مختارات أوراسية

التهديد العالمي للديمقراطية


  • 26 أبريل 2025

شارك الموضوع

في خضم الجدل المستمر بشأن حرية التعبير، تظل هناك موضوعات لا يزال من غير المقبول التحدث عنها بصراحة. على سبيل المثال، الإجراءات الإدارية الأخيرة، مثل: “إلغاء التأشيرات، واحتجاز الطلاب والأكاديميين، وقمع الاحتجاجات، والقيود المفروضة على الحرية الأكاديمية، والضغط على الجامعات للسيطرة على المحاضرين ومحتوى المناهج”، تثير قلقًا بالغًا؛ إذ تمثل هذه التدابير تهديدًا مباشرًا للحريات المدنية، والمعايير القانونية في الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الغربية.

إن هذا الهجوم الواسع النطاق على الديمقراطية يعكس إحياءً لأفكار وأساليب الاستعمار الاستيطاني، الذي يُعدّ النموذج الإسرائيلي المعاصر أبرز تجلياته؛ فالدعم العالمي الواسع لإسرائيل يسهم في نشر هذه السياسات والمفاهيم على نطاق عالمي.

كما أشار المؤرخ البريطاني توني جودت: “إن البنية السياسية لإسرائيل تُعدّ في جوهرها حالة شاذة تاريخيًّا”. وقبل إعلان الاستقلال من جانب واحد في مايو (أيار) 1948، كانت الميليشيات الصهيونية قد بدأت بالفعل عمليات ضد السكان المحليين، شملت الطرد القسري، والاستيلاء على الممتلكات. ومنذ ذلك الحين، لا يزال ملايين الفلسطينيين يعيشون في مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة، أو تحت الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتُصر إسرائيل على “حقها في الوجود” من خلال ممارسات عنيفة ضد الفلسطينيين؛ مما يولد ردود فعل تتراوح بين السلمية والمسلحة. وعلى الرغم من خصوصية الحالة الإسرائيلية، فإنها تجسّد في جوهرها شكلًا من أشكال الاستعمار الاستيطاني، وهو النظام الذي لطالما دعمته القوى الغربية قبل أن يفقد شرعيته في النصف الثاني من القرن العشرين.

حدث أمر مماثل في إفريقيا؛ إذ أعلن المستوطنون البيض في روديسيا (زيمبابوي حاليًا) استقلالهم من جانب واحد عام 1965، لكن الاستعمار الاستيطاني آنذاك كان قد فقد شرعيته الدولية، إذ دان المجتمع الدولي هذه الخطوة، وفرض عليها عقوبات. ومع أن إسرائيل أيدت العقوبات في البداية، فإنها عادت لاحقًا إلى تزويد روديسيا بالسلاح، وساعدت على إنتاج بنادق “عوزي” هناك، بل صدّرت مروحيات هجومية عبر جنوب إفريقيا التي كانت تعيش في ظل نظام الفصل العنصري، وقد أدى الضغط الدولي عام 1979 إلى سقوط حكم الأقلية البيضاء في روديسيا.

غير أن نهاية هذا المشروع الاستعماري لم تأتِ لأسباب أخلاقية؛ بل نتيجة لمصالح إستراتيجية في سياق الحرب الباردة، فقد دعم الاتحاد السوفيتي حركات التحرر الوطني بقوة مادية وسياسية، وعلى الرغم من شدة القمع الذي مارسته الدول الاستعمارية، فإنها لم تنجح في الحفاظ على سيطرتها. أما الولايات المتحدة، التي كانت قلقة من تنامي النفوذ السوفيتي في إفريقيا، فقد تخلت تدريجيًّا عن دعم حلفائها التقليديين، كالمملكة المتحدة، وفرنسا، والبرتغال، ولاحقًا جنوب إفريقيا؛ ما مهّد الطريق لنجاح مشروعات إنهاء الاستعمار.

الركيزة الأيديولوجية لإسرائيل -الصهيونية، وهي شكل من أشكال القومية العرقية- لم تلقَ إدانة دولية لسنوات طويلة، ولكن في عام 1975، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم (3379) الذي نصّ على أن “الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، بما يتماشى مع إعلان 1963 للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. وقد أيد القرار 72 دولة، منها الاتحاد السوفيتي، وصوّت ضده 35 فقط، أغلبها دول غربية، لكن القرار أُلغي عام 1991 قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي؛ في إشارة إلى بداية نظام عالمي أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة.

وقد عزز هذا التحول الجيوسياسي موقع إسرائيل، وضمن لها دعمًا قويًّا وغير مشروط تقريبًا من الولايات المتحدة وألمانيا، ودول غربية أخرى. لكن هذا الوضع الاستثنائي لا يُفسَّر بالجغرافيا السياسية وحدها؛ بل أيضًا بنجاح حملة طويلة الأمد تهدف إلى مساواة انتقاد إسرائيل والصهيونية بمعاداة السامية، وهي إستراتيجية تهدف إلى إسكات الأصوات الناقدة، وتفادي المساءلة، خاصة خلال فترات التصعيد العسكري ضد الفلسطينيين.

وقد حذّر كثير من الأكاديميين والصحفيين والسياسيين الإسرائيليين -منذ زمن- من تنامي النزعات الفاشية داخل المجتمع الإسرائيلي، وهي نزعات ازدادت بعد هجوم حركة حماس على جنوب إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2023. في المقابل، أطلق المجتمع الإسرائيلي، الذي بات كثيرون فيه لا يرون في الفلسطينيين بشرًا، حملة عسكرية شرسة على غزة. وقد وصف مراقبون محترمون -من مؤرخين وعلماء سياسة ومنظمات حقوقية- هذه العملية بأنها إبادة جماعية.

وفي هذا السياق، يُجرَّم حتى مجرد إظهار التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال؛ مما يكشف عن نزعات عنصرية مكشوفة داخل المجتمع الإسرائيلي. الصحفيون الأجانب ممنوعون من دخول غزة، والصحفيون الفلسطينيون، وكذلك الأطباء والمسعفون، يُستهدفون بالتصفية. وبينما تنشر إسرائيل مزاعم مروعة ضد حماس، تتلقفها وسائل الإعلام الغربية بلا تمحيص، فإن تحقيقات مستقلة -حتى من داخل إسرائيل- شككت في كثير منها، بل نفتها.

ورغم استمرار تبرير بعض الأوساط الغربية للسياسات الإسرائيلية، استنادًا إلى حجج دينية أو أيديولوجية، فإن النقد الدولي لإسرائيل في تصاعد مستمر، حتى في الولايات المتحدة؛ فقد أثارت أفعال الجيش الإسرائيلي في غزة موجة سخط واسعة، وأدت إلى تحوّل تدريجي في الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية. وفي محاولة لوقف هذا التحول، يكثف اللوبي الإسرائيلي جهوده لقمع النقاش الحر بشأن ما يجري في غزة.

تحت شعار “مكافحة معاداة السامية”، تلجأ حكومات غربية إلى أدوات قانونية وأمنية لتقييد حرية التعبير، دون التفرقة بين النقد المشروع لإسرائيل والتحيز العنصري ضد اليهود. وفي المقابل، يشارك عدد كبير من اليهود -ومنهم حريديم بارزون- في فعاليات التضامن مع الفلسطينيين.

يتجاوز تأثير إسرائيل نطاق السياسة الخارجية ليطول السياسات الداخلية في الدول الغربية. وتعمل منظمات، مثل “كاناري ميشن” و”بيطار” و”مشروع إستير”، على رصد بيانات الناشطين المتضامنين مع فلسطين، وأساتذة الجامعات، وموظفي التعليم، ونقلها إلى الجامعات والسلطات لاتخاذ إجراءات عقابية بحقهم، من الطرد إلى إلغاء التأشيرات، والاعتقال، والترحيل.

وقد ذهب الأمر إلى حد أن وزارة الخارجية الأمريكية نشرت تحذيرًا من “الأفكار غير القانونية” في موقعها الإلكتروني، وهو تعبير سُحب لاحقًا لعدم دستوريته، لكنه يعكس النهج القمعي المتصاعد. تُلغى التأشيرات، ويُحتجَز الأفراد، ويُحاكمون في ولايات أكثر تحفظًا لضمان إدانتهم، في حملة متواصلة لقمع المعارضة السياسية، لا سيما في ظل إدارة ترمب الحالية، التي تتبنى خطاب “إعادة العظمة لأمريكا”؛ تعبيرًا عن إدراكها فقدان الهيمنة المطلقة.

تستغل إسرائيل هذه اللحظة من الشك الذاتي في الغرب لتمرير سياسات قمعية تحت غطاء “مكافحة معاداة السامية”، وبمباركة ملايين الصهاينة، يهودًا ومسيحيين. وما إن تُطبَّع هذه السياسات، حتى يمكن تعميمها لقمع أي معارضة سياسية، خاصةً في ظل تصاعد التفاوت الاجتماعي، وتراجع العدالة الاقتصادية.

تتابع الشبكات المؤيدة لإسرائيل الناشطين المناصرين لفلسطين في العالم، ويمارس الساسة الممولون من اللوبي الإسرائيلي في واشنطن وباريس وسواهما نفوذًا واضحًا؛ ما يهدد أسس الديمقراطية، ويمس الحريات المدنية، وسيادة القانون. تصدر إسرائيل تقنيات متقدمة للمراقبة والسيطرة على السكان إلى دول أخرى؛ ما يوسّع من نطاق تأثيرها إلى ما يتجاوز حدود الشرق الأوسط.

إن الدولة الصهيونية -التي تمثل تجسيدًا معاصرًا للاستعمار الاستيطاني- باتت تهديدًا عالميًّا، ليس للاستقرار الدولي فحسب؛ بل للحريات الديمقراطية في العالم أجمع.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع