدة.
ارتبط صمود أوكرانيا العسكري طوال السنوات الماضية ارتباطًا وثيقًا بالدعم الغربي الواسع النطاق، ولا سيما المساعدات السخية من الولايات المتحدة، ودول حلف شمال الأطلسي، فقد قدمت واشنطن وحلفاؤها ترسانة ضخمة من الأسلحة الحديثة ، بدءًا من الصواريخ المضادة للدروع وصولًا إلى المدفعية البعيدة المدى والدبابات المتطورة، إضافة إلى تدريب القوات الأوكرانية، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية. هذا الدعم الغربي مكّن كييف من معادلة التفوق الروسي في بعض الجوانب، وكبح اندفاع موسكو عامَي 2022 و2023. بيد أن استمرار هذا الدعم بالزخم نفسه حتى منتصف 2025 لم يعد أمرًا مفروغًا منه، بل أصبح موضع شك نتيجة متغيرات سياسية وإستراتيجية داخل المعسكر الغربي نفسه.
فعلى الصعيد الأمريكي، شهد مطلع عام 2025 تغيرًا جوهريًّا بوصول إدارة جديدة للبيت الأبيض ذات توجه مختلف حيال الحرب. فبعد ثلاث سنوات من الالتزام الثابت في عهد إدارة بايدن، جاء الرئيس دونالد ترمب راغبًا في إيجاد مخرج سريع للصراع، وتقليل الانخراط الأمريكي المباشر. ومع أن الولايات المتحدة لم تقطع مساعداتها فجأة، حيث استمر الكونغرس بتخصيص ميزانيات لدعم أوكرانيا تحت ضغط الرأي العام المؤيد لكييف إلى حد ما، فإن نبرة الإدارة الأمريكية تحولت نحو الدفع باتجاه تسوية تفاوضية عاجلة. وقد أثار هذا التحول مخاوف عميقة لدى القيادة الأوكرانية من احتمال تراجع الدعم الأمريكي الحاسم، فالرئيس فولوديمير زيلينسكي لم يُخفِ قلقه من التغيرات السياسية في واشنطن، محذرًا في عدة مناسبات من أن غياب الدعم الأمريكي سيؤدي إلى زيادة فرص انتصار روسيا في الحرب. وفي مقابلات إعلامية أكد زيلينسكي أن أوكرانيا ستواجه صعوبة بالغة في الصمود عسكريًّا إذا توقفت الإمدادات الأمريكية، بل وصف فرص بلاده بالنجاة بدون ذلك الدعم بأنها ضئيلة جدًّا. وجاءت هذه التصريحات التحذيرية في إطار مساعيه لحشد تأييد مستمر من الحزبين في الولايات المتحدة، وكذلك للحصول على التزامات إضافية من إدارة ترمب بعدم التخلي عن أوكرانيا في هذه المرحلة الحرجة.
لم يقتصر القلق الأوكراني على الدعم العسكري فحسب؛ بل شمل أيضًا المساندة الاقتصادية والمالية الضرورية لإبقاء الاقتصاد الأوكراني تحت ظروف الحرب، فمن دون المليارات التي تتلقاها كييف من واشنطن وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، ستواجه الحكومة الأوكرانية صعوبة في دفع رواتب الجنود والموظفين، ودعم العملة الوطنية؛ ومن هنا شدد زيلينسكي في تصريحاته على أن انقطاع الدعم الغربي يعني خسائر فادحة لأوكرانيا، قد لا تقتصر على ساحة المعركة، بل تمتد لتقوض قدرة الدولة ككل على الاستمرار. ولعل الكشف عن نقل الولايات المتحدة بعض الذخائر المخصصة لأوكرانيا إلى مناطق أخرى (كإرسال صواريخ مضادة للمسيّرات إلى الشرق الأوسط بدلًا من أوكرانيا) عمّق مخاوف الأوكرانيين من تراجع أولوية قضيتهم لدى الحلفاء بسبب أزمات دولية منافسة، أو تغير الأولويات.
على الجهة الأخرى من الأطلسي، لا تزال دول أوروبا ملتزمة رسميًّا بدعم أوكرانيا (ما دام الأمر يتطلب ذلك)، ولكن بوادر الإرهاق بدأت تظهر على بعض العواصم الأوروبية، فالدعم الأوروبي العسكري رغم توسعه (من خلال تزويد كييف بدبابات غربية، وصواريخ دفاع جوي حديثة، وغيرها) يبقى محدودًا بقيود مخزونات الجيوش الأوروبية وقدرتها الصناعية. كما تواجه الحكومات الأوروبية ضغوطًا داخلية مع استمرار الحرب وارتفاع كلفتها الاقتصادية، وبرزت أصوات سياسية وشعبية تطالب بالتركيز على مشكلات الداخل، أو تدعو إلى حلول دبلوماسية تنهي النزاع. ومع ذلك، لا يمكن لأوروبا أن تسمح بانتصار روسي ساحق؛ بسبب ما يشكله ذلك من تهديد مباشر لأمن القارة؛ لذا تحاول الدول الأوروبية الحفاظ على تماسك الموقف الداعم، بل اتخذت مبادرات لطمأنة كييف بأن الدعم سيستمر حتى لو تراجعت واشنطن جزئيًّا. فعلى سبيل المثال، اقترحت كل من فرنسا وبريطانيا -مطلع 2025- مبادرة أمنية أوروبية لتقديم ضمانات لأوكرانيا بغض النظر عن الموقف الأمريكي، غير أن زيلينسكي نفسه أبدى شكوكه في قدرة أوروبا وحدها على توفير ضمانات أمنية “حقيقية” دون الولايات المتحدة، معتبرًا أن الدور الأمريكي يظل محوريًّا.
بشكل عام، يمكن القول إن الدعم الغربي لأوكرانيا بات عند مفترق طرق في منتصف عام 2025. فبينما يدرك حلفاء أوكرانيا أن تقليص المساعدات سيغيّر موازين القوى لصالح روسيا، وربما يمنحها النصر الذي تنشده، فإن استمرار الدعم بالمستوى نفسه ليس مضمونًا في أجواء سياسية واقتصادية معقدة في الغرب. هذا التوازن الدقيق يجعل مصير الحرب مرتبطًا بقرارات العواصم الغربية في الشهور المقبلة بقدر ارتباطه بصمود الجنود في الخنادق.
رغم التصعيد الميداني، شهد النصف الأول من عام 2025 حراكًا دبلوماسيًّا هو الأوسع نطاقًا منذ بداية الحرب، وإن كان حراكًا تعتريه الشكوك وتباعد المواقف. تحت ضغط الرغبة الأمريكية الجديدة في إنهاء الحرب، عُقدت أولى المفاوضات المباشرة بين وفدي روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من ثلاث سنوات. التأمت هذه المحادثات في إسطنبول خلال مايو (أيار) 2025 برعاية تركية ومشاركة غير مباشرة من الولايات المتحدة وقوى أوروبية، وعلى وقع مطالبة الرئيس ترمب الطرفين بوقف القتال 30 يومًا دون شروط كبادرة لبناء الثقة.
أسفرت جولة إسطنبول الأولى عن اختراق محدود تمثل في اتفاق الجانبين على تبادل ألف أسير حرب من كل طرف، في خطوة إنسانية هي الأكبر منذ بدء الصراع. بيد أن الفجوة كانت شاسعة فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية، وفشلت المحادثات في التوصل إلى وقف لإطلاق النار. أصرّ الوفد الأوكراني -بتوجيه مباشر من زيلينسكي- على ضرورة تنفيذ هدنة فورية وشاملة كشرط للانتقال إلى مناقشة الملفات السياسية، مدعومًا بموقف غربي يطالب موسكو بوقف القتال دون قيد أو شرط. في المقابل، تمسّك الجانب الروسي برفضه أي وقف نار غير مسبوق باتفاقات ملموسة تحدد “الحقائق الجديدة على الأرض”، في إشارة إلى مطالبه الاعترافية. وقد قدمت موسكو خلال المفاوضات شروطاً اعتبرها الأوكرانيون مستحيلة، أبرزها مطالبة كييف بالقبول رسميًّا بضم روسيا لأقاليم أوكرانية محتلة (دونيتسك، ولوغانسك، وزاباروجيا، وخيرسون، إضافة إلى شبه جزيرة القرم)، فضلًا عن مطالب بنزع السلاح الثقيل الأوكراني، وضمان حياد أوكرانيا عسكريًّا في المستقبل. ووصف مصدر أوكراني هذه الطروحات بأنها “شروط إذعان” لا يمكن قبولها، إذ تعني فعليًّا تخلي أوكرانيا عن سيادتها على جزء كبير من أراضيها.
انتهت الجولة الأولى من مفاوضات إسطنبول دون اختراق سياسي حقيقي، وسارع كل طرف بعدها إلى إلقاء اللوم على الآخر. كييف وحلفاؤها الغربيون اتهموا موسكو بعدم الجدية، معتبرين أن استمرار الهجمات الروسية بالتوازي مع الحديث عن السلام يثبت أن الكرملين يريد كسب الوقت، وتحقيق مكاسب إضافية تحت غطاء المفاوضات. وقد أشار زيلينسكي إلى أن روسيا “تلعب لعبة سياسية قذرة” حتى في القضايا الإنسانية مثل تبادل الأسرى، حيث اتهمها بالمماطلة عمدًا في تنفيذ الاتفاق بغرض الضغط الإعلامي. وصرح في إحدى خطبه الليلية أن مماطلة موسكو في إعادة جثامين الجنود الأوكرانيين وتسليم قوائم الأسرى تؤكد الشكوك بنيّاتها، قائلًا إن إخلال الروس بالتزاماتهم في الملفات الإنسانية “يلقي ظلالًا من الشك على كل الجهود الدبلوماسية الدولية”. ولم يتردد زيلينسكي في التعبير عن امتعاضه من تفاوض واشنطن وموسكو على رأس أوكرانيا في بعض المبادرات، مشددًا على أن أي خطط سلام يجب أن تكون أوكرانيا طرفًا أساسيًّا فيها؛ لأن الحرب تدور على أرضها، وليس على أراضي القوى الكبرى. وقد تساءل بلهجة المنتقد: “عندما يضعون خططهم لإنهاء الحرب، أين نحن منها؟”، في إشارة إلى شعوره بتهميش كييف في بعض المداولات بين موسكو وواشنطن.
في المقابل، حملت موسكو هي أيضًا أوكرانيا مسؤولية تعثر السلام؛ فقد صرّح الرئيس فلاديمير بوتين علنًا أنه لا يرى رغبة حقيقية لدى القيادة الأوكرانية في السلام، مشيرًا إلى هجوم أوكراني استهدف جسرًا داخل روسيا (في مقاطعة بريانسك) عشية جولة التفاوض كمثال على ما عدّه عدم جدية كييف. كما أكد بوتين أن روسيا قدمت مقترحات معقولة، وأن الكرة الآن في الملعب الأوكراني، متهمًا زيلينسكي بأنه “رهينة للغرب”، ويرفض التسوية خشية فقدان الدعم الخارجي. وبالتوازي مع ذلك، صعّد مسؤولون روس لهجتهم لتحميل الغرب مسؤولية إطالة أمد الحرب عن طريق تزويد أوكرانيا بالسلاح، ومنعها من الرضوخ للمطالب الروسية، حتى إن ديمتري ميدفيديف (الرئيس الروسي السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي حاليًا) عقّب على التوغل الأخير في دنيبروبتروفسك بالقول إن من يرفض الاعتراف بواقع الحرب على طاولة المفاوضات سيواجه واقعًا جديدًا على الأرض. هذا التصريح يحمل رسالة واضحة مفادها أن موسكو مستعدة لتوسيع الحرب إذا استمر رفض شروطها، وأنها ترى في الإنجازات العسكرية وسيلة لفرض حقائق سياسية.
وسط هذه الاتهامات المتبادلة، حاول الوسطاء الدوليون إبقاء باب الحوار مفتوحًا، فتركيا سعت إلى استضافة جولات لاحقة من المحادثات، وعرضت الصين أيضًا أفكارًا لوقف التصعيد دون أن تحقق قبولًا ملموسًا. كما أن قادة فرنسا وألمانيا استمروا في التواصل مع الجانبين لحثهما على إيجاد أرضية مشتركة، لكنهم في الوقت نفسه أكدوا استمرار العقوبات وتشديدها إن لم تستجب روسيا لمساعي التهدئة. وقد وصل الأمر بالحلفاء الغربيين إلى التهديد بفرض عقوبات إضافية صارمة إذا رفضت موسكو مبادرة وقف إطلاق النار المؤقتة التي طرحت في مايو (أيار). غير أن هذه التهديدات لم تغير موقف الكرملين الرافض للهدنة قبل الحصول على تنازلات، فاستمر القتال وتصاعد بدلًا من أن يخف.
باختصار، المشهد الدبلوماسي حتى منتصف 2025 يتسم بجمود في المواقف رغم كثرة المحادثات، فلا أوكرانيا مستعدة لمنح روسيا مكاسب سياسية تراها انتكاسة لسيادتها، ولا روسيا على استعداد لوقف الحرب دون ضمان تحقيق أهدافها الأساسية، وما بينهما تقف القوى الدولية عاجزة عن رأب الصدع، خاصة مع إدراك موسكو أن ضغط الوقت ربما يصب في صالحها مع بوادر الوهن في المعسكر الداعم لأوكرانيا. وفي ضوء التوغل الروسي الجديد في أراضٍ إضافية، يبدو أن أي حديث عن حل سياسي سيبقى نظريًّا ما لم يتغير الوضع الميداني جذريًّا، أو تحدث تحولات في إرادة الدعم الغربي تجعل كييف أو موسكو تعيدان حساباتها.
أثار التوغل الروسي في مقاطعة دنيبروبتروفسك، ومؤشرات تراجع الدعم الأمريكي، مخاوف عميقة بشأن المسار المستقبلي للصراع في أوكرانيا؛ فعلى الصعيد العسكري الميداني، يمثل هذا الاختراق نذيرًا بأن الحرب قد تنتقل إلى مرحلة أكثر خطورة لأوكرانيا إذا لم تتمكن من احتوائه بسرعة؛ إذ إن نجاح موسكو في ترسيخ وجودها داخل دنيبروبتروفسك سيفتح الباب أمامها للتقدم نحو مدن إستراتيجية جديدة، وربما قطع أوصال أوكرانيا شرق نهر دنيبرو. كما أن توالي الإخفاقات الدفاعية قد يؤثر سلبًا في معنويات القوات الأوكرانية، التي استبسلت طويلًا لمنع الروس من كسب أراضٍ منذ أواخر 2022. وإذا شعرت تلك القوات أن ظهرها بات مكشوفًا نتيجة تراجع الإمدادات، أو توسع الهجوم المعادي، فقد يصبح الحفاظ على خطوط القتال الحالية أمرًا أصعب يومًا بعد يوم.
في المقابل، قد يدفع هذا التصعيد الميداني الغرب إلى إعادة تقييم حدود دعمه، فبعض العواصم قد تستنتج أن تخفيف المساعدات الآن سيؤدي إلى انهيار دفاعات أوكرانيا سريعًا، ومن ثم ترجيح كفة روسيا بالكامل؛ وعليه، ربما تُقرر دول رئيسة في الناتو تصعيد دعمها العسكري نوعيًّا -كإرسال أسلحة متطورة إضافية أو زيادة التدريب- لمنع موسكو من فرض واقع جديد بالقوة، لكن هذا السيناريو يصطدم بعقبة التردد الأمريكي؛ فإن لم تُظهر واشنطن استعدادًا لقيادة هذا الجهد وتعزيز الدعم بدلًا من تقليصه، فسيصعب على الأوروبيين وحدهم قلب الموازين.
على الصعيد السياسي والإستراتيجي، يدلل ربط موسكو بين نتائج المفاوضات وأوضاع الجبهة (كما عبرت تصريحات ميدفيديف) على إستراتيجية روسية واضحة: التصعيد لكسر الإرادة الأوكرانية، وإجبار كييف على قبول التسوية وفق الشروط الروسية. وقد يكون التوغل في دنيبروبتروفسك رسالة مباشرة لزيلينسكي أن المماطلة في التنازل ستكلفه مزيدًا من الأرض. وفي الوقت نفسه، تشكل تصريحات زيلينسكي عن خطر غياب الدعم الأمريكي رسالة مضادة للغرب مفادها أن ترك أوكرانيا وحيدة سيعني انتصار موسكو، أي إن كييف تحذر من أن تقاعس الحلفاء الآن لن يؤدي إلى سلام سريع؛ بل إلى منح روسيا نصرًا إستراتيجيًّا قد يُغريها بمزيد من العدوان مستقبلًا، ويقوض الأمن الأوروبي ككل.
أما دوليًّا ودبلوماسيًّا، فمن المحتمل أن يؤدي استمرار هذا الوضع إلى تكريس اصطفافات جديدة، إذ سيزداد تقارب روسيا مع خصوم الغرب التقليديين مستفيدة من أي شرخ في جبهة الدعم لأوكرانيا، فيما ستسعى كييف إلى توسيع دائرة مؤيديها بحثًا عن مساعدات بديلة، أو ضمانات أمنية طويلة الأمد. وقد يجد الوسطاء -كتركيا والصين- أنفسهم أمام تحدٍّ أكبر لإقناع موسكو بتقديم تنازلات، في ظل شعورها بتفوق ميداني نسبي، وتصدع في وحدة موقف خصومها. كل ذلك ينذر بأن أفق إنهاء الحرب قد يبتعد أكثر ما لم يحدث تغيير مفاجئ يقلب المعادلة (سواء عن طريق تغيير سياسي داخلي في روسيا، أو من خلال قرار غربي جريء بتعزيز نوعي للدعم رغم الكلفة).
في ضوء التطورات آنفة الذكر، يمكن استخلاص جملة من النقاط المركزية بشأن الوضع الراهن وآفاق الصراع:
في الختام، يقف الصراع في أوكرانيا منتصف عام 2025 عند مفترق مصيري؛ فتوغل القوات الروسية في عمق جديد، وتلويح كييف باحتمال خسارتها دون العون الخارجي، كلاهما جرس إنذار بأن كفة الحرب يمكن أن تميل في الفترة المقبلة. سوف يعتمد اتجاه الميل على قرارات سياسية وإستراتيجية يتخذها اللاعبون الرئيسون خارج ساحات المعارك. وفيما يأمل الجميع إنهاء الحرب عاجلًا، تشير المعطيات إلى استمرار مواجهة صعبة ودامية ما لم تتغير الحسابات الحالية جذريًّا. ومع ذلك، يبقى الباب مفتوحًا -وإن كان ضيقًا- أمام الدبلوماسية إن توافر الدعم الدولي الصلب لإجبار موسكو وكييف على تسوية قابلة للاستمرار. الأيام المقبلة وحدها ستكشف إن كان هذا الدعم سيستمر بالقدر الكافي، أم أن أوكرانيا ستضطر إلى مواجهة قدرها في ظل تراجع السند، واشتداد العدوان.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.